القدس.. ومهالك الخرافات الدينية الحديثة

يُردّد الكثيرون مقولات تشي بأنّ أهميّة القدس عند اليهود مرتبطة بالهيكل الذي بناه فيها الملك سليمان، وعند المسيحيين لأنها المدينة التي شهدت صلب يسوع المسيح وقيامته، وعند المسلمين لأنّ النبي محمد عرّج منها إلى السماء.

بعكس ما هو دارج وشائع في أيّامنا هذه أنّ نُعرّف الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة على أساس ما يفرّقها عن بعضها البعض، يُعطينا التاريخ أمثلة كثيرة عن العلاقة العضويّة بينهم، خصوصاً في ما يتعلّق بمدينة القدس وقدسيّتها (وهو ما يمكن أن نوسّعه ليشمل معظم الأرض المقدّسة، أي فلسطين). هذه الأديان الثلاثة هي أشبه بدوائر متداخلة. وبقدر ما لكلّ واحدة منها جوانب فريدة بذاتها، هناك أيضاً جوانب كثيرة مشتركة؛ جوانب تتشارك فيها اليهوديّة والمسيحيّة؛ المسيحيّة والإسلام؛ اليهوديّة والإسلام، وجوانب تتشارك فيها الأديان الثلاثة. لذلك، عندما نُركّز فقط على ما يُميّزها عن بعضها البعض، ونتجاهل أو نستبعد ما تتشارك حوله، فنحن بذلك نُغذّي التطرّف الفكري والعنصري ونُحوّل الدين أداة للتفرقة والنزاعات.

القدس هي من أهمّ النماذج التي تتشارك فيها المسيحية واليهودية والإسلام. وأساس ذلك هي الأسطورة التوراتيّة القديمة المتعلّقة بأشخاص (مثل إبراهيم، وسارة، وموسى، وداود، وسليمان، إلخ..) وأحداث من الماضي البعيد قبل تشكيل هذه الأديان الثلاثة. وفّرت هذه الأسطورة التوراتيّة قطع “الفسيفساء” التي استخدمها المسلمون واليهود والمسيحيّون عبر العصور لتشكيل بانورامات “فسيفسائيّة” تبرز لهم أهميّة القدس وفلسطين. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الدين اليهودي هو الأساس وأنّ المسيحية والإسلام استعارا منها هذا التقليد التوراتي. على العكس، اليهودية (كما هي معروفة على نطاق واسع منذ القرن الميلادي الثاني) هي نتاج لتجربة حصلت في زمن الرومان وأدّت إلى تهجير كثير من سكّان فلسطين بعد حوادث سنة 70 (هدم الهيكل) وسنوات 132-136 (ثورة بار كوخبا)، وهي تختلف عن التشكيلات الدينيّة التي كانت شائعة وتبعها بنو إسرائيل القدماء والتي تمحورت حول العبادة في هيكل القدس (وهياكل أخرى كثيرة في الأرض المقدّسة).

يُمكن القول إنّ كل واحدة من الأديان الثلاثة استعارت من التاريخ التوراتي ومن بعضها البعض أموراً استخدمتها في صياغة علاقتها بالمدينة المقدّسة. ومن دون شكّ أنّ هذا العامل الذي يُساء فهمه كثيراً في هذه الأيّام يُقّوي الدعاية الصهيونيّة أنّ لليهود حقّ في فلسطين لأنّهم عاشوا فيها ومارسوا دينهم فيها وكانت لهم فيها ممالك حتّى العصر الروماني حين أُجبروا على تركها.

وحتّى إذا أردنا أن نُسلّم جدلاّ أنّ اليهوديّة استمرارٌ لدين بني إسرائيل القديم مع بعض التطوير، فإن الشيء نفسه ينطبق على المسيحيّة والإسلام لأنّهما أيضاً شُيّدا على أساس دين بني إسرائيل القديم وطوّراه بأساليب مختلفة. وإذا أردنا أن نُسلّم جدلاً أنّ اليهود هم من نسل بني إسرائيل القدماء (وهو ما يُمكن أن ينطبق على بعض اليهود فقط وليس عليهم كلّهم)، فإن الشيء نفسه يُمكن أن نقوله عن بعض المسيحيّين والمسلمين الذين كانوا من نسل بني إسرائيل وتحوّلوا إلى المسيحيّة أو الإسلام. إذاً، في البعد التاريخي، يتشارك أتباع هذه الأديان الثلاثة بالتساوي في تراث بني إسرائيل القديم.

أحد الأمثلة على ذلك أنّ المسلمين الأوائل، الذي عرّفوا أنفسهم كأحفاد النبي إبراهيم، عندما فتحوا القدس في سنة 638 م، تملّكوا الحرم كمكان مقدّس مرتبط بهيكل الملك سليمان وبأحداث كثيرة من التاريخ التوراتي واليهودي والمسيحي وأضافوا إليه بعداً إسلامياً (كما سأشرح في ما بعد). وقبل انتهاء ذلك القرن، بنوا عليه قبّة الصخرة، البناء الإسلامي الأول من نوعه، ليؤكّدوا هذا الرابط المقدّس بينهم وبين مدينة القدس. وعندما فتحها الصليبيون في سنة 1099، استولوا على قبة الصخرة (وكامل الحرم) وسمّوها هيكل الله، تأثّراً بتقديس المسلمين لها، وكأنّهم أعادوا تشييده تحقيقاً لنبوّة المسيح، وبذلك أصبح للهيكل القديم دور يكمّل ويتكامل مع دور الهيكل الجديد (كنيسة القيامة) الذي أراد له المسيحيّون البيزنطيّون ـ عندما شيّدوه في زمن الملك قسطنطين في عشرينيات القرن الرابع الميلادي ـ أن يمحو ذاكرة وقدسيّة الهيكل القديم وينقلها إلى الهيكل الجديد.

وهناك مقولة أخرى حول القدس يُساء فهمها، وأعني ما يُردّده البعض من أن القدس هي ثالث حرم في الإسلام، وبالتالي يجعلها كثيرون دون الأهمية المُعطاة لكل من مكّة والمدينة المنوّرة. بمعنى آخر، عبارة “ثالث حرم” تُعطي صورة وكأنّنا أمام منافسة أولمبية حصلت فيها القدس على الميداليّة البرونزيّة لاحتلالها المرتبة الثالثة. الخطأ في هذا الإعتقاد هو أنّ التقليد الذي يُعطي القدس تلك المكانة أراد أن يجعلها جزءاً لا يتجزأ من محور قدسي يضم مكة والمدينة والقدس. ولذلك يجب أن نفهمه كما نفهم الثالوث المقدّس في المسيحية: الآب والإبن والروح القدس. لا يمكننا أن نفترض أنه بما أن الروح القدس هو الجزء الثالث من الثالوث فهو إذاً أدنى من الإثنين الآخرين، وأن المسيحيين سيكونون على استعداد للانفصال عنه. وبالمثل، لا يمكننا أن نعتقد أن الأم التي لديها ثلاثة أطفال تحب الأول أكثر من الثاني، والثاني أكثر من الثالث، فقط بسبب تسلسل ولادتهم!

ومن يُدقّق في التراث الإسلامي يُدرك الدور المحوري لمكّة والمدينة المنورة، مثلما يُدرك الدور المحوري للقدس، وهذا الدور يتعلّق بأحداث من الماضي والمستقبل، تراكمت لتعطي القدس ميزة، كقصّة معراج النبي منها إلى السماء، وأحداث يوم القيامة. هذا التكريم للقدس لا تحظى به أي مدينة أخرى (بما في ذلك مكة والمدينة). علاوة على ذلك، هناك أمثلة لا حصر لها من التاريخ الإسلامي تشير إلى أنّ الحجّ إلى القدس كان شائعاً مثل الحج إلى مكة. وتوقف حج المسلمين إلى القدس اليوم يرجع بشكل مباشر إلى الواقع السياسي والأمني للمدينة منذ إنشاء دولة إسرائيل في سنة 1948. (وبالمثل، فإن عدم السماح للحجاج المسيحيين واليهود بدخول الحرم الشريف في هذه الأيّام وراءه أسباب سياسيّة، ولا يستند إلى سوابق تاريخية).

ما يُمكن قوله هو أنّ كل واحدة من الأديان الثلاثة استعارت من التاريخ التوراتي ومن بعضها البعض أموراً استخدمتها في صياغة علاقتها بالمدينة المقدّسة. ومن دون شكّ أنّ هذا العامل الذي يُساء فهمه كثيراً في هذه الأيّام يُقّوي الدعاية الصهيونيّة أنّ لليهود حقّ في فلسطين لأنّهم عاشوا فيها ومارسوا دينهم فيها

هذا كلّه يقودنا إلى مقولة أخرى فيها الكثير من التضليل كالقول إن المسلمين واليهود والمسيحيين لديهم أماكن عبادة منفصلة في القدس. هناك أدلّة كثيرة على أنّ المسيحيين واليهود كانوا يأتون إلى الحرم الشريف للعبادة خلال العصر الإسلامي. وتشهد الكثير من الروايات أيضاً على ذهاب المسلمين إلى كنيسة القيامة وكنيسة مريم في القدس (وكذلك إلى كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة البشارة في الناصرة) للصلاة والتبرّك في المواقع المرتبطة بمريم وعيسى. هذا الإرث التاريخي غير معروف اليوم إلى حد كبير عند معظم الناس، بما في ذلك العديد من المسلمين والمسيحيين واليهود المتديّنين، والذين يتأثّرون بديناميات وسرديات مُعاصرة تُجبرهم على التفكير في بعضهم البعض كأعداء وليس كإخوان.

إقرأ على موقع 180  الفضائيات العربية بين عولمتين: جيوبوليتيك الهيمنة وإعادة رسم الهويات

ومن أبرز الأمثلة الدالة على تقديس المسلمين لمدينة القدس وتداخل الأماكن التي يقدّسونها مع تلك التي يأتي إليها اليهود والمسيحيّون، ما نجده في كتاب ناصر خسرو الذي جاء من إيران بقصد الحجّ إلى القدس ومكّة في أربعينيات القرن الحادي عشر. أوّل ما قاله عن الحرم القدسي الشريف عند دخوله إليه أن سبب تقديسه هو “وجود الصخرة”، “الصخرة التي أمر الله عزّ وجلّ موسى عليه السلام أن يتّخذها قبلةً”. ويقول ناصر خسرو إنّ هذا الأمر بقي إلى وقت النبي محمّد عندما أمره الله أن يُحوّل قبلته إلى الكعبة. ثم يخبرنا أن على الصخرة “آثار سبع أقدام، وسمعت أن إبراهيم عليه السلام كان هناك (ليضحّي بإبنه كما أمره الله)، وكان إسماعيل طفلاً فمشى عليها وهذه هي آثار أقدامه”. إضافةً لذلك، يُعدّد لنا ناصر خسرو مواقع مقدسة أخرى، مثل قبّة معراج النبي والتي هي في مكان قريب من قبّة الصخرة، ومحراب مريم حيث ولد المسيح، ومحراب زكريا (والد يوحنا المعمدان)، ومحراب داود، وغيرها الكثير في الحرم المقدسي وحوله. ويخبرنا أيضاً عن زيارته إلى وادي جهنّم والذي أخبره أهل القدس “أنّ من يذهب إلى نهايته يسمع صياح أهل جهنّم”، وأنّ في السهل الكبير خارج القدس والمسمّى “الساهرة، يقال إنّه سيكون ساحة القيامة والحشر، ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم ويقيمون به حتّى يموتوا فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد”.

ما يُمكن أن نستخلصه من كلام ناصر خسرو أنّ الكثير من المسلمين في وقته، خصوصاً من كانوا في أرض فلسطين وجوارها، كانوا يعتقدون أنّ كل هذه العناصر مجتمعةً تُشكّل النسيج الفسيفسائي الذي يُبرز قيمة المدينة وقدسيّتها في الإسلام. وإذا تمحّصنا فيه، نجد أنّ معظمه مأخوذ من النسيج الفسيفسائي الذي استخدمه أيضاً اليهود والنصارى من أجل صياغة علاقتهم بالقدس وتقدسيهم لها، وكيف يدلّنا ذلك على تداخل أماكن عبادتهم ببعضها البعض، بل يُمكن أن نقول إنّ الكثير منها هي الأماكن نفسها.

في الخلاصة، إختزال التراث الديني لمدينة القدس بأمور ضيّقة لا تتشارك فيها الأديان الثلاثة يقود إلى تقويض قواسم كثيرة ومتداخلة، وهذا يساعد فقط السرديّة الصهيونيّة التي تهدف لإضعاف علاقة المسلمين بالمدينة عبر إقناعهم أنّ هناك مدناً أكثر قدسيّة من القدس، وأنّ علاقتهم بها مرتبطة فقط بزيارة النبي إليها. كذلك الأمر بالنسبة إلى المسيحيّين، ولا سيما المشرقيّين ممن شكّلت القدس بوصلة لهم، ومع قيام دولة إسرائيل أصبحوا مقطوعين عنها أو يُضيّقُ عليهم فيها. هم أيضاً يتمّ تضليلهم بأنّ ليس لهم في القدس إلاّ بقعاً بسيطة. من هنا تأتي أهميّة هذا البعد الديني المتداخل لمدينة القدس والذي يتشارك فيه أتباع الأديان الثلاثة. فهو من جهة ينسف السرديّة الصهيونيّة، ومن جهة أخرى يحمي القدس ويجعلها فوق الإستقطابات الدينيّة والسياسيّة المعاصرة.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مصر وحماس.. مراجعات ومقاربات جديدة