اليسار العربي المهزوم، فلسطين تُوحّدهُ.. ماذا بعد؟

Avatar18008/11/2023
اليسار العربي هُزم وقواه واهنة ومنقسمة حول كل القضايا بإستثناء فلسطين. لكن أشباحه لا تزال حاضرة، وإعادة بنائه يفتح آفاقاً للمستقبل"، بحسب تقرير لموقع "أوريان 21" للكاتب نيكولا دوت بويار(*)

استحالت جماعات اليسار في العالم العربي إلى ما يُشبه الأنقاض، مع تفاوت في درجة صمودها (…). وباتت، منذ اشتعال الأزمة السورية في 2011 وصعود الإسلام السياسي، منقسمة حول كل القضايا، إلا واحدة: القضية الفلسطينية.

في تموز/يوليو 1994 سقطت آخر جمهورية اشتراكية في الوطن العربي، جمهورية اليمن الجنوبي. كما أن “اليسار العربي الجديد”، الذي علا نجمه في السبعينيات وكان مُستوحى أحياناً من “الماوية” وأحياناً قليلة من “التروتسكية”، قد تم احتواؤه منذ وقتٍ طويل من خلال السلطوية التي نشأت في أعقاب حركات الاستقلال، ومن خلال استراتيجيات مكافحة التمرّد المدعومة من إسرائيل والبريطانيين (كما حدث في عُمَان أثناء التمرّد الماركسي في ظفار)، أو من خلال صعود الإسلام السياسي الذي سلب اليسار منذ نهاية السبعينيات توجّهاته المناهضة للإمبريالية.

طوال فترة السبعينيات، حشدت الملحمة القومية الفلسطينية في الأردن ولبنان “أممية فلسطينية” حقيقية من مئات المقاتلين المغاربة والتونسيين والعراقيين والمصريين، معظمهم أعضاء في الجماعات الماركسية. وحفرت منظمة التحرير الفلسطينية خندقها في اليسار اللبناني بقيادة كمال جنبلاط (1917-1977) والحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي (…). بمرور الوقت، أصبحت للطوباوية الإسلامية الأفضلية على الطوباوية الاشتراكية، والأهم أن نماذج التنمية التي كانت سائدة أستُبدِلت بالنموذج التجاري للاقتصادات الريعية في إطارٍ ملكي، فيما يُدعى “مرحلة دبي في الرأسمالية”(…).

هل انتهت القصة؟

من المؤكد أن اليسار العربي هُزِم، ومع ذلك فإن أشباحه لا تزال حاضرة. ففي أعقاب سقوط الرئيس التونسي بن علي، في كانون الثاني/يناير 2011، كانت الجبهة الشعبية الهشّة التي تشكّلت حول كُبرى عائلات اليسار الراديكالي التونسي محور ديناميات انتخابية حقيقية. وكان المنتدى الاجتماعي العالمي الذي انعقد في آذار/مارس 2013 بمثابة فرصة نادرة لربط عدد من الحركات العربية التقدّمية بالحركات اليسارية الجديدة المناهضة للعولمة.

وفي مصر، حصل الناصري حمدين صبَّاحي على 20% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية لعام 2012 ليحلّ في المركز الثالث، بعد أن حشد حوله النقابيين والناشطين اليساريين. ولا تزال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حاضرة على الخريطة السياسية الفلسطينية، وها هي تُقحم نفسها في عام 2023 في صراعٍ مسلّح وانتفاضة اندلعت في الضفة الغربية ضد المستوطنين وقوات الاحتلال الإسرائيلي. وفي لبنان، حشد الحزب الشيوعي مناصريه خلال الحراك الاجتماعي الكبير في خريف 2019 للمطالبة بإلغاء النظام الطائفي. كما أرادت حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” بقيادة وزير العمل السابق شربل نحّاس، أحد الوجوه المشهود لها بالنزاهة، أن تقدّم لشباب ثورة 2019  برنامجاً اقتصادياً وسياسياً عالمياً لإخراج لبنان من الأزمة المالية الطاحنة، إلا أنهم فشلوا جميعاً في الانتخابات التشريعية في أيار/مايو 2022 (…).

مواضيع لا تزال راهنة

من المؤكد أن هناك فجوة بين هذا التضخّم في الذكريات النضالية والحنين الثوري من ناحية، وبين الضعف البنيوي من ناحيةٍ أخرى. لكنها مسألة منطق: جيلٌ قديم ممّن شاركوا في كُبرى النضالات الاجتماعية والمناهضة للإمبريالية وكانوا شهوداً عليها، يرحلون عن دُنيانا الواحد تلو الآخر ويريدون أن يتركوا إرثاً معيناً في أعقابهم (…). ما زال أمام قراءة تاريخ نضال هذا التيار القديم الكثير من العمل، في عالمٍ عربي تتسع فيه الفوارق الاجتماعية. فمن المرجح أن تؤدّي مسألة ديون الدول العربية الخارجية والاعتمادية العسكرية وعقود الأسلحة المبرَمة مع “القوى العظمى” أو إدارة الحدود البحرية لوقف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا الغربية، إلى إعادة فتح النقاش حول برجوازيات “الكومبرادور” المحلية. إن العجز الحالي الذي يعاني منه اليسار العربي يتناقض بشكلٍ مؤسف مع الوضع الراهن للقضايا الرئيسية التي تشكّل محور نضالاته، ألا وهي مناهضة الإمبريالية والاستعمار والكفاح ضد الاستبداد والنضالات النسوية، ونزع الطائفية عن الأنظمة السياسية والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية.

فلماذا إذاً حالة الوهن التي تعيشها قوى اليسار في العالم العربي؟

هناك أسباب بنيوية، أهمها بلا شك سقوط الكتلة الاشتراكية في أوائل التسعينيات، لكنه ليس السبب الوحيد. لم يكن الأمر يتعلق بانهيار نموذج (نسبي) فحسب (كان الحزب الشيوعي اللبناني ينتقد بعض المواقف السوفييتية تجاه الشرق الأوسط منذ مؤتمره الثاني في تموز/يوليو 1968)، وإنما بالمكاسب المالية والعسكرية التي كانت تُفقَد (…).

لقد تعثّرت الاشتراكية العربية في الانقسامات البعثية في العراق وسوريا، في حين انتهت المثالية التنموية والاشتراكية الناصرية مع فترة حكم أنور السادات (1918-1981) الذي وقّع معاهدة سلام مع إسرائيل في آذار/مارس 1979. وبينما كانت المثُل الاشتراكية تفشل في كل مكان في نهاية السبعينيات، استطاعت الثورة الإيرانية في شباط/فبراير 1979، والتي أعقبها صعود حزب الله في لبنان والتيارات القومية الإسلامية في فلسطين المحتلة، الاستيلاء بسهولة على مناهضة الإمبريالية العزيزة على اليسار، لتنافسه في ملعبه الأيديولوجي والاستراتيجي (…).

معضلة الإسلاموية

فتحت الثورات العربية عام 2011 المجال على مصراعيه أمام قوى اليسار التي سرعان ما انقسمت حول موضوعين: الإسلام السياسي والأزمة السورية.

إقرأ على موقع 180  عمليات "الموساد": سولداتوف وشرطي لبناني يحميان عرفات (43)

لقد ظل الإسلام منذ نشأة الشيوعية العربية مسألةً بلا حل. فدائماً ما كان الشيوعيون العرب متّهمين من خصومهم المتديّنين بأنهم ملحدون متشدّدون. لكن لا تنقصنا تأمّلات وكتابات المفكرين الماركسيين العرب حول الإرث الثقافي والفلسفي الإسلامي، من الفلسطيني بندلي صليبا جوزي (1871-1942) صاحب كتاب “تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام”، إلى اللبناني حسين مروة (1908-1987) الذي ترك إرثاً يتمثّل في دراسةٍ ضخمة بعنوان “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”.

العجز الذي يعاني منه اليسار العربي يتناقض مع القضايا الرئيسية التي تشكّل محور نضالاته: مناهضة الإمبريالية والاستعمار، الكفاح ضد الاستبداد، النضالات النسوية، نزع الطائفية عن الأنظمة السياسية، السيادة الوطنية، العدالة الاجتماعية

بيد أن الإسلاموية تشكّل لليسار العربي مسألةً عصيّة على الحل أكثر من الإسلام. فالانتصارات المتتالية التي حققتها حركة النهضة التونسية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، ثم فوز مرشّح الإخوان المسلمين محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية المصرية في حزيران/يونيو 2012، أتاحت هيمنة الإسلام السياسي على الحكم لبعض الوقت، ودعت البعض إلى التغنّي أحياناً بمزايا الديموقراطيات المسيحية الألمانية والإيطالية القديمة، أو حزب العدالة والتنمية التركي الذي يتزعّمه الرئيس رجب طيب أردوغان. وفي تونس، لم يتردّد الاشتراكيون الديموقراطيون في “التكتّل الديموقراطي من أجل العمل والحرّيات” في تشكيل ائتلاف مع حركة النهضة من 2011 إلى 2014. لكن بعد اغتيال شكري بلعيد زعيم حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحّد (وطد) في 6 شباط/فبراير 2013، انقلب اليسار التونسي الراديكالي والماركسي ضد حزب النهضة. وفي مصر، انقسم اليسار المصري، بل والعربي حول موقفهم من الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي في تموز/يوليو 2013: هل يجب معارضة الانقلاب باسم الدفاع عن الحقوق الديموقراطية؟ أم الرهان على دينامية شعبية تنتقد الإخوان المسلمين وتدعم دينامية بونابرتية؟

منذ عام 2010، تشكّل مسألة التحالف مع الإسلاميين مصدر أرقٍ دائم لليسار العربي (تحالف الحزب الشيوعي العراقي انتخابياً مع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر في أيار/مايو 2018 لم يصمد طويلاً). إن اليساريين العرب بوصفهم أقلية يشعرون بأنهم في مأزقٍ أمام المسألة الإسلامية: هل الأفضل إقامة تحالف تكتيكي مع الإسلاميين حول القضايا التي توحّد المعسكرَين، أي مقاومة الإمبريالية (الأميركية) والاستعمار (الإسرائيلي)، وأحياناً الدفاع عن الحقوق الديموقراطية ضد الأنظمة الملكية و/أو الاستبدادية؟ أم يجب خوض صراع منهجي مع المتدينين حول قضايا العلمانية أو حقوق المرأة أو الطائفية؟

مع دمشق، أم ضدها؟

تظلّ الأزمة السورية ثاني القضايا الخلافية التي تقض مضجع اليسار العربي. فقد اتّهم الإخوان المسلمون اليسار العربي بتطوير نزعة موالية لاستبداد بشار الأسد. وفي سوريا نفسها، ينقسم اليسار إلى عدّة فرق (…). إن النقاش الذي تثيره الأزمة السورية لا يقتصر حول قضية الاستبداد فحسب، بل هناك أيضاً خلاف حول طبيعة الأنظمة الإمبريالية المعاصرة. بالنسبة للبعض، هناك إمبريالية واحدة فقط ألا وهي الأميركية، ولا يمكن مقارنتها بالصين أو روسيا أو حتى إيران، سواء من حيث الهيمنة أو فرض القوة العسكرية على المستوى الدولي، أو الهيمنة المالية والثقافية. وبالنسبة للبعض الآخر، فإن الدعم الروسي أو الإيراني أو حتى الصيني لسوريا الأسد يعكس بوضوح صعود إمبرياليات غزوٍ جديدة (…).

لهذا يبدو اليسار العربي اليوم ضعيفاً ومنقسماً. ومع ذلك، دعونا نذكّر بأن أزمته هي أيضاً جزء من سياق “اجتياح اليمين للعالم” وأزمات اليسار على المستوى العالمي: انقطاع أنفاس حركة مناهضة للعولمة واسعة النطاق كانت في أوج مجدها في بدايات القرن الحادي والعشرين، إن لم يكن اختفاءها، مجرد علامة واحدة من بين علامات أخرى. هذا لا يعني أن قوى اليسار لم يعد لديها ما تقوله عن العالم العربي والجغرافيا السياسية الإقليمية، وأن إرثها ضاع، وأنه لن يكون هناك من يخلفها. إن إعادة بناء الحركات النقابية في العالم العربي أو مراعاة الأبعاد البيئية (كما هو الحال في لبنان منذ عام 2015) تفتح آفاقاً جديدة في المستقبل. ولكن حتى يتحقّق ذلك، فإن الرابط الوحيد بين قوى اليسار العربي الواهنة يظل فلسطين: القضية الوحيدة التي لا خلاف عليها، وكأن مناهضة الاستعمار ودعم فلسطين هو الشيء الوحيد الذي ما زال يوحّد العالم العربي.

(*) نيكولا دوت بويار، ‎باحث مشارك في “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” في بيروت. ومؤلف: “تونس: الثورة وما سبقها”، و”من الدين إلى التحرير. تاريخ الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، و”الفسيفساء المشتتة. تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية 1993 – 2016″… والترجمة من الفرنسية إلى العربية للزميلة دينا علي من أسرة “أوريان 21”.

(**) للإطلاع على النص كاملاً، راجع موقع “أوريان 21“.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  فضيلة سريلانكا.. "معرصة" لبنان!