عام 1948
أذكر الدرس الأول كما عشت أذكر مختلف دروس الوالد وعظاته. صحيح ما يقال عن ذاكرة الإنسان حين تزداد لمعاناً وتدفقاً مع كل زيادة في سنين العمر. أذكر تفاصيل عن أحداث طرأت على حياتي ولم أتجاوز في حينها العاشرة.
أذكر مثلاً، وبفخر شديد، دقائق حديث جرى بيننا، الوالد وأنا، وكنا نمشي صباح يوم الجمعة كما جرت عادتنا في تلك الأيام لأداء طقوس هذا اليوم كالصلاة في مسجد الحسين وزيارة عم شقيق لأبي وعم آخر غير شقيق وكلاهما من كبار تجار الغورية وشارع فاروق. كان بين الطقوس زيارة محلات الدهان، ولنا بين أصحابها أصهار لأبي وأمي، وتناول الغداء جماعة في بيت من بيوت العائلة الممتدة من حارة الورّاق إلى بين القصرين والدراسة مروراً بالجمالية.
أذكر ما انطبع في ذاكرتي مما جاء في رسالة هذا اليوم من أيام الجمعة من عام 1948 لأنه الدرس الذي جاء في أعقاب أول مظاهرة سياسية أخرج فيها مع تلاميذ مدرسة الخديوى إسماعيل الثانوية ولم يتجاوز عمرى الثانية عشرة. شجّعني والدي وحذّرني من الاندفاع.
ما أزال فخوراً بما فعلته حفيدتي وقد رأيتها مرتدية عباءة فلسطينية، وفي الوقت نفسه، قلقاً، فقد يتهدد مشروعها العلمي للإلغاء فتصاب بإحباط يلازمها بقية عمرها، وأنا خير من يعلم حجم الجهد اللازم للتغلب على إحباطات العمل السياسي
فهمت بعد عقود بعض أسباب حماسة الوالد. إذ حدث قبل يومين أن اتصلت بنا حفيدتي من المدينة الأوروبية التي تدرس فيها وتتدرب، تحدثت إلينا بحماسة وكانت كعادتها متألقة وفخورة بدورها في تنظيم مظاهرة عارمة تندد بوحشية الإسرائيليين. لم أُخفِ عن الجالسين بجواري من المشاهدين للفيديو المرسل لنا من هذه المدينة الأوروبية معلومات أعرفها جيداً، وبخاصة ما أعرفه عن خوف سكانها من غضب المسئولين فيها إن نُمي إلى علمهم أن مواطناً أو غريباً يسكن بينهم أعلن تنديده أو استنكاره لجريمة أو جنحة ارتكبها يهودي على أرض بلادهم أو أي أرض غير أرضهم في الكون.
كان أبي فخوراً بما فعلت وفي الوقت تفسه قلقاً، فابنه صغير وقد يصاب بضرر إذا ساير الكبار في مظاهرة وبينهم من كانوا في العشرين من العمر. أنا أيضاً كنت وما أزال فخوراً بما فعلته حفيدتي وقد رأيتها مرتدية عباءة فلسطينية، وفي الوقت نفسه، قلقاً، فقد يتهدد مشروعها العلمي للإلغاء فتصاب بإحباط يلازمها بقية عمرها، وأنا خير من يعلم حجم الجهد اللازم للتغلب على إحباطات العمل السياسي وخير من يعلم في الوقت نفسه معنى ولذة الانغماس ولو للحظات في غمرة عمل من أعمال المقاومة ضد الظلم والقمع والكذب والاحتلال.
عام 1953
نظّمت فرقة الجوّالة بكلية التجارة رحلة كشفية لزيارة قطاع غزة. وقتها كان القطاع يخضع لإدارة عسكرية مصرية. أعود لأحكي هذه الحكاية لأنه تسنى لي من خلال هذه الزيارة التعرف للمرة الأولى على غزة وإسرائيل والفلسطينيين. أذكر وفي عجالة أننا خرجنا عن التوجيهات وعصينا أوامر قيادة الرحلة عندما قرّرنا، وكنت شخصياً بحكم طبيعتي وتشبث فضولي صاحب القرار؛ أربعة من شباب الكلية وشاب فلسطيني تعرفت عليه أثناء زيارة اليوم السابق لمخيم للاجئين، وكنت طلبت منه اصطحابنا إلى محل لتأجير الدراجات الهوائية وليدُلنا على الطريق المؤدي إلى خارج المدينة. تنفذ القرار وتوجهنا إلى نهاية الطريق عند حاجز حديدي يعلن بلغات ثلاث نهاية الطريق ووراءه أرض إسرائيل. صعدنا التل بدون دراجات إلى حيث موقع رأينا من هناك أسفل التل يطل على مستوطنة. عدنا في اتجاه الدراجات لنتلقى عندها زخات من رصاص الرشاشات وأوامر بمكبرات الصوت تأمرنا بالاستلقاء أرضاً. نزلوا إلينا رجالاً ونساءً في ثياب عسكرية وثياب البحر وثياب مدنية واصطحبونا إلى داخل المستوطنة، كلٌ منا في غرفة مستقلة مع حارس يتحدث العربية وكان نصيبي من الحراسة خلال النهار مجندٌ من أصول مغربية وخلال الليل متطوع من سكان حي السكاكيني بشمال شرقي القاهرة.
أذكر أنني قضيت معظم الليل أستمع إلى شجون وأشواق اليهودي المصري عن تفاصيل حياته ومغامراته العاطفية في القاهرة وتفوقه في مدارسها. أذكر أيضاً أنني قضيت ساعة أو أطول مع مصور السجن في مدينة بير السبع كاد خلالها يبكي عندما سألني عن علاقتي بحي الإبراهيمية حيث ما تزال أمه تقيم في بيتها منذ أن رفضت الرحيل معه إلى إسرائيل. ما دار بالتفصيل سجلته كاميرات التحقيق الذي أجراه معنا المسئولون في أجهزة الأمن المصري خلال ليلة احتجازنا في السجن المركزي لمدينة غزة وقبل المثول أمام محكمة عسكرية مصرية حكمت بحبسنا خمس عشرة سنة مع وقف التنفيذ وترحيلنا إلى القاهرة بعد التزامنا عدم العودة إلى قطاع غزة في أي يوم لاحق ولأي سبب أو دافع.
لم أذكر، وإن ذكرت في مناسبات أخرى، أننا خرجنا من إسرائيل لنجد في انتظارنا ضابطا مصريا كبير المقام والرتب العسكرية مع ضباط من رتب أقل. استقبلنا الضابط محمود رياض وقد ارتسمت على وجهه علامات غضب مكتوم، بدا لي واضحاً في تلك اللحظة أننا تسببنا له، وهو المفوض المصري في لجنة الهدنة الدولية، في مشكلات كبيرة في وقت كانت المقاومة المسلحة عادت تنشط على الحدود.
مرت عشر سنوات أو ما يزيد قليلاً على هذا اللقاء شديد التوتر لنلتقي مرة ثانية في صالون السفارة المصرية في قصر فيللا آدا بمدينة روما. كان محمود رياض قد عُيّن للتو سفيراً ومندوباً دائماً لدى الأمم المتحدة في نيويورك، وفي طريقه لمباشرة مهامه قضى يوماً في روما انتهزه فرصة ليستمع إلى زملائه في السفارة إلى بعض شئون الدبلوماسية والعلاقات الأوروبية. اعترفت يومها لزملاء من بينهم السفير محمد نجيب هاشم أنني انبهرت بسعة اطلاع السفير رياض وبخاصة عندما ناقشني في موضوع دور وتنظيم الحركة النقابية الإيطالية.
فاتني، ولعله تعمد عن قصد عدم إثارة حكاية لقائنا الأول والغاضب في غزة. الغريب في الأمر هو أننا عندما التقينا مرة ثالثة بعد عشر سنوات أخرى، أي بعد حوالي عشرين عاماً من لقائنا الأول في غزة، تفادى كل منا إثارة الموضوع، والغريب أنه لم يشر ولا مرة واحدة لواقعة أن بصفته وزيراً للخارجية وافق على قبول قرار استقالتي من العمل بوزارة الخارجية في ربيع عام 1968.
خرجنا من إسرائيل لنجد في انتظارنا ضابطا مصريا كبير المقام والرتب العسكرية مع ضباط من رتب أقل. استقبلنا الضابط محمود رياض وقد ارتسمت على وجهه علامات غضب مكتوم
لعل محمود رياض تعمد عدم إثارة أي من هذه المسائل في هذا اللقاء الثالث عندما استقبلني في مكتبه بالجامعة العربية في ربيع 1974 عضواً جديداً بالجامعة وتحت رئاسته المباشرة، ولا بعدما غادر كلانا منصبه بالأمانة العامة في القاهرة تحت ظروف توقيع مصر اتفاق سلام ووقف عضوية مصر بالجامعة، ولا حتى وقد جمعتنا بصفة تكاد تكون يومية ظروف العمل الخاص، أحدنا لكتابة مذكراته والآخر لتدشين مركز للبحوث عن السياسة والتنمية.
عام 1967
أردت أن أفرد فقرة تحت هذا التاريخ ليس فقط لأهميته في تاريخ العرب المعاصر ولكن أيضاً في تاريخي الشخصي. كتبت في مجالات متفرقة عن يوم الخامس من يونيو/حزيران، اليوم الذي قضيت بعضه في صحبة نائب وزير الخارجية المصرية وكان قد وصل للتو من مطار بيونس آيرس ليسأل عن تطور الأحداث في الشرق الأوسط بعد أن غاب عنها ساعات هي مسافة الطيران بين رحلتين في أمريكا اللاتينية. أظن أنني تجاوزت المسافة التي تفصلني كسكرتير ثان بالسفارة عن كلا الرئيسين، الرئيس المباشر وهو السفير صالح محمود والرئيس غير المباشر وهو الضيف الزائر للسفارة نائب وزير الخارجية المصرية. تجاوزتها بإحراج الرئيس المباشر أمام نائب الوزير عندما وجهت حديثي لنائب الوزير معاتباً ثم متهماً ثم مديناً له لتخليه عن عمله الذي تخصّص فيه ليعمل في مجال آخر، يعني لو استمر في عمله الذي أتقنه لربما ساهم في إنقاذ بعض قواتنا الجوية ولمنع الكارثة. سافر الرجل ليكتب عن هذا اللقاء الغاضب مع سكرتير السفارة، والذي كان بدوره قد قرر صعوبة إن لم تكن استحالة أن يستمر في أداء العمل بالجهد الذي تعود أن يمنحه له. فكانت العودة إلى مقاعد الدرس أعوض بالنجاح فيها وأحياناً بالتفوق ما يمكن أن يكون قد فاتني من سعادة ورضا بسبب آخرين عاندوا وتجاوزوا وأخطأوا ولا ذنب لي في فشل اقترفوه أو وقعوا فيه.
عام 1982
حانت في تونس فرصة لأتعرف عن قرب إلى قادة منظمة التحرير الفلسطينية. حانت الفرصة بالجوار الجغرافي الذي جمعني بعدد منهم، وحانت بحكم طبيعة العمل منذ أن عُيّنت نائباً لرئيس الإدارة العامة لشئون فلسطين وهو الزميل والصديق المتميز ابن قطاع غزة محمد الفرا، وحانت امتداداً لعلاقاتي الوثيقة وقتذاك بشخصيات في اليسار المصري مثل لطفي الخولي ومحمد سيد أحمد وشخصيات أخرى مثل محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحمود رياض، خاصة وقد استطعت تجميع كل هؤلاء وآخرين في مؤتمر عن الجامعة. سمحت هذه الظروف مجتمعة بلقاءات متعددة مع ياسر عرفات وكبار مساعديه وكانت لي مآخذ ليست قليلة عن أساليبهم في العمل وعن تحالفاتهم وفي أحوال كثيرة عن سلوكيات شخصية، لم أخف هذه المآخذ عن أصدقاء مقربين، لم أخفها عن هيكل ومحمد الفرا وكلوفيس مقصود وإدوارد سعيد وعبدالله عمران وآخرين. لم أخفها عنهم ولم أنشرها.