لم يسبق لإسرائيل ان تذوقت طعم الهزيمة على شاكلة ما حصل في حرب “طوفان الأقصى”، ولا تصح مقارنته بالذي حصل للواء 188 في “يوم الغفران” عام 1973، وإن تزامن التاريخ بعد خمسين عاماً ويوم، حيث تمّ حينذاك تدمير اللواء المذكور بالكامل تقريباً، لكن سرعان ما استعاد الجيش الإسرائيلي زمام المبادرة وأوقف الجيش العربي السوري قبل دقيقة واحدة من سيطرته على بحيرة طبريا. ويحتفل الإسرائيليون بذكرى بطولاتهم في تلك الحرب كل عام، وقبل يومين احتفلوا بالمناسبة على ضفاف بحيرة طبريا لما لها من رمزية في الوجدان الإسرائيلي بحضور وزير دفاعهم يوآف غالنت.
لم تغيّر “كتائب القسّام”، الجناح العسكري لحركة “حماس”، قواعد الاشتباك مع إسرائيل، إنما قلبتها رأساً على عقب، انتقلت من مرحلة الدفاع والرد على الإعتداءات الإسرائيلية إلى مرحلة الهجوم واحتلال المستوطنات، وبات يصح تسمية الجيش الإسرائيلي، عن حق هذه المرة، باسم “جيش الدفاع” لأنه استحال من جيش هجومي يبطش ويقتل ويحتل إلى جيش يتلقى الضربات وتُحتل ثكناته، وبات يحتاج إلى إعادة تأهيل حتى يعود جيشاً يستطيع الدفاع عن مستوطنيه.. وكيانه.
ليس من المغالاة القول بأن “حماس” حقّقت انتصاراً أمنياً واستخباراتياً وعسكرياً على الجيش الإسرائيلي، وذلك من الدقائق الأولى للهجوم البري والبحري والجوي والسيبراني. يكفي الاطلاع قليلاً على الصحافة الإسرائيلية لنتعرف على حقيقة ما جرى وما يدور في العقل الإسرائيلي.
وكانت مقالة جدعون ليفي في “هآرتس” الأكثر انتشارا لما تضمنته من نقد للغطرسة الإسرائيلية، وقال فيها “لقد أثبت بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين أنه من المستحيل سجن مليوني إنسان إلى الأبد، دون دفع ثمن باهظ. وكما هدمت الجرافة الفلسطينية القديمة المدخّنة بالأمس الجدار الفاصل، وأصابت مفهوم الردع الأكثر تطوراً بين كل الجدران والأسوار، إلا أنها مزقت أيضاً عباءة الغطرسة واللامبالاة الإسرائيلية. كما أنها مزقت فكرة أنه يكفي مهاجمة غزة بين المرة والأخرى بالطائرات الانتحارية بدون طيار، وبيع هذه الطائرات لنصف العالم، من أجل الحفاظ على الأمن”، وختم متوقعاً أن يتحمل بنيامين نتنياهو “مسؤولية ثقيلة جداً عما حدث، وعليه أن يدفع الثمن”.
بدورها، وصفت صحيفة “معاريف”، ما جرى بأنه “فشل استخباراتي كبير”، وقالت “ما جرى أكثر من مجرد انهيار استخباراتي”. فيما اعتبرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن هجوم حماس “هو فشل للحكومة”، وقالت “الازدراء طويل الأمد لـ”المنظمات الإرهابية” الوهمية، تحول هذا الصباح إلى كابوس يصعب الهروب منه وصدمة ستطارد الإسرائيليين لفترة طويلة”.
“حتى لو تطايرت رؤوس محمد ضيف وخالد مشعل ويحيى السنوار وصلاح العاروري وإسماعيل هنية وأصدقائهم، فلن يكفر عن العار. أخطر فشل أمني منذ يوم الغفران 73. وهذا لن يخفف طعم الهزيمة المر، ولن يخفف الصدمة من كثرة القتلى والمخطوفين”. لهذه النتيجة المرة والقاسية خلص الصحافي في “هآرتس” يوسي فيرتز.
وكتب نداف أيال في “يديعوت أحرونوت” أن ما جرى “كشف أموراً كثيرة عن أنفسنا. لقد اكتشفنا أن سلاح استخباراتنا الذي استثمرت فيه مئات مليارات الشواكل على مدى السنين والذي يعتبر فخر العقل الإسرائيلي البذرة التي نبتت منها صناعة التكنولوجيا العليا – لم ينجح في أن يوفر لدولة إسرائيل الامر الأكثر أهمية وحرجاً. الإخطار. التحذير من ضربة استراتيجية. بعد 50 سنة من مفاجأة أكتوبر 1973، بعد الفشل الذريع لشعبة الاستخبارات، فشل مرة أخرى”.
ويعتبر المحلل العسكري في “معاريف” آفي بنياهو أن “إسرائيل في خضم حرب صعبة بخصائص لم تكن تعرفها من قبل ومفاجأة كاملة مع عدد غير قليل من القتلى والجرحى والأسرى والمختطفين”. ويوافقه زميله المحرر العسكري عاموس هرئيل في “هآرتس” الرأي، ويقول “حماس جهّزت لهذه المعركة على مدار أشهر، وفي هذا الوقت، كان يدور في إسرائيل النقاش، ويترددون بشأن زيادة عدد العمال الغزّيين المسموح لهم بالعمل داخل الخط الأخضر”، ويشير إلى أن إسرائيل باتت اليوم أمام معضلة صعبة جداً، وثمة مسارات عديدة كلها صعبة المنال، أولها مفاوضات سريعة لابرام صفقة تبادل اسرى تسجل “حماس” لنفسها فيها انتصاراً معنوياً هائلاً وثانيها قصف جوي يصاب فيه آلاف المدنيين الفلسطينيين وثالثها تعزيز الحصار ما يمكن أن يحدث كارثة انسانية وتدخلاً دولياً ورابعها عملية برية ستوقع خسائر كبيرة في الطرفين وربما تفشل.
وأمام هول المصيبة التي وقع فيها الكيان، يقول يوسي فيرتز (هآرتس) إن “فريق نتنياهو يجهد نفسه لتحميل مسؤولية ما حصل للأجهزة العسكرية والأمنية، وهذا ما يعمل عليه المستشارون الدؤوبون في مكتب رئيس الوزراء الآن”. ويضيف “نتنياهو وأجندته المجنونة وغير الشرعية، إلى جانب حكومة الإرهاب التي أنشأها، والتي مزقت هذه الأمة، هي أحد الأسباب الرئيسية لِمَ نحن عليه الآن”.
ويعتبر إيهود ياعري في موقع “قناة N12” أن عملية حماس “هي جزء من مواجهة إيران لتطورات مسار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، لا سيما مع السعودية”، وأن “هجوم “فرحة التوراة” هو نموذج إيراني من مفاجأة حرب “يوم الغفران” قبل 50 عاماً. ويضيف “هذه الخطوة مدروسة ومنسّقة، وليست معزولة في جبهة واحدة فقط. هذا هو الهجوم الإستباقي الذي تقوم به طهران، باستخدام شركائها الفلسطينيين – ومن الممكن أيضاً حزب الله، مستقبلاً – وذلك بسبب الخطورة التي يرونها في التقدم الإسرائيلي- السعودي في اتجاه اتفاق”، ويقول الكاتب بأن إيران ترى أنه من شأن هذه الأحداث “أن يتخذ السعوديون خطوة أو اثنتين إلى الوراء، ويؤجلون، أو يعيدون درس خطواتهم من جديد”، ويؤكد ياعري بأن “الإيرانيين هم الذين يمسكون بالخيوط من وراء الكواليس، وحتى أنه يمكنهم تفعيل أذرعتهم على الحدود في الجولان”.
ويستخلص الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي كوفي ميخائيل أنه بات من الضرورة بمكان “إضعاف نفوذ إيران في الساحة الفلسطينية بسبب المعادلة القائمة”، ويرى أنه على الحكومة أن تعمل على تفعيل وتعزيز القوة الإسرائيلية وردع “حزب الله” وإيران ولاعبين آخرين يمكن أن يروا في هجوم “حماس” تأكيداً بأن الوقت نضج لمهاجمة إسرائيل من عدة جبهات، بهدف التسبب بانهيارها.
وكتبت عميرة هاس في “هآرتس”: “في يوم واحد، مرّ المواطنون في اسرائيل بما مرّ ويمر به الفلسطينيون طوال عشرات السنين كروتين يومي: اقتحام عسكري، قتل، وحشية، أطفال يُقتلون، جثث مرمية، حصار، خوف، خشية على مصير الأعزاء، أسر، مشاعر ثأر، التسبب بأضرار قاتلة جماعية بالمشاركين (الجنود) وغير المشاركين (المدنيين)، مكانة متدنية، هدم المباني وتدمير لعيد أو احتفال، ضعف وعجز أمام مسلحين أقوياء، إهانة وذل. يجب القول مرة أخرى: لقد قلنا لكم. القمع والظلم المتواصلان ينفجران في لحظة وفي مكان غير متوقعين. سفك الدماء لا يعرف حدوداً”.
باختصار، لا يمكن محو يوم السبت الفائت، والذي أسماه نتنياهو بـ”اليوم الأسود”، من ذاكرة ووجدان الإسرائيليين، لا سيما المقيمين في مستوطنات غلاف غزة، الذين لن يهنأ لهم بال بعد اليوم، مهما بلغت تحصينات العدو، سترافقهم صور قتلاهم وسحل جنودهم لتستحيل إلى كوابيس في الليل والنهار.. وتكبر المصيبة عندما نقرأ نتائج الإستطلاع الذي أجرته “معاريف” اليوم وجاء فيها أن 70% من الإسرائيليين يعتقدون بوجوب إعادة احتلال قطاع غزة! (المصادر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عرب 48، صحيفة “الأيام” والصحف العبرية).