ماذا يتطلّب الأمر بعد؟ جدّدت حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة رفضها إقامة دولة فلسطينية، وكثّفت سياسة الاستيطان التي يعتبرها القانون الدولي جريمة حرب، كما اتخذت إجراءات لإذلال الأسرى الفلسطينيين – كالحد من وقت الاستحمام، والحق في الطهي، إلخ. كذلك، غيّرت هذه الحكومة الوضع الراهن (النسبي) الذي ساد في الضفة الغربية منذ عام 1967، من خلال نقل السلطة من إدارة عسكرية إلى إدارة مدنية برئاسة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أحد الوزراء الذين يعتبرهم بلاتمان نازيين جدد. وتؤكد افتتاحية في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية1 أن هذا القرار “يشكّل ضمًّا للضفة الغربية بالاستناد إلى القانون. ونظرًا لعدم وجود أي نية لمنح ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية حقوقاً مدنية، فالنتيجة هي إضفاء الطابع الرسمي على نظام فصل عنصري (أبارتايد) حقيقي”.
في حوارة.. “كان رد الجنود أن أطلقوا النار عليّ”
ماذا يتطلّب الأمر بعد؟ في ليلة السادس والعشرين من فبراير/ شباط، أضرم عشرات المستوطنين النار في قرية حوارة قرب نابلس، وقاموا بعدة اعتداءات، وأصابوا عشرات السكان – وقد توفّي أحدهم. يتحكّم الجيش والأجهزة الأمنية في كل شبر من الضفة الغربية، وفي أي تحرّك – إن كان على الأقدام أو بالدراجة أو بالسيارة – من خلال تقنيات تكنولوجية متطورة، سلّط عليها مسلسل “فوضى” الإسرائيلي الضوء. رغم ذلك، لم يفعلا شيئًا لمنع وقوع هذه الأحداث، بل قاما بحماية المستوطنين خلال الساعات الأولى من الهجوم. في شهادة له على موقع البي بي سي، ذكر عدي الضميدي، وهو أحد أهالي القرية، أنه كان محبوساً في منزله مع أطفاله: “صرختُ للجنود أن يحموا الأطفال ويمنعوا المستوطنين من تخويفهم، لكنهم ردّوا بإطلاق النار علي، وصرخوا في وجهي أن عليّ البقاء في المنزل”. في نهاية المطاف، قام الجيش بإجلاء الفلسطينيين، لكن ميليشيات المستوطنين استمرّت في دورياتها بحرية مطلقة خلال الأيام التالية، في هذه القرية التي قال عنها سموتريتش إنه وجب “هدمها”.
حدّد ديغول توجّهاً ألزم كلّ خلفائه، حتى جاك شيراك، ومنح فرنسا مكانة لا مثيل لها في المنطقة. طبعا، تغيّر الزمن، ولكن للأسوأ، فالقمع يتصاعد، وكذلك المقاومة التي يواصل البعض وصفها بـ “الإرهاب”. فماذا يتطلّب الأمر بعد لدفع إيمانويل ماكرون إلى التحرّك؟
بالنسبة لكاتب العمود بجريدة “هآرتس” جدعون ليفي، فإن هذه الأحداث التي يصفها بالـ“بوغروم” (أي هجوم أو مذبحة موجّهة ضد مجموعة عرقية أو دينية معيّنة) تنبئ بإمكانية حدوث مذابح جديدة، مثل مجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر/أيلول 1982 ببيروت، عندما قُتل مئات الفلسطينيين تحت رعاية الجيش الإسرائيلي. “لم تقع مذبحة في حوارة، لكن لم يكن لأحد أن يعرف مسبقا المجرى الذي ستتخذه الأمور. لو أراد المشاغبون قتل السكان أيضًا، لما كان أحد ليقف في طريقهم. لم يقف أحد في وجه الكتائب في صبرا، وكذلك حدث في حوارة”. مع فارق مهم، وهو أن الميليشياتَ إسرائيلية هذه المرة، وتتمتع بتواطؤ أهمّ بكثير من جميع أجهزة الدولة.
تعاويذ من أجل حل الدولتين
ماذا يتطلّب الأمر بعد حتى تردّ الحكومة الفرنسية الفعل، وتعيد النظر في مراعاتها أو بالأحرى في تواطئها مع إسرائيل؟ الأمر أكبر بكثير من مجرّد بيان تمضيه فرنسا وبعض الدول الأوروبية. ليست سياسة رئيس الدولة الحالي سوى تواصل لسياسة سلفه فرانسوا هولاند، والذي كان يأسف – في حضرة نتنياهو – لعدم قدرته على الإشادة بكلّ “حبه لإسرائيل وقادتها”2. تتهادى هذه السياسة بين ركيزتين غير متساويتين: تعاويذ من أجل حلّ الدولتين ولإدانة الاحتلال – ولا شك بأن البيانات الفرنسية التي يتم تبنيها بانتظام في هذا الصدد تبثّ الرعب في إسرائيل! -، ودعم سياسي واقتصادي وأمني وعسكري متزايد للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والتي ترفض حلّ الدولتين وتواصل توسيع الاستيطان.
إيمانويل ماكرون هو الرئيس الغربي الوحيد الذي استقبل نتنياهو بعد انتخابه. ووفق البيان الذي صدر، فقد عبّر الرجلان على “رغبتهما في تعميق الشراكة الاستراتيجية التي تربط بلديهما، وتعزيز العلاقات الثنائية في جميع المجالات. وجدّد رئيس الدولة التزام فرنسا الراسخ بأمن إسرائيل”. هل يطمح ماكرون في استرضاء نتنياهو؟ يجدر به استشارة سلفه نيكولا ساركوزي، الذي كان أول من تبنّى استراتيجية التقارب هذه مع رئيس الحكومة الإسرائيلي، على أمل “التأثير عليه”. وقد أسرّ للرئيس باراك أوباما في نهاية المطاف، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011: “لم أعد أستطيع رؤية بنيامين، إنه كذّاب”3.
الأرجح هو أن الرئيس الفرنسي لا يسعى أبدا إلى التأثير لا على نتنياهو ولا على السياسة الإسرائيلية، فهذا يتطلّب تبنّي عقوبات من أجل تطبيق القانون الدولي، وهو ما تفعله فرنسا من أجل وضع حدّ للغزو الروسي في أوكرانيا، لكنها ترفض القيام به من أجل إيقاف الاحتلال الذي يتواصل في فلسطين منذ أكثر من نصف قرن. بل يصل اصطفاف الحكومة الفرنسية (ودناءتها) – وهي التي لا تتردد في كل مناسبة في الإشادة بـ“القيم المشتركة” التي تربطها بإسرائيل – إلى حد ملاحقة المحامي الفلسطيني الفرنسي اللاجئ في فرنسا صلاح حموري، محاولة منعه من التعبير. أين ذهبت حريّة التعبير الملازمة لـروح “شارلي إيبدو”؟
ذهب إيمانويل ماكرون أبعد من سلفه في تبنّي الخطاب الإسرائيلي، ومحاولات تكميم الأفواه المدافعة عن فلسطين. فقد كان الرئيس الفرنسي الأول الذي جعل من معاداة الصهيونية مرادفاً لمعاداة السامية. كما أيّد تعريف معاداة السامية الذي قدّمه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، والذي يهدف في الواقع إلى حماية إسرائيل من أي نقد، وقد تم الطعن فيه من قبل كل من نقابة المحامين الأمريكية و“نداء القدس” الذي وقّع عليه مئات المثقفين المتخصصين في تاريخ الهولوكوست ومعاداة السامية. كذلك، واصل ماكرون تجريم حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، وأعطى تعليماته لوزير العدل إريك دوبون موريتي بإصدار منشور للتحايل على قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الذي أكّد شرعية حركة المقاطعة. أين هي دولة القانون؟ أخيراً وليس آخراً، ندّد الرئيس الفرنسي بتقرير منظمة العفو الدولية حول الفصل العنصري (أبارتايد) في إسرائيل وفلسطين. وهكذا جعل من كفاح معاداة السامية سلاح حرب، ليس للدفاع عن اليهود، بل لتجريم التضامن مع فلسطين.
جدعون ليفي: “لم تقع مذبحة في حوارة، لكن لم يكن لأحد أن يعرف مسبقا المجرى الذي ستتخذه الأمور. لو أراد المشاغبون قتل السكان أيضًا، لما كان أحد ليقف في طريقهم. لم يقف أحد في وجه الكتائب في صبرا، وكذلك حدث في حوارة”
“معادو السامية جيدون”
بالمناسبة، هل ينبغي إشراك الحكومة الإسرائيلية في الكفاح الضروري ضد معاداة السامية؟ الكل يعرف المحاباة التي خصّت بها إسرائيل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومحيطه المتآمر، أو مغازلة نتنياهو لحركات أقصى اليمين في أوروبا، لاسيما في شرق القارة. من الواضح بالنسبة إليهم أن البعض يمكن أن يكون “معادياً جيّداً للسامية”، طالما أنه يدافع عن إسرائيل.
في هذا السياق، ما الذي يمكن لفرنسا فعله؟ في يونيو/حزيران 1967، وبالرغم من حملة صحفية ضخمة لصالح إسرائيل، ندّد الرئيس شارل ديغول بالاعتداء الإسرائيلي. وقد لخّص خلال ندوة صحفية شهيرة في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1967 جوهر الصراع قائلاً: “لقد باتت إسرائيل تنظّم على الأراضي التي سيطرت عليها احتلالاً سيكون حتماً مصحوباً بالاضطهاد والقمع والتهجير.. وباتت هناك مقاومة تصنفّها إسرائيل بدورها على أنها إرهابية”. لقد حدّد ديغول توجّهاً ألزم كلّ خلفائه، حتى جاك شيراك، ومنح فرنسا مكانة لا مثيل لها في المنطقة. طبعا، تغيّر الزمن، ولكن للأسوأ، فالقمع يتصاعد، وكذلك المقاومة التي يواصل البعض وصفها بـ “الإرهاب”. فماذا يتطلّب الأمر بعد لدفع إيمانويل ماكرون إلى التحرّك؟
(*) بالتزامن مع “أوريان 21“
(**) ترجمته من الفرنسية إلى العربية الزميلة سارة قريرة من أسرة “أوريان 21”.