“فلسطين في أدبيات سيد شهداء القدس”.. معيار الالتزام والوضوح

شكّلت فلسطين النواة الصلبة في خطب الشهيد السيد حسن نصرالله. لم تقتصر على الجوانب النظرية فقط بل تعدتّه إلى التطبيقي، فكان شهيد فلسطين على طريق القدس.. ومن هذا الإرث الضخم الغني استقرأ استاذ مادة الفلسفة د. أحمد ماجد فلسطين حصراً في خطاباته.

“فلسطين في أدبيات سيد شهداء طريق القدس السيد حسن نصرالله”، عنوان بحث (80 صفحة) أصدره معهد المعارف الحكمية؛ تاركاً للباحث أحمد ماجد معالجته، معتمداً مناهج العلوم الانسانية من اللسانيات (مدرسة زيلينغ هاريس)، والسيميائية (كارل باث)، وطبيعة اللغة كما في نظرية نعوم تشومسكي. بحثٌ توسّل مقاربة الخطب بما هي “أداة تعبيرية مُفصحة”. فالنص في خطاب السيد نصرالله يهدف إلى إثارة الوعي، كما يأخذ شكل الخبر السياسي أو النص المتكامل الذي يحمل في طياته بُعداً سردياً يسعى إلى بناء رؤية جمعية تحمل في طياتها خطاباً تنظيرياً أيديولوجياً إبداعياً بكل معنى الكلمة.

وإذ يرصد ماجد من خلال عدد من الخطب التي اختارها كمادة لبحثه أن “هذا الخطاب يتميز بوحدته وثباته وعدم وجود نقلات واضطرابات ناتجة عن تغيرات الواقع والمصالح الآنية”، يستنتج أن اللغة لدى نصرالله “واضحة وتعتمد المباشرة وقول الأشياء في مواضعها، وهي تختلف عن اللغة السياسية التي تعتمد المراوغة وعدم الوضوح”.

وقد اعتمد البحث منهجية تحليل المضمون، وتم تحديد مرحلتين زمنيتين؛ الأولى، تمتد من عام 2000 حتى عام 2008 والثانية تمتد من عام 2023 إلى آخر خطاب ألقاه سماحته في أيلول/سبتمبر 2024 قبيل استشهاده. والهدف من اختيار هذه العينة كان إظهار ثبات موقف سماحته من القضية الفلسطينية بعد تحرير لبنان في العام 2000 وانتصار تموز 2006، أما الفترة الزمنية الثانية فقد اختيرت لأنها جاءت بعد “طوفان الأقصى” الذي انطلق في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

خمسة فصول في بحث د. أحمد ماجد قاربت عناوين متنوعة “شكلت القضية الفلسطينية ذاك الألم المقيم محور التفكير عند السيد نصرالله”، وهي في خطبه كلمة مفتاحية بكل ما للكلمة من معنى، وهي معه تتعدى كونها قضية وتصبح تعبيراً عن إيمان يصل إلى حد اعتبارها عقيدة. فعندما يحسم أن “ساحة فلسطين هي أوضح وأبرز مصاديق صراع الحق مع الباطل”، فإن سماحته يصل إلى “اعتبار أن هذه القضية بمثابة المحك الذي يُقاس على أرضيته الإيمان والالتزام”

ولكن، هل كان لماجد هدف آخر؟ سألناه وكان جوابه: “من دون شك هناك حاجة إلى معالجة الخطاب بطريقة علمية بعيدًا عن التحليل السياسي، الذي يحاول أن يقتطعه من سياقه من أجل العمل عليه كمادة للجذب السياسي أو محاولة إخراجه عن طبيعته من أجل شيطنة المُتلقي، بالتالي عند القيام بهذا الأمر، نستطيع أن نبني الرؤية الصحيحة له. فالخطاب ليس عبارة عن كلام عام، ينقضي عند انتهاء الخطيب من إلقائه، بل هو وسيلة لبناء الوعي وتكوين الرأسمال الرمزي المشترك بين الفاعلين الاجتماعيين، من هنا عند اعتماد المنهج السليم القائم على أسس علمية، نستطيع أن نخاطب من خلاله النخب العربية والأجنبية وإظهار المحتوى الحقيقيّ له في ظل واقع متمثل بعمل البعض من أجل تزوير الحقائق وحرفها عن غاياتها، فسماحته عندما تكلم عن القضية الفلسطينية، لم يكن يسعى إلى دعاية حزبية ضيقة، إنّما كان يُخاطب العقل العربي الإسلامي، ويضع أمامه الوقائع ويحثه على التفكير بها بطريقة هادئة بعيدًا عن الانفعالات النفسية والمذهبية التي عملت على حرفها عن حقيقتها، بالتالي هو كان يعمل على استثارة ما هو مشترك بين العرب والمسلمين، ليضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية؛ كان يخاطب عقلهم من أجل وعي المخاطر التي تتهددهم من خلال حصر القضية الفلسطينية بشعب محدد وبالتالي لا علاقة لباقي الأمة بها بينما في اللحظة التي يتخلون فيها عن دعمهم لها يكتبون نهاية دولهم ويصبحون مجرد كم مهمل غير فاعل، تتلاعب بهم قوة الطاغوت”.

ويضيف أنّ هذا التحليل “يطرح أمام العالم المتحضر الموقف الأخلاقي والقيمي العام، وهو يظهر حقيقة موقف المقاومة باعتبارها المدافعة الحقيقية عن الحداثة الإنسانية، وما تحمل في طياتها من قيم إنسانية شاملة، عند التخلي عنها، تُوضَع الحداثة برمتها أمام تحدٍ حقيقي. بالتالي فإظهار هذا الموقف هو جزء من المعركة التي يجب أن يُعمل عليها من أجل كسب الرأي العام العالمي، الذي تسيطر عليه الدعاية الغربية والصهيونية. ويعني الكلام السابق أنّ تحليل الخطاب وتقديمه بطريقة موضوعية هو واجبٌ على المثقفين من أجل إبراز حقيقة موقف سماحة السيد والمقاومة من أجل رفع مستوى الوعي الفكري بمحتويات الخطاب”.

خمسة فصول في بحث د. أحمد ماجد قاربت عناوين متنوعة “شكلت القضية الفلسطينية ذاك الألم المقيم محور التفكير عند سماحة السيد نصرالله”، وهي في خطبه كلمة مفتاحية بكل ما للكلمة من معنى، وهي معه تتعدى كونها قضية وتصبح تعبيراً عن إيمان يصل إلى حد اعتبارها عقيدة. فعندما يحسم أن “ساحة فلسطين هي أوضح وأبرز مصاديق صراع الحق مع الباطل”، فإن سماحته يصل إلى “اعتبار أن هذه القضية بمثابة المحك الذي يُقاس على أرضيته الإيمان والالتزام”.

إقرأ على موقع 180  من دمشق إلى "فيينا 7".. "خط إستراتيجي" و"إتفاق مؤقت"!

كان السيد نصرالله يشير إلى وجود منطقين: أول يدعو إلى الاستسلام باعتبار أن إسرائيل قدرٌ لا مفر منه، وثانٍ يقول إنه بالإمكان مقاومتها، فبالإضافة إلى القناعة الدينية بزوالها، فإن السيد يرى في صمود الفلسطيني وتأكيده على خيار المقاومة دليلًا على أن هذا الشعب الفلسطيني “يُفاجئ العالم دائماً بتجدده وبتغلبه على جميع المصاعب وعلى جميع عوامل اليأس والإحباط وبقدرته على صنع الأحداث وبإبداعه بأشكال جديدة من المقاومة تضع أقوى كيان بوليسي مدجج بالسلاح بحالة حيرة وذهول وارتباك”، يقول الباحث أحمد ماجد.

أما منطق التخلي، فقد كان السيد نصرالله يرى أنه منطقٌ “يتفق مع هدف الاحتلال، أي تصفية القضية الفلسطينية وإنهائها”.. وأنه من أجل الوصول إلى هذه الغاية “جرى اختراع قضية ما لكل بلد ولكل قطر ولكل دولة في عالمنا العربي والإسلامي في سبيل تغييب قضية فلسطين المركزية، وعزل الشعب الفلسطيني وزجه في صراعات ومواجهات وحساسيات وعداوات مع شعوب المحيط ومع دول المحيط، وأيضاً إخراج فلسطين من دائرة الصراع مع العدو الإسرائيلي وأن لا تكون في دائرة الأولويات”.

 ورداً على سؤال عمّا إذا كان هذا البحث هو الأول من نوعه؟ يجيب ماجد أن خطاب سماحة السيد نصرالله “يُشكّل مادة جذّابة للباحثين، لذلك لم يتوانَ معظم هؤلاء عن العمل عليه وإبراز نقاط القوة فيه، وهذا يعود إلى طبيعته التي تسمح بمعالجته على مستويات متعددة، إن على مستوى البنية من حيث الهيكلية العامة، حيث امتاز بعناصر بنائية خاصة، أو على صعيد التراكيب العامة للجمل لديه، أو المحتوى والحقل المعجمي المستخدم فيه والعناصر البانية للسردية الخاصة بالمقاومة.. لذلك عند رصد الأعمال المتعلقة بتحليل الخطاب عنده، سنقف أمام عدد كبير من الدراسات التي تناولته بالدراسة والتحليل للوقوف على مميزاته التي كانت قادرة على تحريك الشارع والتأثير في مجريات الأحداث”.

ومن بين الباحثين، يعرض ماجد لعينة منهم: “عاشوراء الخطاب والمعنى” للدكتور علي زيتون؛ “المستوى المعجمي وأبعاده الفكرية في خطاب السيد حسن نصرالله” للباحثين د. حسين مهتدي، د. حسين شمص، د. مهى خير بك؛ “دراسة دلالية في مصطلحات نهج البلاغة وخطابات السيد حسن نصرالله” للباحثين د. حسين مهتدي، د. جمال زعيتر، د. ميادة دندش؛ “القيم الأخلاقية في خطاب السيّد حسن نصرالله” للباحث خضر محمد مرعي منشور في مجلة أوراق ثقافية، كما قدمت العديد من الدراسات العلمية حول هذا الخطاب. وبالتالي، لا يمكن اعتبار هذا البحث هو الأول من نوعه بل هو يقع ضمن سلسلة من الأعمال، ولو أن المميز هنا هو الموضوع الذي يعالجه وهو القضية الفلسطينية.

وهل اعتمادك منهج العلوم الإنسانية في تفكيك هذا الخطاب وتحليله أضفى بعداً مغايراً، بمعنى ابتعادك عن التحليل السياسي المباشر؟

يجيب ماجد في حوار مع “180بوست”: “عَمَل البحث بشكل موضوعي على خطاب سماحة السيد وقاربه من زاوية منهجية، تعتمد على منهج العلوم الإنسانية، فهو لم ينطلق في تحليل مضمون الخطاب إلا بعد مراجعة نصوص الخطب التي ألقاها سماحة السيد، والتي تناولت القضية الفلسطينية، حيث تبين من خلال هذه المراجعة أنّ هذا الموضوع من الثوابت، وهي تمتاز بالثبات الناتج عن النظر إليها من زاوية اعتقادية وإنسانية شاملة، تصل إلى حدّ اعتبارها من الأمور الاعتقادية، التي يلتزمها الإنسان في حياته اليومية، مما سمح لنا إلى اعتبارها وحدة قولية واحدة، يمكن العمل عليها لإظهار محتواها، فسماحته في تعاطيه مع هذه القضية استخدم اللغة من أجل تثبيت الوعيّ فيها، ومن أجل بناء منظور متكامل يموضعها في إطارها الحقيقيّ فهي ليست قضية شعب فلسطين، إنّما هي قضية الأمة بأجمعها بل قضية إنسانية عامة. وهذا بالتأكيد ما سيخرجها من نطاق السياسيّ بما هو رؤية لواقع متغيّر، يخضع للتحولات السياسية، فيصبح الخطاب يتعلق بالموقف الشرعي والقيمي والإنساني، بالتالي طبيعة الموضوع كما قدّمه سماحة السيد تفترض هذا الأمر، فهذه القضية هي من تجليات الصراع بين الحقّ والطاغوت ولا يمكن أن يُتَعَاطَى معها إلا على هذه الأرضية”.

ما عمل عليه هذا البحث هو تقديم رؤية الشهيد السيد نصرالله، كما وردت في الخطب نفسها، وهذا يعني أن طبيعة الخطاب هي التي فرضت هذا الأمر، ولذلك لم يعمل د. أحمد ماجد على فرض رؤية من خارج النص، كما لم يسعَ إلى تحليل محتواه، ولعلّ هذا الأمر قد يكون عنوان مادة بحثية أخرى تتناول الموضوع من هذه الزاوية.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  نصرالله يطلق مبادرة.. والسعودية لا "يعنيها لبنان" وأوروبا منقسمة