بناء جدار برلين يُشعل الحرب الباردة (15)

بعد أن فشلت المحادثات بين الرئيس الأمريكي جون كينيدى والرئيس السوفيتى خروتشوف فى فيينا يونيو/ حزيران ١٩٦١ بخصوص وضع مدينة برلين بين الحلفاء الأربعة (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، والاتحاد السوفيتى)، وبينما لم يستفق كينيدى من هزيمة غزوة خليج الخنازير للإطاحة بفيدل كاسترو ورفاقه فى كوبا، بدأت أزمة جديدة تلوح فى الأفق بين المعسكرين الشرقى والغربى حول برلين!

بدأت الأزمة قبل ذلك بسنوات وتحديدا فى نوفمبر/ تشرين الثاني من عام ١٩٥٨ عندما بدأ يشعر الزعيم السوفيتى بخطورة الوضع فى برلين بعد هجرة مئات الآلاف من سكان برلين الشرقية حيث يتواجد النفوذ السوفيتى إلى برلين الغربية حيث التواجد الغربى العسكرى لأمريكا وبريطانيا وفرنسا!

فاتفاقية بوتسدام ١٩٤٥ بعد هزيمة النازى فى ألمانيا وانتهاء الحرب العالمية الثانية كانت قد نصت على تقسيم برلين بين الحلفاء المنتصرين وكذلك على حرية الحركة من برلين الشرقية إلى الغربية والعكس، لكن أعلن خروتشوف فى نوفمبر/ تشرين الثاني ١٩٥٨ رغبته فى إنهاء الاتفاقية وسحب القوات العسكرية من برلين بواسطة الأطراف الأربعة، ولكن وبعد رفض أيزنهاور ومعه باقى الحلفاء الغربيين، فقد صعد خروتشوف بإعلان مهلة لمدة ٦ أشهر للقوات الغربية لتنفيذ الانسحاب العسكرى، وإلا حاصر المدينة ونزع سلاحها بالقوة!

ولكن لأن هذا التهديد لم يأت بثماره حيث استمر الحلفاء الغربيون من موقفهم بالتمسك باتفاقية بوتسدام، فاضطر خروتشوف إلى سحب التهديد فى مايو/ أيار من عام ١٩٥٩، بل وقام بزيارة إلى الولايات المتحدة للتباحث بشأن القضية.

فى منتجع كامب ديفيد، لم تنجح المباحثات بين الزعيمين الأمريكى والسوفيتى حيث تمسك كل منهما بموقفه، واضطرا فى النهاية إلى إصدار بيان مشترك شديد العمومية يؤكد على مبدأ نزع السلاح فى كل مناطق التماس بين المعسكرين دون وضع أية تفاصيل أخرى تتعلق بالكيفية أو بجدول العمل، ومع نهاية المقابلة الفاشلة أعلن خروتشوف أنه وبينما يتفهم الموقف الأمريكى الذى عبر عنه أيزنهاور بخصوص أهمية برلين للشعب الأمريكى، إلا أنه عبر عن دهشته وعدم فهمه كيف أن مناداته لنزع السلاح وسحب القوات العسكرية من برلين يمكن أن يؤثر على الأمن الأمريكى كما ادعى الرئيس الأمريكى!

فلما تكرر فشل المحادثات التى أجريت فى فيينا ١٩٦١ هذه المرة بين خروتشوف وكينيدى، فقد بدا أن الأزمة فى طريقها للاشتعال مرة أخرى. فبينما كان كينيدى يعانى بشدة من الفشل الخارجى فى الأشهر الأولى من حكمه، قرر أن يتبع استراتيجية أكثر حزما مع الاتحاد السوفيتى، فأعلن فى خطاب للأمة فى يوليو/ تموز ١٩٦١ رفضه للنهج السوفيتى ومحاولة إنهاء اتفاقية بوتسدام من طرف واحد، مهددا بالتصعيد العسكرى، بل وأعلن طلب زيادة الميزانية العسكرية الأمريكية بـ٣.٢٥ مليار دولار، لتصل الأنباء إلى خروتشوف فيقرر عبر وسطاء إرسال رسالة لكينيدى بأنه يرفض هذا التصعيد وإلا قام بالتصعيد هو الآخر!

أظهرت الوثائق التى تم الإفراج عنها بعد ذلك الخوف الأمريكى الكبير من أية مواجهة عسكرية / نووية محتملة مع الاتحاد السوفيتى والاضطرار للقبول بالحائط على أساس أنه أقل الأضرار مقارنة بقيام حرب عسكرية قد تشمل استخدام أسلحة دمار شامل!

لم يكن تصعيد كينيدى مجرد تهديد، ولكنه قاد محادثات ثلاثية مع فرنسا وبريطانيا فى باريس للتباحث بين وزراء خارجية الدول الثلاث بشأن رد فعلهم حال قيام الاتحاد السوفيتى بتوقيع اتفاقية من طرف واحد مع ألمانيا الشرقية، وحينما تم تسريب معلومات استخباراتية بشأن اجتماع باريس، فقد فتح خروتشوف خطا ساخنا مع ألمانيا الشرقية للبحث فى خيارات التصعيد، بعد أن ألقى خطبة حذر فيها من خطورة أية مواجهة نووية محتملة!

فى ١٢ أغسطس/ آب ١٩٦١، وبعد التنسيق مع الاتحاد السوفيتى، أصدر عمدة برلين الشرقية قرارا ببناء حائط برلين ليفصل بين شطرى المدينة، وخصوصا بعد أن وصل عدد طالبى اللجوء من برلين الشرقية إلى برلين الغربية إلى ١٥٠٠ يوميا بدءا من أغسطس/ آب، بل وبعد خطبة خروتشوف وتلويحه النووى، فقد ارتفع عدد اللاجئين إلى ٢٢٥٠ يوميا، مما دفع ألمانيا الشرقية لبناء الحائط، وعلى مدار يومى ١٣ و١٤ أغسطس/ آب بدأت عملية قطع الحدود بين برلين الشرقية والغربية وبدأ بناء الحائط بطول ١٦٠ كلم لتطويق برلين الغربية من كل الجهات، وخوفا من أى تصعيد غربى، فقد قامت القوات السوفيتية بالتقدم نحو برلين لاستعراض القوة ومنع أى تحرك غربى عسكرى محتمل أو التصرف مع أى تمرد لسكان برلين الشرقية، وفى رد فعل مباشر أعلن كينيدى استدعاء ١٥٠ جنديا احتياطيا وهدد برد فعل عسكرى فبدا أن الطرفين بالفعل على وشك المواجهة المباشرة!

على مدار الشهرين التاليين، وبرغم أن ألمانيا الشرقية لم تمنع الحركة تماما بين برلين الشرقية والغربية ولكن بشرط المرور عبر النقاط الحدودية إلا أن هذه الإجراءات استفزت الدبلوماسيين الغربيين الذين رأوا أن إيقافهم وتفتيشهم على الحدود هو خرق مباشر للاتفاقية الرباعية سالفة الذكر، وفى ٢٢ أكتوبر/ تشرين الأول تحديدا وحينما حاول قائد القوات العسكرية الأمريكية فى برلين الغربية العبور بسيارته (بلوحات عسكرية) إلى برلين الشرقية تحت دعوى حضور عرض سينمائى، فتم منعه بواسطة أمن الحدود لألمانيا الشرقية (نقطة عبور تشارلى الشهيرة)، لتشتعل وتيرة الأزمة بين الطرفين الأمريكى والسوفييتى، حيث قام الإتحاد السوفيتي بتحريك دباباته نحو الحائط من جهة الشرق فرد الأمريكان بالفعل نفسه من جهة الغرب وأصبح يفصل بين القوات العسكرية للطرفين أمتار معدودة، وبدا أن الحرب أصبحت مسألة وقت بالفعل!

إقرأ على موقع 180  حرب أوكرانيا.. نقترب من الشتاء النووي أم الخيار الصفري؟

إلا أنه ولتجنب حرب مجددة قد تشعل صراعا نوويا بين الأطراف، فقد تم فتح قنوات دبلوماسية بين الأمريكان والاتحاد السوفيتى مجددا، حيث طالبت أمريكا فى البداية بهدم الحائط، ولكن أمام الرفض المستمر من الجانب السوفيتى اضطرت أمريكا للاكتفاء بالتباحث حول من يسحب قواته أولا، فقام الاتحاد السوفيتى بتحريك الدبابات قليلا إلى الوراء، ثم رد الجانب الأمريكى بالتحرك بدوره قليلا بعيدا عن الحائط، ليتم حلحلة الأزمة وتجنب المواجهة العسكرية المحتملة، لكن ماذا كانت تعنى هذه الأزمة والطريقة التى انتهت بها؟

***

كانت الأزمة فشلا جديدا لكينيدى (بعد فشل عملية خليج الخنازير فى كوبا) والذى اضطر للقبول بسياسة الأمر الواقع فى برلين التى فرضها عليه الاتحاد السوفيتى، وقد أظهرت الوثائق التى تم الإفراج عنها بعد ذلك الخوف الأمريكى الكبير من أية مواجهة عسكرية / نووية محتملة مع الاتحاد السوفيتى والاضطرار للقبول بالحائط على أساس أنه أقل الأضرار مقارنة بقيام حرب عسكرية قد تشمل استخدام أسلحة دمار شامل! وهو ما بدأ تشكيل ما تم تسميته لاحقا بسياسة الردع النووى، أى امتلاك السلاح النووى والتهديد باستخدامه لردع الخصم عن القيام بعمل عسكرى مقابل.

كان حائط برلين هو إحدى علامات الفصل السياسى والعسكرى والأيديولوجى بين المعسكرين الغربى والشرقى لمدة ما يقرب من ثلاثة عقود لاحقة، حيث كان انهياره فى ١٩٨٩ إعلانا رسميا بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى، لكن هل كان بناء حائط برلين نهاية لاشتعال المواجهات السياسية مع احتمالات الدخول فى حرب بين الطرفين؟

الحقيقة أن أزمة بناء الحائط كان مجرد حلقة فى سلسلة مواجهات تالية، وهذه المرة كانت العودة إلى كوبا لمواجهة جديدة نتناولها الأسبوع القادم.

(*) ملحوظة: اعتمدت مقالة هذا الأسبوع على رصد تطور الأحداث بواسطة تقرير بعنوان «التاريخ المختصر لأزمة برلين ١٩٦١» المنشور بواسطة الباحث نيل كارمكيل، من إدارة الوثائق والأرشيف على الموقع الرسمى للمركز الوطنى لرفع السرية National Declassification center. (غير محدد سنة النشر).

(**) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  عن عالم لا ينقصه ذكاء إصطناعي