إشكالية السلاح والسلطة والطوائف في لبنان.. من يحمي من؟

لطالما شكّل السلاح في لبنان محورًا مركزيًا للصراع السياسي والاجتماعي منذ منتصف القرن العشرين، فوجود السلاح خارج سلطة الدولة لم يكن مجرد استثناء بل أصبح قاعدة. هذه الدينامية تُهدّد بإعادة إنتاج الانقسامات الطائفية والسياسية وفتح الطريق أمام تدخلات خارجية متكررة.

تاريخيًا حافظت الطوائف والأحزاب اللبنانية على سلاحها لأسباب متعددة بدءًا من حماية نفسها وصولاً لتعزيز الحضور السياسي والاقتصادي وفي كثير من الأحيان لتنفيذ أجندات خارجية على الأراضي اللبنانية، من دون تجاوز واقع إنكشاف أهل الجنوب من الناقورة إلى العرقوب لعقود من الزمن في ظل تغول العدو الإسرائيلي من جهة وعدم توفر مظلة الحماية الرسمية للمواطنين أبناء القرى الأمامية من جهة ثانية.

وقبل أن تشتعل الحرب اللبنانية عام 1975 كان لبنان قد اختبر سلسلة محطات جعلت السلاح جزءًا من مشهده السياسي اليومي من شوارع بيروت المشتعلة في ثورة 1958 إلى مخيمات الفلسطينيين التي تحولت إلى قواعد مسلّحة بعد اتفاق القاهرة عام 1969 الأمر الذي كان يشي بأن البلد يسير بخطى ثابتة نحو انفجار كبير.. وحتمي.

من فورة عابرة إلى واقع دائم

لم يكن اللبنانيون قد اعتادوا رؤية الميليشيات في الأزقة بعد لكن صيف 1958 غيّر الصورة: بنادق محلية الصنع، دعم سوري ومصري للمعارضة، ولاءات مسيحية تحتمي بالجيش والرئيس كميل شمعون. لم يكن الأمر مجرّد خلاف سياسي. السلاح خرج إلى العلن والعالم شاهد قوات المارينز الأميركية تنزل على شاطئ بيروت لتمنع الانهيار؛ إلا أن التسوية أنهت الثورة لكن النار بقيت تحت الرماد.

جاء فؤاد شهاب في العام 1958 ليعيد للدولة هيبتها. الأجهزة الأمنية والمكتب الثاني أحكموا المراقبة والميليشيات التي وُلدت في 1958 جرى تفكيكها أو استيعابها، ولكن ذلك الضبط كان سطحيًا. الجيش نفسه كان محكومًا بتوازنات طائفية دقيقة تمنعه من فرض سطوة كاملة. في تلك الفترة، ظلّ الفلسطينيون في المخيمات تحت السيطرة وكانت الأحزاب اللبنانية تملك ما يشبه سلاح الزينة أكثر مما تملك ترسانة أسلحة حقيقية. الهزيمة العربية في حرب حزيران (يونيو) 1967 كانت نقطة تحول. حركة فتح والفصائل الأخرى حملت البندقية والجنوب المهمّش أصلًا منذ الاستقلال صار ساحة عمليات فدائية.

انفجر الانقسام اللبناني. اليسار والقوى الإسلامية رأوا في السلاح الفلسطيني أملًا في مواجهة إسرائيل وتعديل موازين القوى الداخلية (انهاء ما كان يُسمى “حكم المارونية السياسية”)، فيما دقّت القوى المسيحية ناقوس الخطر محذّرة من أن الدولة تفقد سيادتها تدريجياً.

وبعد اشتباكات عنيفة بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية في أكثر من مخيم في العام 1969، جاء الحل على طاولة القاهرة، برعاية جمال عبد الناصر. أعطى اتفاق القاهرة الفلسطينيين حق التسلح داخل المخيمات وحرية العمل الفدائي عبر الحدود. كان ذلك أشبه بقرار رسمي بعدم جعل السلاح حكرًا على الدولة اللبنانية وحدها. مع الوقت، أصبحت المخيمات الفلسطينية جزرًا خارجة عن السيطرة وبات الجنوب اللبناني مفتوحًا على مواجهات شبه يومية مع الاحتلال.

ما بدا في البداية فورة عابرة تحوّل إلى واقع دائم في بلد صغير تتقاسم أرضه وسلاحه قوى أكبر منه. لذا، لم يكن مفاجئًا أن ينفجر كل ذلك بعد سنوات قليلة فقط.

فائض القوة.. والإمساك بالسلطة

يُعتبر السلاح وسيلة لتعزيز الحضور السياسي للطوائف وحماية مصالحها الاقتصادية وينظر إليه كعنصر ضروري للبقاء والوجود داخل الصراعات الإقليمية مع ترسيخ عقلية فائض القوة. هذا الاحتفاظ بالسلاح خارج إطار الدولة يشبه إلى حدّ بعيد عمل العصابات المنظمة حيث يتم استخدام القوة لتحقيق مصالح محلية وشخصية بدل خدمة الدولة والمجتمع.

من منظور نظري تُعتبر سيادة الدولة على العنف والسلاح أساسًا لاستقرارها ووحدة أراضيها، أما وجود السلاح خارج إطار القانون فيُضعف الدولة ويُقوّض شرعيتها ويجعل القوى المسلحة غير الشرعية تخلق سلطات موازية، مناطق نفوذ، ما يُهدّد بفوضى مسلّحة تطيح بالاستقرار.

ويُشكّل السلاح خارج الدولة، بنظر فئة كبيرة من اللبنانيين، أحد أهم العوامل المؤدية إلى حرب أهلية أو إلى تقسيم لبنان، كما يعتبر البعض الآخر أن حصرية السلاح إذا لم تكن مقرونة بحماية المجتمع والحدود تُهدّد سيادة البلد، لكن بعيدًا عن الاصطفافات المختلفة، ليس خافيًا أن من يملك السلاح له القدرة على فرض إراداته السياسية والطائفية وهذا الأمر من شأنه تسعير دوائر العنف المتبادل بين الطوائف.

بعد اتفاق الطائف عام 1989 كان الهدف المركزي هو إنهاء زمن الميليشيات وحصر القوة العسكرية بيد الدولة باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لعودة الاستقرار وبناء مؤسسات الشرعية غير أنّ استثناء سلاح حزب الله تحت عنوان المقاومة مثّل ثغرة كبرى في هذا المسار إذ سرعان ما تحوّل من حالة استثنائية مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي إلى أداة سياسية وأمنية دائمة تتجاوز الحدود الوطنية نحو أجندات إقليمية مع انخراط الحزب في الحرب السورية دفاعًا عن النظام السوري (أيضاً في العراق واليمن الشمالي) وتماهيًا مع المشروع الإيراني. ومع الوقت ارتسمت صورة جديدة للبنان كدولة فاقدة للسيادة تتحكم بها قوة مسلّحة خارجة عن منطق الدولة.

إقرأ على موقع 180  إنّها "العَوْدةُ".. هلْ مَن يعتبر؟

وبعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000 بدأ السلاح يتجاوز مهمته المعلنة ليُستخدم في رسم التوازنات الداخلية ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث في 7 أيار (مايو) 2008 حين لجأ الحزب إلى سلاحه لإلغاء قرارات حكومية بالقوة فاجتاح شوارع بيروت وبعض مناطق جبل لبنان الجنوبي؛ هذه اللحظة شكّلت نقطة تحوّل إذ ظهر السلاح للمرة الأولى بوضوح كأداة لفرض إرادة سياسية داخليًا لا كسلاح مقاومة ومنذ ذلك التاريخ ترسّخ منطق القوة فوق الدستور وأصبح أي قرار سياسي خاضعًا لمعادلة ما يقبله السلاح وما يرفضه.

الضمانة تصبح تقويضاً

ومع اندلاع الأزمة السورية عام 2011 وجد حزب الله نفسه أمام تحدي حماية خط إمداده الاستراتيجي مع إيران عبر حماية النظام السوري.. وهكذا تورّط الحزب عسكريًا في الحرب السورية ما نقل دوره من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي إلى قوة إقليمية منخرطة في صراعات المحاور؛ هذا الانخراط لم يجرّد لبنان من حياده وحسب بل جعله شريكًا في حرب استنزاف إقليمية انعكست مباشرة على واقعه الداخلي، تدفّقاً للاجئين وتعميقًا لعزلة لبنان الدولية والإقليمية.

وبفعل فائض القوة تحوّل الحزب إلى فاعل مهيمن على مؤسسات الدولة، يستطيع تعطيلها حين لا تتوافق مع مصالحه من تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية لسنوات إلى فرض حكومات توافقية مشلولة إلى التدخل في القرارات السيادية والخارجية للبنان. صار السلاح عنصرًا مقرّرًا في الحياة السياسية وهذا الواقع أفقد المؤسسات شرعيتها وأضعف ثقة المواطن بالدولة ورسّخ صورة لبنان كدولة هشّة تتحكم بها قوة خارج إطار الشرعية.

لقد تحوّل السلاح الذي استُثني من اتفاق الطائف بذريعة مواجهة الاحتلال إلى عنصر تقويض للبنان من الداخل فبدل أن يكون ضمانة لتحرير الأرض أصبح أداة للهيمنة على القرار الوطني ومدخلًا لإلحاق لبنان بمحاور إقليمية لا تعنيه.

ومع “حرب الإسناد” (2023) وتداعياتها تبلورت معادلة خطيرة: سلاحٌ يُعطّّل الدولة ويعمّق الانقسام الوطني ويقود إلى انهيار اقتصادي واجتماعي متسارع. معادلة جعلت لبنان أسيراً بين الشرعية المعطّلة وفائض القوة المفروض ما يجعل أزمته الوجودية مفتوحة على المجهول.

السلاح في لبنان لم يكن مجرد أداة دفاع أو حماية بل أصبح محركًا مركزيًا للصراع السياسي والاجتماعي والطائفي ووسيلة لإرتهان الدولة للأجندات الخارجية الانقسامات الشعبية والسياسية حول السلاح.. وأي نقاش حول سيطرة الدولة يتطلب معالجة جذور الانقسامات الطائفية واستعادة احتكار الدولة للعنف كخطوة أساسية نحو الاستقرار والوحدة الوطنية.

ويشكّل سلاح حزب الله مثالًا واضحًا على استمرار هذه الظاهرة مع بعد ديني واستراتيجي يميزه عن بقية القوى اللبنانية؛ فالحزب ينظر إلى سلاحه ليس فقط كوسيلة للدفاع عن الطائفة الشيعية بل كأداة لمشروع ديني يستمد شرعيته من الولي الفقيه.

هذا السلاح خارج إطار الدولة يُكسبهُ شرعية معنوية في نظر أنصاره لكنه يعمّق الانقسام الوطني ويجعل الدولة اللبنانية هيئة رمزية ضعيفة أمام قوة غير مركزية.

يُشكّل أي سلاح خارج سلطة الدولة عنصرًا مركزيًا في الدينامية السياسية والاجتماعية والتاريخية للبنان سواء أُستُخدم محليًا لحماية الطوائف وتعديل التوزانات أو إقليميًا لخدمة أجندات خارجية؛ في المحصلة، أضعف الأمر الواقع الدولة الطرية العود وأجّج الانقسامات وخلق بيئة صالحة للنزاعات المستمرة. في ظل هذه الدينامية المعقدة، تتقاطع الأبعاد الدينية، الطائفية، السياسية والاجتماعية لترسم واقعًا يجعل الدولة اللبنانية أمام استحقاق تاريخي عليها أن تُثبت من خلاله قدرتها على استعادة احتكارها للعنف وضمان وحدة المجتمع والسيادة الوطنية وحماية الشعب اللبناني.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  مسؤولية النزوح السوري.. قصة إبريق الزيت!