لكن ثمة من سبق دانتي والمعري بعقود عدة تقترب من التسعة أو ما يعادلها، وذاك السبَّاق إسمه لوقيانس السميساطي من مدينة منبج السورية، عاش في أوائل القرن الميلادي الثاني، وقد وضع كتاباً عنوانه “مسامرات الأموات” باللغة اليونانية، وهذا الكتاب يدرجه كثيرون في قائمة الكتب الأكثر تأثيراً في مرحلة النهضة الأوروبية الحديثة، وهو عبارة عن رحلة متخيلة إلى “العالم الآخر”، حيث تجري حوارات بين الموتى، ومن ضمنهم الإسكندر المقدوني وهنيبعل القرطاجي ـ الفينيقي، إذ أن كلاً منهما يرى عظمة ومجداً في نفسه أكثر من الآخر، وجاء في هذا الحوار:
ـ الإسكندر: أنا افضل منك أيها الأفريقي، أبي هو فيليبس، ثأرتُ له وأخضعتُ كل من وقف في طريقي.
ـ هنيبعل: أنا الأفضل لأني نشأت من العدم ونهضت بنفسي إلى العلا.
وعلى هذا القياس بين هنيبعل والإسكندر تجري عجلة التفاضل، مع ما يتخللها من تقاصف بالإنتقاص وتبادل بالإساءة، إلى أن يأتي قائد من “الخارج”، وتحديداً من مدينة روما، ليحكم بين الطرفين ولمن تعود إليه أفضلية المجد والعظمة.
بسهولة، يمكن إسقاط تبادل الإساءات بين الإسكندر وهنيبعل المرتبطة بالأفضلية، على وقائع الإنتقاصات المتطايرة بين الرئاستين الأولى والثالثة منذ الأسبوع الماضي والمتعلقة بصلاحيات كل منهما، فمن “الرسالة التلفزيونية” الشهيرة (17ـ3ـ2021) العائدة للرئيس ميشال عون والموجهة إلى الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري، مخيرةً إياه بين التشكيل أو الرحيل، وما أعقبها من رسالة حريرية مضادة في اليوم نفسه بإتجاه عون محددة له طريقين، إما التوقيع وإما إنتخابات رئاسية مبكرة، إلى يوم “الإثنين العظيم” الذي ظهرت فيه استمارة “إملأ الفراغ بالكلمات المناسبة”، وما قابلها من مقولة حريرية أيضاً “إن عمل الرئيس المكلف ليس تعبئة الأوراق ولا عمل رئيس الجمهورية تشكيل الحكومة”.
السؤال هنا: ما عمل رئيس الجمهورية وما عمل رئيس الحكومة؟
لا فائدة من الإجابة الدستورية، ولا من العودة إلى الدستور، وخصوصا مواده: 49 ـ 53 ـ 64 ـ 65 ـ 95، ذلك أن كل إجابة تأخذ من الدستور منطلقاً وقاعدةً وتوضيحاً وفصلاً بين متخاصمين، هي إجابة باطلة من قبل أحد “أبطال النزاع إذا لم تأت لصالحه ولم تخدم مصالحه، وعلى هذه الحال، وبسبب انزياح الحياة السياسية اللبنانية عموماً عن الأصول الدستورية، بات الدستور قاعدة لإنتاج النزاعات بدلاً من أن يكون قاعدة للحكم والإستقرار والإستمرار وأساساً لإدارة النظام السياسي.
يقول رئيس الحكومة الراحل تقي الدين الصلح، إن التباينات، بل النزاعات بين رئيسي الجمهورية والحكومة، مسألة لا مفر منها، وتدخل في سياق العاديات من الأمور، نظراً لإمتلاك كل منهما مزاجاً مختلفاً ونظرة مختلفة للحكم وممارسة السلطة
ما العمل؟
يقول رئيس الحكومة الراحل تقي الدين الصلح، إن التباينات، بل النزاعات بين رئيسي الجمهورية والحكومة، مسألة لا مفر منها، وتدخل في سياق العاديات من الأمور، نظراً لإمتلاك كل منهما مزاجاً مختلفاً ونظرة مختلفة للحكم وممارسة السلطة، إلا أن الذي يحول دون انفجار الخلافات بين الرئيسين قناعتهما المسبقة بالإستمرار معاً والتطلع إلى إطفاء عناصر الخلافات، نزولاً عند متطلبات المصلحة الوطنية، وبغير تلك القناعة، يستحيل تعايش عقلين ومزاجين.
رحم الله تقي الدين الصلح.
هي التسوية إذاً، ولكن ما ينطوي عليه مشهد التقاصف والتقاذف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، لا يؤشر إلى احتمال صياغة الحد الأدنى لتسوية مفترضة بينهما، وكأن من في القصر الجمهوري و”بيت الوسط” يرددون بالتوازي والتشارك هذا البيت من الشعر الذي قالته العرب قديماً:
الله يعلم إنا لا نحبكم / ولا نلومكم إن لم تحبونا.
في لحظة اشتباك سياسية، وكان ذلك في صيف العام 2019، نُسب إلى الوزير السابق جبران باسيل قوله “إن السنية السياسية جاءت على جثة المارونية السياسية”، وعلى الرغم من النفي الذي أعقب هذا “التسريب”، فإن وقائع الممارسات السياسية المتبعة من قبل “التيار الوطني الحر”، وما يرافقها من اجتهادات دستورية، تؤكد الرغبة بإستعادة جزء من صلاحيات رئيس الجمهورية المجيرة إلى مجلس الوزراء مُجتمعاً، وفقاً لدستور ما بعد “الطائف”، ولعل ما جاء في رسالة الرئيس عون التلفزيونية حين قال “أدعو الرئيس المكلف إلى قصر بعبدا من أجل التأليف الفوري للحكومة بالإتفاق معي”، تعكس الرغبة ذاتها التي تجتهد لتكريس شراكة التأليف وبما تعنيه من شراكة كاملة في السلطة التنفيذية، أو ربما ما يتعدى هذه الشراكة.
ذلك من حق “التيار الحر” أن يفكر كيفما شاء أو يتطلع إلى تحصين وتحسين حضوره في النظام والسلطة والدولة، ولكن هل هذا الأمر قابل للتنفيذ والتطبيق؟
بالنظر إلى تاريخ لبنان السياسي منذ استقلاله، إلى يومنا هذا، لم يحدث أن تغييراً أو اتفاقاً أو تسويةً او تعديلاً في الدستور، كان بمنأى عن رعاية الخارج أو إنتاجه، حدث ذلك إثر حوادث العام 1958، حيث تطلبت عوامل ضبط الواقع اللبناني الساخن، تسوية مشهودة بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر، وهو مشهد تكرر عام 1969 مع “اتفاق القاهرة”، وتجدد مع “اتفاقية الطائف” عام 1989، وتم إحياؤه مع “تسوية الدوحة” عام 2008، ولا يعني ما مرّ ذكره، سوى أن عناصر الضبط المحلي تحتاج على الدوام إلى عوامل خارجية ضابطة، ذلك من المؤسف، ولكن هذا هو واقع الحال.
والمؤسف مرة اخرى، أن “الخارج”، والمقصود شقه الإقليمي، تتزامن مرارته مع مرارات اللحظة اللبنانية المحتدمة، ولا ينبىء ذلك بغير إطالة مواسم الإحتدام المحلي، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
هذه هو الفصل الأول من فصول “الكوميديا اللبنانية”.
ماذا عن الفصل الثاني؟
حين جرت رياح الرئيسين إميل لحود ورفيق الحريري بما لا تشتهي سفنهما عام 1998، كان لا بد من الفراق، ولكن في الوقت نفسه كان ثمة خيارات متعددة أمام الرئيس لحود، خيارات غير محسوبة على “وزن الريشة” لإملاء موقع رئاسة الحكومة من دون نقصان أو فراغ، من بينها سليم الحص وعمر كرامي وغيرهما من هذا الوزن الرفيع والثقيل.
من يعترض على سليم الحص حتى لو عارضه؟
ومن يشكك بشرعية عمر كرامي شقيق رشيد كرامي وإبن عبد الحميد كرامي؟
إذا تم التوافق على أن الحكومات التوافقية تحمل العطب في نموذجها غير المشجع، فإن التطلع إلى نموذج آخر، قد يفتح شهية النقاش حول جدواه، وهذا النموذج قائم على حكومات الأغلبية التي تنتجها انتخابات عامة تفرز أغلبية سياسية تحكم وأقلية سياسية تعارض
في المشهد الحالي، تبدو الخيارات أقل من محدودة، بعضها مرفوض ولكن حضورها في الوسط الإسلامي السني فاعل وقائم، من مثل فؤاد السنيورة او نجيب ميقاتي او تمام سلام او نهاد المشنوق أو من يناظرهم، أو من يكون من تصنيع هذه الأسماء مثلما حدث مع مصطفى أديب او سمير الخطيب وغيرهما، أي الدوران في دائرة تقليدية، إلا إذا ذهبت الخيارات إلى خارج هذه الدائرة، وجيء بشخصية غير محسوبة على أعضاء النادي المذكور شبيهة برئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب، وبما يعني خيار الحكومة القلقة والمحاصرة في بيئتها.
هذا الفصل الثاني من “الكوميديا اللبنانية”.
في الفصل الثالث، نصوص وثيقة الإرتباط بمهلة التكليف، أي ما يعرف بـ”المهلة المعقولة” (Le délai raisonnable) لتشكيل الحكومة، إذ لا يعقل أن يقبض رئيس الحكومة المكلف على زمن التشكيل ويتركه مفتوحاً على المطلق، وإذ بات من المتداول أن الرئيس صائب سلام اعترض في “حوارات الطائف” على تقييد المهلة وتحديدها خشية أن يتحول الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة أسير مزاج أو موقف أو قرار رئيس الجمهورية، مما يعيد موقع رئاسة مجلس الوزراء إلى ما كان عليه قبل “الطائف”، فإن “اعتقال” الرئيس المكلف لورقة التكليف، ليس أمراً محموداً ولا معقولاً، ومثله أيضاً، “مصادرة” قلم التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة.
أين العطب وأين الحل؟
ـ في العطب أولاً:
لعل أول العطب في الحالة اللبنانية الراهنة، يعود إلى نموذج الحكومات التوافقية التي تم اتباعها منذ التسعينيات الفائتة، فالنموذج المذكور يتطلب نيل الرضا من كل القوى السياسية التي يفترض إشراكها أو مشاركتها في السلطة التنفيذية، وبما أن هذا الرضا صعب المنال، مثلما تؤكد تجارب التشكيل على مدى العقود الماضية، فإن المشاحنات والنزاعات تطغى على عمليات التأليف، وفي حال تم تذليلها، سرعان ما تنتقل إلى داخل مقاعد مجلس الوزراء في حال تم التوافق على تشكيل الحكومة، إذ مع كل مشروع قرار وجدول أعمال، تعود المشاحنات والخلافات إلى سابق عهدها، مما يحوّل الحكومات التوافقية إلى حكومات اللإنتاج واللاقرار، والنماذج اللبنانية والعراقية في هذا المجال أكثر من أن تعد وتحصى.
ـ في الحل ثانياً:
إذا تم التوافق على أن الحكومات التوافقية تحمل العطب في نموذجها غير المشجع، فإن التطلع إلى نموذج آخر، قد يفتح شهية النقاش حول جدواه، وهذا النموذج قائم على حكومات الأغلبية التي تنتجها انتخابات عامة تفرز أغلبية سياسية تحكم وأقلية سياسية تعارض.
هل يمكن نقاش هذا النموذج؟
قد لا يكون النموذج المذكور خاتمة تهبط من شاهق أو جبل وتضع حداً لـ”الكوميديا اللبنانية”، ولكنه قد يشكل مدخلاً لنقاش مستفيض حول كيفية البحث عن إعادة إنتاج السلطة بمنسوب أقل من النزاعات وبحدود ليست مشرعة على صراعات مفتوحة.
في الختام عودة إلى لوقيانوس:
يقول الرجل: “ما أفكار الأحياء إلا من أفكار الأموات”.
لو يأخذ السياسيون في لبنان بعضاً من أفكار اللبنانيين الذين باتوا على قارعة التسول والذل.
أوليس الذل موتاً غير معلن؟