في تركيا.. “نظام الأقفاص”، “غرف الإقناع” وتقبيل الأرجل!

لن يجد الباحث عن متعة رصد الظواهر التاريخية الغريبة ضالته إلا في تركيا حتماً. فهذا البلد مرّت عليه أحداث تاريخية غريبة ندر أن يمُرّ بها بلدٌ آخر؛ لذا، تبدو العلاج الأمثل للملل كما لكسر بعض تعقيدات الحياة اليومية.

“نظام الأقفاص” مثلاً هو واحدٌ من تلك الظواهر. ففي عصر السلطنة العثمانية، كان صراع الأخوة والأبناء داخل القصر هو الفيصل في بقاء سلطان من عدمه على رأس عرش تهون وتسيل لأجله الكثير من الدماء.

قدّم السلطان مراد الثالث (حكم بين 1574-1595) حلّه المبتكر، والقائم على فرض إقامة جبرية على إخوته ومعظم أبنائه في غرف مخصصة لهم داخل البلاط، ومنعَهم بشكل تام من الخروج من تلك الغرف، من دون أن ينسى تخصيصهم ببعض الخدم والخصيان والنساء العاقرات لخدمتهم. بهذه الطريقة، خفّ منسوب العنف بين أفراد العائلة الواحدة، هذا إلى حين وفاة السلطان واندلاع صراعات دامت ست سنوات بين أبنائه، فيما استمر “نظام الأقفاص” سائداً حتى نهاية السلطنة العثمانية.

تركيا بلدٌ غريبٌ لمن لا يعرفها. تاريخها غنيٌ جداً بالأحداث والوقائع، وأيضاً بـ”الخرافات العلمية”. واحدة منها هي تلك التي تتكلم عن اختراع طائرة وصاروخ عام 1633!

في “كتاب الترحال (Seyahat-name)” الذي يعتمده الباحثون الأتراك مصدراً علمياً في أبحاثهم التاريخية، يُذكَر إسم الطيّار العثماني “لاغاري شلبي”، والذي بحسب الكتاب قد أطلق صاروخاً بـ 7 أجنحة من صُنعه، واستخدم 140 رطلاً من البارود لإطلاقه من حي “سراي بورنو” الإسطنبولي نحو السماء. وعلى المنوال نفسه، ثمة رواية أخرى مذكورة ومتداولة في كتب تاريخية عن أخ “لاغاري شلبي”، ويُدعى “هزرفان”. تقول الكتب إن هذا الأخير صنع آلة تستخدم أجنحة من ريش الحيوانات للطيران بقوة الرياح، ونجح بالانطلاق من برج “غلطة” ليهبط في ميدان “دوشانجيلار” في “أسكودار” البعيد حوالى 3 كلم ونصف. هذه “الخرافات العلمية” تؤخذ على محمل الجد في الأوساط الأكاديمية التاريخية، وخاصة بعض من يدورون في فلك التيارات القومية. أما مصير “مخترع” الطائرة، أي “هزرفان”، فانتهى منفياً إلى الجزائر بسبب توجّس السلطان مراد الرابع من أعماله “الخارقة”!

كان عصمت اينونو متعجرفاً ومحباً لإظهار سلطته على الناس. تميّز بإجبار أنصاره على لعق وتقبيل حذائه في معظم المناسبات ذات الحضور الشعبي. كان يمرّ على المسرح ومظاهر التكبر والعجرفة بادية على محياه، ويتيح الفرصة للأتراك للتنعم بحذائه الأسود الملمَّع!

وبعيداً عن شؤون السلاطين، يبدو التعريج على غرائب الجمهورية التركية الحديثة أمراً لطيفاً في آن. مصطفى كمال “أتاتورك” هو بطل الاستقلال التركي، لكنه أيضاً “بطل” الغرائب والنكايات. فمن شدة بغضه للعقائد الإسلامية تبنى 9 أولاد، رداً على تحريم التبني في الإسلام. ومن شدة كرهه للزيّ الإسلامي، طلب إنشاء “بيوت الشعب”، وهي مراكز حزبية أقيمت في عشرينيات القرن الماضي في القرى والأحياء، حيث كان يُجبر الناس على الاستماع للمحاضرات التثقيفية والإيديولوجية، باستثناء يوم الجمعة. ومن الطبيعي ألّا يكون يوم الجمعة مخصصاً للصلاة حسب “أتاتورك”، إنما لرقص الباليه!

كان “أتاتورك” يُجبر النساء والرجال كل يوم جمعة ظهراً على التجمع في “بيوت الشعب” والاستماع للموسيقى وتعلم رقص الباليه، مع ما يرافق هذا الأمر من إضطرار النساء إلى خلع زيّهن الإسلامي التقليدي ولبس الأزياء المخصصة للرقص والمكشوفة على الرقبة والأذرع والأرجل. أما من تخالف النظام ولا تشارك في الرقص يوم الجمعة، فلا تُعاقب البتة، إنما تتم معاقبة مانعها المفترض، أي أبيها أو أخوها أو زوجها، وذلك بالسجن لبضعة أشهر.

لا تشذ غرابة تصرفات “أتاتورك” عن تصرفات خليفته “عصمت إينونو”. الرئيس الثاني للجمهورية التركية (1938-1950) وأحد أبطال حرب الاستقلال. كان متعجرفاً ومحباً لإظهار سلطته على الناس. تميّز بإجبار أنصاره على لعق وتقبيل حذائه في معظم المناسبات ذات الحضور الشعبي. كان يمرّ على المسرح ومظاهر التكبر والعجرفة بادية على محياه، ويتيح الفرصة للأتراك للتنعم بحذائه الأسود الملمَّع!

لا فروقات بين غرائب أطوار السلاطين والرؤساء وحتى المسؤولين العاديين. ففي بداية تسعينيات القرن الماضي، تزايدت قوة التيار النسوي الإسلامي الرافض للعلمنة والداعي إلى لبس الحجاب في الجامعات. رداً على هذا التيار، اخترع المسؤولون الأتراك في وزارة التربية ما أسموها “غُرف الإقناع”، وهي غرف تم تخصيصها في الجامعات لإقناع المحجبات بإزالة حجابهنّ عن طريق “الكلمة الطيبة” من جهة، كما التهديد بالطرد من الجامعة من جهة أخرى. كثيرات “اقتنعنّ” بعد مرورهن بتلك الغرف ريثما يُنهينّ سنوات دراستهنّ الجامعية، فيما إضطرت زميلات لهن للتوقف عن التعليم، لكن الملاحظ أن معظم الطالبات اخترنّ انتخاب رجب طيب إردوغان وحزبه بعد عدة سنوات للتخلص من سطوة العلمانيين.

نعم، تركيا بلد الظواهر الغريبة بامتياز، لا تكفي بضعة أسطر لذكر غرائب أطوار حكامها القدماء والحاليون، إلا أنها خيار ممتاز لمحاربة الملل بالقصص الغريبة والمثيرة في آن معاً.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": حقبة الهيمنة الأميركية على الخليج تقترب من نهايتها
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الإردوغانية تتمدد.. بقوة ضعف بديلها المفقود!