لم يعد الوقت وقت الحديث عن انحدار فرنسا، بل عن هبوطها إلى مرتبة دُنيا، وربما اختفائها بالكامل من ساحة القضايا العالمية الكبرى. لقد تبيّن، مجدداً، إثر الهجوم الذي شنته حركة حماس1 على إسرائيل، إقصاء فرنسا عن الشرق الأوسط. لم يعد بلدنا يلعب أي دور ملموس في المساعي الرامية للخروج من الأزمة لأنه؛ منذ سنوات عديدة؛ لم يعد يعتبر نفسه معنياً بالنشاط في هذا الملف.
في مقال نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، يحكي لنا جان بيار شانيولو، وهو رئيس مركز أبحاث فرنسي، كيف حاول مؤخراً أن يثير مع “دبلوماسي هام” في قصر الإليزيه موضوع النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. وكيف أن الأخير سأله، وبشيء من السخرية: “هل ما زلت تهتم بهذه المسألة”؟
عندما ندرك أن الدبلوماسي رفيع المستوي هذا هو في حقيقة الأمر عضو في الخليّة الدبلوماسية التابعة للرئاسة الفرنسية، ندرك حينها جسامة المشكلة.
بدءاً بالبلاغات التي تُعرب عن الأسف والتعاطف مروراً بالإدارة المهنية البحتة لشؤون الرعايا الفرنسيين في محنتهم ومعاناتهم، عبر “مركز الأزمات” في وزارة الخارجية، إلى الموافقة على المبادرات الدبلوماسية الصغرى الآتية من الآخرين: ذاك هو، في نهاية المطاف، دور قوة أوروبية وسطى لم تعد تقبض على ناصية القضايا العالمية على الإطلاق.
بعد شيراك.. صحراء مقفرة
في عهد جاك شيراك كان لفرنسا من دور محوري في حل الأزمات في الشرق الأوسط: إبّان عملية “عناقيد الغضب” التي شنتها إسرائيل على لبنان في نيسان/أبريل 1996، قرر الرئيس الفرنسي على الفور إرسال وزير خارجيته إلى المنطقة، مبعوثاً بمهمة “الحصول على وقف القتال والسعي لتفاهمات تضمن أمن الأهالي على طرَفَيْ الحدود اللبنانية”. ورغم العراقيل التي وضعها الطرف الأميركي آنذاك، كانت مساهمة فرنسا مؤثرة في الخروج من الأزمة.. وفي مراقبة وقف إطلاق النار. وفي حرب تموز/يوليو 2006، كان للمساهمة الفرنسية الدور الفاعل في التوصل إلى القرار 1701 الذي تبناه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 11 آب/أغسطس 2006 والذي كان من شأنه وضع حدٍّ مؤقتٍ.
بين العامين 2002 و2003، نجح النشاط الدبلوماسي الفرنسي، بمساندة الغالبية العظمى من المجتمع الدولي بسحب الغطاء القانوني عن الحرب الأميركية على العراق. ولقد اتضح صواب الرؤية التنبؤية لشيرك حول ما ستجره تلك الحرب من زعزعة شاملة لاستقرار المنطقة (…).
كيف وصلنا اليوم إلى هذه الكارثة الدبلوماسية الملفتة للنظر من حيث سرعتها، المتجلية بشكل خاص في الشرق الأوسط، والبادية مع ذلك في سائر المناطق؟
يمكننا تشخيص عدة أسباب لها، ومنها أجواء انعدام الثقة بفرنسا في المغرب العربي. لا بد أن نتذكّر كيف كان شيراك يحظى بالمحبة والاحترام في كل من المغرب والجزائر وتونس. أما اليوم فالبلدان المغاربية الثلاثة تنتظر بفارغ الصبر أن تُطوى صفحة ماكرون.
بالعودة إلى الشرق الأوسط، فالتحرك المسرحي الذي قام به ماكرون إثر الانفجار في مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس لم يسفر عن أي نتيجة تُرتجى. فالرئيس الفرنسي كشف عن جهله للعادات والتقاليد المرعية في بلد من المفترض أنه مقرب من فرنسا (…).
الخَلَف يكمل عمل السَّلف
تشاهد فرنسا، دونما حراك، ومنذ عدة سنوات، الاضطرابات الكبرى الجارية أمام أعينها في العالم. لم يعد صوتها مسموعاً، بل والأسوأ من ذلك، لم يعد أحد ينتظر هذا الصوت. لقد قتل ماكرون، وقبله فرانسوا هولاند، السياسة الخارجية الفرنسية التي كانت تسير في خطى شارل ديغول.
قد يبدو من الغرابة بمكان الجمع بين هولاند وماكرون، فالرجلان مختلفان على الصعيد الشخصي، إلا أن ماكرون، في مضمار السياسة الخارجية، كان الخَلَف الذي أكمل عمل السَّلف من حيث الفشل الذريع. فما هي العوامل المشتركة بينهما والتي فعلت فعلها؟
ثمة عوامل أخرى لعبت دورها في هذه الاستمرارية بين الرئيسين الأخيرين. فالدبلوماسيون إيّاهم ظلوا يديرون دفة الأمور، متأثرين بانتمائهم للحزب الاشتراكي، والعديد منهم مقرب من جان إيف لو دريان، الذي شغل منصب وزير الدفاع والخارجية في ولاية هولاند، وتابع عمله في عهد ماكرون. ولقد استحوذت فئة قليلة من الدبلوماسيين، ممن لا يملكون خبرة فعلية في الشأن الخارجي (…). تجدر التنويه أولاً بالانعدام الكامل للخبرة في مجال العلاقات الدولية لدى وصول كل منهما الى سدَّة الرئاسة في حين أن السياسة الخارجية ليست مسألة إبداع. لا يكفي ابتلاع المذكرات (…).
جميعنا نذكر التهور الحربي لدى هولاند ولودريان في استعدادهما لقصف سوريا عندما قيل إن النظام السوري استخدم الأسلحة الكيماوية (…). وأسوأ ما في الأمر أن هذين المحاربين عن بعد لم يتمكنا من تزويد القوات الفرنسية بالقدرات الكفيلة بقيامها بمهامها، وهي المهام التي لم تحدد بوضوح أصلاً، والتي كان يعوزها العتاد المناسب (…).
من وجهة نظر المؤسسات، لقد عمل هولاند وماكرون على ترسيخ الانحراف الذي بدأ في عهد ساركوزي والذي يعتبر خللاً جسيماً في إدارة دفة السياسة الخارجية، ألا وهو السلطة المطلقة الممنوحة للخلية الدبلوماسية التابعة لرئاسة الجمهورية وإخضاع دوائر الخارجية وخبراتها لها، بل وتهميشها (…).
بعيداً جداً عن الشرق الأوسط
لقد وَأَدَ هولاند بكل بساطة سياسة فرنسا في الشرق الأوسط، واضعاً حداً للنفوذ الفرنسي القوي في هذه المنطقة. ولقد كان موقفه المتسم بالاختلال التام في التوازن، في 9 تموز/يوليو 2014 بصدد الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، قد طبع الأذهان، برغم محاولاته اللاحقة للعودة عنه. فإبان العملية الانتقامية الإسرائيلية التي اعتبرت غير متناسبة إطلاقاً في الحجم مع صواريخ “حماس”، لم ينبس هولاند ببنت شفة واحدة بشأن الضحايا الفلسطينيين الذين بلغوا 1500 مكتفياً بتأييد قوي للدولة العبرية. يتضح هنا مرة أخرى تأثير تلك النزعة المتأصلة في موالاة إسرائيل والتي ورثها من التحالف بين الحزب الاشتراكي الفرنسي وحزب العمال الإسرائيلي، ويبدو أن هولاند لم يتنبّه الى كون الحزب العمالي قد اختفى من الوجود في إسرائيل وأن شهادة براءة الذمة التي يمنحها إنما تذهب الى شخصية مشبوهة: نتانياهو.
أما ساركوزي فلم يقع في الفخ. ففي حين كان يُعتبر موالياً بشدة لإسرائيل في بداية ولايته، إلا أنه استطاع، مع اكتشافه شيئاً فشيئاً لخداع بنيامين نتانياهو واستحالة الوثوق به، أن يتوصل الى موقف أكثر توازناً. كما أن الملف الإسرائيلي- الفلسطيني احتفظ بأولويته في عهده. ولقد قام كل من هولاند وماكرون من ناحيتهما بدفن الملف تماماً كما كانوا قد دفنوا سياسة فرنسا التي بدأها الجنرال ديغول ورفع شيراك رايتها عاليةً.
تتمثل الاستراتيجية الجديدة التي تبناها هذان الرئيسان في اعتبار إسرائيل “دولة يهودية” تتمتع بصفة تمثيل المجموعات اليهودية أينما كانت في العالم، ومن ضمنها فرنسا. ولقد تجلى المغزى التعيس لهذا الانزلاق في 16 تموز/يوليو 2017 عندما دعا ماكرون نتانياهو للمشاركة في إحياء ذكرى اعتقالات اليهود في “الفيل ديف”2، كما لو أن صفة اليهودي تطغى على صفة الفرنسي بالنسبة لهؤلاء الضحايا المساكين. ويكون ماكرون بذلك قد جعل من إسرائيل الممثل الرسمي للطائفة اليهودية الفرنسية (…).
أما اليوم، ففرنسا دولة معزولة على الصعيد العالمي، فلا هي تستطيع أن تكون قوة رائدة في أوروبا تحشد الأوروبيين وراءها، ولا هي قادرة على التأثير على مجلس الأمن للأمم المتحدة باتجاه تبني القرارات. بل إن نفوذها داخل الجمعية العامة قد انهار وبشكل منطقي للغاية، بحكم فقدانها لمساندة حلفاء الأمس من أفارقة ناطقين باللغة الفرنسية ودول عربية. وليس لماكرون أي علاقة مميّزة مع أي رئيس دولة على الإطلاق، وقد غاب عن المشهد من ناحية أخرى ما كان يسمى بالثنائي الفرنسي-الألماني. لقد تم تحجيم نفوذ فرنسا على الساحة الدولية، فباتت تنحصر فيما تمثله كبلد على نطاق الكوكب، فهو ليس بالأمر الكبير. ما نشهده اليوم هو التراجع المتزامن لنفوذها السياسي ولرصيد التعاطف معها. وسيكون من الضروري العمل على إحياء هذا الرصيد، قبل أن نأمل قلب الموازين، والنهوض بالنفوذ السياسي.
(*) إروان دافو، دبلوماسي فرنسي سابق، وكان مرشح حزب “الجمهوريين” في الانتخابات النيابية الأخيرة.
(**) للإطلاع على النص كاملاً، راجع موقع “أوريان 21“