“ثورة البندورة” (3)

هذا المقال، وهو الثالث في هذه السلسلة، هدفه الإحتفاء بذكرى مرور خمسمائة سنة على مجيء البندورة (الطماطم) إلى بلاد حوض البحر الأبيض المتوسّط.

البندورة من النباتات التي لها رواج كبير بحيث لا يمكن أن تغيب عن أي وجبة أو مائدة، ونأكلها على أنواعها وألوانها، وبأشكال وأساليب عديدة.

قصّة البندورة من القصص العجيبة. فيها الكثير من العبر لمن يتأمّل حضارة الطعام وكيف تتفاعل الشعوب مع بعضها البعض بحيث يأتي شخص بنوع جديد من الفاكهة أو الخضار أو التوابل أو ..، وينتج عن ذلك “ثورة” في عالم الطبخ والأكل.

***

في أوائل الحرب الأهليّة في لبنان، يُروى أنّ حواجز ميليشيات “الكتائب” اليمينية المُسلحة كانت تطلب من ركّاب السيّارات لفظ كلمة بندورة لتعرف ما إذا كانوا لبنانيّين (يلفظونها بَنَدوُورا) أم فلسطينيّين (يلفظونها بَنْدوره)، ووفق الجواب إما يصار إلى السماح لهم بالعبور أو يتم خطفهم وتصفيتهم!

وتُعرف البندورة في بعض البلدان العربية باسم “طَمَاطِم”، كما في مصر مثلاً. وكل من هذين الإسمين يشير إلى من أدخل نبتة البندورة إلى تلك البقاع. ففي بلاد الشام، الأرجح أنّ أوّل من أتى بها من مدن إيطاليّة، هم من كانوا يسافرون إلى تلك البلاد مثل التجّار والرهبان؛ ولذلك عرّفها أهل الشام بالـ”بندورة”، وهو تحوير لكلمة بومودورو (pomodoro) الإيطاليّة (والتي أصلها يعني “الفاكهة الذهبيّة”). وفي مصر، استخدامهم لكلمة “طماطم” يشي بأنّها أتت من إسبانيّا (في الإسبانيّة، تلفظ “توماتِ” tomate)، أو من فرنسا (“توماتْ” tomate).

***

من الرائج أن البندورة تم التعرف إليها في وسط القارّة الأمريكيّة وغرب أمريكا الجنوبيّة (أي المنطقة الممتدّة من وسط المكسيك إلى شمال التشيلي). أكلها أهل تلك البقاع (بمن فيهم شعب الأزتِك) لكن لم يتمكنوا من فكّ ألغازها. أمّا عند أهل بلاد البحر المتوسّط، وبعد فترة من التردّد (لأنّهم اعتقدوا أصلاً أنّ البندورة فيها مكوّنات سامّة)، أصبحت البندورة عروسة مطبخهم، ولا تغيب عن موائدهم (إلاّ في ما ندر).

يمكن أن نقول إنّ الله أخطأ بوضعه نبتة البندورة في القارّة الأمريكيّة، أو أنّه تقصّد ذلك عقاباً لأهلّ البحر المتوسّط القدماء الذين فضلّوا عليه آلهة الأشوريّين والمصريّين والكنعانيّين والإغريق والرومان وغيرهم. لكن عندما أتى بها الإسبان في أوائل القرن السادس عشر من المكسيك، ساعادوا في إعادة لمّ شملها بهم. والدليل على ذلك أنّ كل أطباق شعوب البحر المتوسّط لا يمكن التفكير بها من دون البندورة، وكأنّ من اخترعها كان يعلم يقيناً أنّ هذه الأطباق ينقصها البندورة وأنّها ستأتي يوماّ ما لا محال.

وبقدر ما كان أهل البحر المتوسّط بحاجة إلى البندورة، فهي أيضاً كانت بحاجة إليهم. من دونهم، لكانت بقيت فاكهة مغمورة، مطمورة في غياهب المستنقعات. وجدت ضالّتها في سكان منطقة البحر المتوسط ووجدوا فيها أنفسهم لأنّها أنقذت أطباقهم من خطر الضجر والملل وانعدام الشهيّة. في الواقع لم تتمكن أي مجموعة من الناس من فهم إمكانات البندورة مثل أهل البحر المتوسط. ويمكننا القول إنّ طريقة اعتمادهم على البندورة في أكلهم وأطباقهم تجعلنا نعتقد أنهم كانوا دائماً يزرعون تلك الفاكهة في حدائقهم وحقولهم منذ أيام أحيرام والإسكندر المقدوني وكليوباترا. ولكن في الواقع، عهدهم بالبندورة، كما قلنا سابقاً، هو عهد جديد نسبيّاً، مقارنةً بفواكه وخضروات أخرى.

دعونا نفحص طبخة اللوبيا بزيت، التي يدخل في مكوّناتها البصل والثوم. هل من الممكن لعاقل أن يأكلها من دون البندورة (وبعض الكمّون طبعاً). في رأيي المتواضع، هناك تكامل بين اللوبيا والبندورة والكمّون يجعل من هذا الطبق رائعة من روائع المطبخ (وأعني المطبخ اللبناني طبعاً كونه لا يُعلى عليه). ومع ذلك، فهناك من يصرّ على أكل اللوبيا بزيت من دون بندورة؛ ويمكن أن ننعتهم بأنّهم من جماعة “سلفيّة اللوبيا”، لإصرارهم على تراث أكل عليه الدهر وشرب (وسيكون للكمّون مقال خاصّ، كونه من التوابل السحريّة التي ساعدت المطبخ اللبناني في أن يصبح من أهمّ المطابخ العالميّة).

***

ميزة منطقة البحر المتوسط ​​مناخها المثالي لزراعة البندورة (فصل صيف طويل نسبياً، حار، وشبه جافّ)، بعكس الأماكن التي أتت منها أساساً والتي تكثر فيها المستنقعات والرطوبة. فازدهرت في بيئتها الجديدة وكبر حجمها وزاد طعمها لذّة (كان حجمها صغير في البداية مقارنة ببندورة اليوم). وأعطى هذا المناخ الجديد للطماطم حموضة مميزة جعلتها حقًا محببة للطهاة والذوّاقة.

لكن لسوء الحظ، فقد تم فقدان هذه الخصوصيّة الآن مع البندورة المزروعة تجارياً في الخيم وخارج موسمها الطبيعي. وتضرّرت أكثر مع التلاعب الجيني بها في المختبرات الزراعية الأمريكية (كما فعلوا مع البطاطا والعديد من المنتجات الأخرى) لتصبح مناسبة لاحتياجات المطاعم وسندويشات الهامبرغر ولتتحمّل النقل الطويل. وهذا ما نجده عادة في معظم البندورة التي نشتريها في هذه الإيّام، ولا نجد طعماً أو نكهة لها، في خارج موسمها. ولا يوجد طباخ ساحر، بغض النظر عن موهبته أو حجم قبعته، يمكنه أن ينجح في تحويل هذا المنتج الحقير الى طبق شهي. أمّا البندورة المزروعة بشكل سليم وفي موسمها (أي في فصل الصيف) فهي من روائع الطبيعة. في قرى لبنان الجبليّة، يعبدون البندورة البعليّة، أي المزروعة في تربة خصبة ولا تُروى إلاّ نادراً لاعتمادها على الندى.

إقرأ على موقع 180  ما بعد نتنياهو.. هل تتغير السياسات؟

هناك خلاف شبه فقهي على مدى تقبّل البندورة في بعض الأطباق، كما ذكرت سابقاً عن اللوبيا بزيت. والأمر ينطبق على تبّولة العدس: مذهب يبيح إدخال البندورة عليها، وآخر يحرّم ذلك تحريماً. وللأسف، ليس لدينا نص قرآنيّ أو توراتيّ أو أي قصص عن الأنبياء تساعدنا في حل هذه المعضلة.

وهناك تناغم أيضاً بين كرم نبتة البندورة وعبقريّة أهل البحر المتوسّط المطبخيّة في اختراع استخدامات جديدة لها بسبب ولعهم بها، كما نجد مع طبق كبّة البندورة والذي يستخدم البندورة بدل اللحمة (ولا أدري صراحةً إذا كان هذا الطبق معروفاً خارج لبنان). وعلينا أن نتصوّر هنا حجم التضحيّة كون كبّة البندورة تنسف كامل الأسطورة المؤسّسة لتمايز لبنان في ما يخصّ طبقّ الكبة النيّة والذي يتمحور حول لحمة الماعز أو الغنم. ويمكن للنباتيّين أن يجدوا ضالّتهم في هذا الطبق، أي كبة البندورة.

ودخلت البندورة أيضاً في تراث أهل البحر المتوسّط والذي نقلوه معهم إلى العالم الجديد منذ أواخر القرن التاسع عشر (وهم بذلك أعادوا البندورة إلى قارّتها الأصلية أحلى وأجمل من قبل). ونجدها في القاموس الفنّي حول العالم، كما في الأغنية الشهيرة لعملاقة وعملاق الجاز إيلا فيتزجرالد (Ella Fitzgerald) ولويس آرمسترونغ (Lois Armstrong) والمسمّاة “لننهي الموضوع” (Let’s Call the Whole Thing Off)، أي علاقتهما، لأنّ الخلاف حول لفظ الأشياء لا يمكن جسره. يقول لها لويس: “أنت تحبّين التوميتوز، لكن أنا أحب التوماتوز (you like tomeytoes and I like tomaatoes)، وقصد الأغنية السخرية من الفروق بين لهجة الإنكليز ولهجة الأمريكان (والأغنية من تأليف الأخوين جورج وأيرا غرشوين).

وهناك مثل آخر نجده في تسع لوحات – يطلق عليها مجتمعةً اسم “نبتة التوماتو” (Plant de tomates) – رسمها الفنّان العالمي بيكاسو في باريس في أواخر شهر تمّوز/يوليو وأوائل شهر آب/أغسطس من سنة 1944، أيّام قليلة قبل دخول جيوش الحلفاء للمدينة وتحريرها من النازيّين. رأى بيكاسو نبتة البندورة مُحملة بالثمار على شرفة المنزل الباريسي الذي كان يسكن فيه أثناء الحرب، فاستلهم منها حبّ الصمود والأمل. وللمفارقة، باعت شركة كريستيز (Christie’s) للمزادات واحدة من هذه اللوحات التسع في سنة 2006 بمبلغ يقارب الـ 13.5 مليون دولار.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك مهرجان لا توماتينا (La Tomatina) العظيم الذي يقام سنويّاً في مدينة بونيول (Buñol) الإسبانيّة منذ سنة 1945. وفي أمريكا، البندورة هي شعار بعض الولايات كنيو جرسي وأوهايو. وهناك أيضاً موقع البندورة المعفّنة (Rotten Tomatoes) والذي يركّز على تصنيف الأفلام السينمائيّة والبرامج التلفزيونيّة ومدى التقبّل أو الرفض الشعبي لها – إذا حصل الفيلم أو البرنامج على تصنيف أقلّ من 60%، يحصل على درجة الـ “مُعَفّن” (Rotten)؛ وجاءت الفكرة من عادة قيام المشاهدين برمي البندورة المعفّنة على المسرح إحتجاجاً على رداءة العرض الذي شاهدوه.

أمّا في لبنان، فـ”مهرجان” البندورة الوحيد الذي أعرفه هو عندما كان أهل قريتي (وقرى أخرى كثيرة) يُحضّرون رُبّ البندورة في شهر أيلول/سبتمبر. يبدأ الصباح وكلّ فرد من العائلة يجلس وراء طاولة، حاملاً في يده سكّيناً حادّاً ينهال به على الفاكهة المسكينة تقطيعاً وفرماً. وعندما ينتهي التقطيع، يُصفّى العصير من الشوائب ويبدأ طبخه لكي يتحوّل إلى رُبّ. وبعد ذلك يُترك الرُبّ ليبرد ثمّ يخزّن في أوعية زجاجية كبيرة حتى تكون جاهزة للإستعمال في الكثير من الأطباق طوال أيام السنة. والرُب لم يكن بحاجة لأي مواد حافظة، بعكس اليوم، لأنّ البندورة الأصليّة فيها كثير من الحموضة تساعد في حفظه من العفن.

***

يوماً بعد يوم، تزداد البندورة تألقاً. تتربع في مكان أثير. ألوانها تجعلها أكثر سحراً وجاذبية. ميزتها بساطتها وتعدد وصفاتها أما فوائدها فحدث ولا حرج.. ولو أن الأمر لا يندرج في سياق هذا المقال تحديداً. لذا أختم بالقول “للبحث صلة”.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  عن الإسلام السياسي الذي يُقَطّع شرايين حياة المشرق العربي (1)