تنتابنا الحيرة عندما تعود بنا الذاكرة، ونحن نحصي الإصدارات وتوصيات المؤتمرات والندوات وبيانات تصدر من هنا وهناك، وهذا الكمّ الهائل من السرديات التي تناولت هزائمنا ولا سيما هزيمة يونيو/حزيران 1967، ومن ثم سرديات الإنتصارات وأبرزها تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي في العام ألفين.
عدا عن القصائد الشعرية الهجائية بغالبيتها، وما تضمنته من مفردات الشتم ورخص الكلام، صارت حكاية نقد الهزيمة بمثابة تعبير عن نزعة وظيفتها التبخيس بالمبادىء والرموز، ولا سيما شخص الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وقد انبرت الأقلام كالسيوف لقطع رقاب من كانوا سبباً في الهزيمة، وشمّرت النخب الثقافية عن عصف أذهانها الفكري فتقلّد عدد منها فجأة رتبة “المُفكّر” و”الاستراتيجي”، وبين هؤلاء أسماء تنتمي إلى أحزاب يسارية، وتحديداً تلك المتطرفة بيساريتها الثورية، ومثلها إلى حركات إسلامية، وطبعاً لا يُستثنى من هؤلاء أولئك القابضين على جمر الدولارات الأميركية، إذ أن كل هؤلاء أقدموا على عملية محاكمة ـ إعدام ـ تحطيم لم تقتصر على القائد العربي جمال عبد الناصر، وإنما طالت صورة الجندي العربي (المصري والسوري)، وشرائح المجتمع العربي ككل، ولكل ما يمت بصلة لهذا الانتماء العربي.
ولو راجعنا تلك السرديات، بما تضمنته من نقد ذاتي وموضوعي لاعتقدنا أن أصحابها يُريدون لها أن تكون بداية ثورة تمحو آثار الهزيمة من الوعي العربي، ولكن..
ليس دفاعاً، ولا في معرض تعمية أبصار وبصيرة أحد عن تلك الهزيمة وأسبابها وظروفها ومن يتحمل مسؤوليتها، ولكن، ثمة أسئلة تفيد لو طرحناها: هل أن هزيمة العام 67 أسبابها محض داخلية (مع أنها موجودة ولا ننكرها)؟ وهل كان الدور الأميركي والغربي بشكل عام غير ما هو عليه في هذه الأيام تجاه ما يحصل في غزة من إبادة جماعية يشارك الغرب فيها علانية؟ بمعنى آخر، وليس دفاعاً عن أي شخصية، هل أن أطماع الغرب في المنطقة العربية وفلسطين قد تراجعت، وهل أن الأنظمة العربية تحرّرت بقراراتها؟ وهل أن أمن إسرائيل لم يعد أولوية على جدول الأعمال الأميركي ـ الغربي؟
للأسف ما رأيناه بالأمس، ها نحن نراه اليوم مجدداً؛
أسوق كلامي هذا كي أُجري مقارنة بين أسلوب الاغتيال المعنوي (وأتبنى بشدة هذه الكلمة) الذي تعرّض له عبد الناصر باعتباره المسؤول عن الهزيمة، وبين التجريح اليومي المستمر وبكل وسائل الضغط المعنوي من أجل تشويه دور مقاومة حزب الله في لبنان وما حقّقت من إنجازات من التحرير في العام 2000 حتى يومنا هذا.
هنا تنتابنا الحيرة مجدداً. فما هو التفسير السياسي والسيكولوجي لمواقف منتقدي المهزومين والمنتصرين معاً، مع أن إسرائيل هي العدو، وتحرير فلسطين ما يزال الهدف؟ وأميركا كانت وما تزال الداعم الأول لإسرائيل وسياساتها العدوانية، وغزة اليوم عنوان التمييز بين الإنسانية والبربرية.
وما يُثير حيرتنا أكثر هو أن تلك الأقلام من يسارها ويمينها والجُدد من الصاعدين في عالم الكتابة والتواصل الاعلامي والمنتسبين إلى منظمات الـ”إن جي أوز” المُحددة الهدف والتصويب والتمويل ورسم الأدوار، نرى أن هؤلاء تابعوا مسيرة المحاكمة/الإعدام/ تحطيم الصورة فكأنما الهزيمة والنصر متطابقان في أذهان هذه الفئة، وربما ـ وهو الأصح – هناك الكثير من الأحقاد الذاتية المُتسترة خلف مواقفهم.
من خلال هذه المقارنة أشير إلى ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن المظلومية بحق تضحيات المقاومة على الحدود مع فلسطين المحتلة في حرب إسرائيل على غزة، كاشفاً بالأرقام عن أعداد العمليات التي نفذتها المقاومة منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر دفاعاً عن غزة، وعن أعداد الشهداء وقد تجاوزوا العشرات، وعن الخسائر المادية والمعنوية والنفسية التي لحقت بالعدو في شمال فلسطين المحتلة.
تنتابنا الحيرة إزاء من يُصرون على خلط الهزيمة والنصر في مشهد واحد، مع افتقار وضحالة في قراءة المشهد البانورامي ككل، أو في عدم رؤيتهم لهذا العدو محتل أرض فلسطين بالقوة والمجازر وتهجير شعبها، وما يزال، وما ينفذه من إبادة جماعية وتطهير عرقي لأهل غزة الفلسطينيين، أو أو أو الخ، مع التوقُّف عند كل هذا العداء الغربي والاستعلاء العنصري الذي لا يغفل عنه إلّا عديمي القدرة على التمييز بين معنى الكرامة والضمير، وبين الدوْس عليهما، وبيعهما في سوق النخاسة.
باختصار، من لم يعترف بتصدي عبد الناصر للامبريالية وتبنيه التام لقضية فلسطين لا يمكنه أن يعترف للسيد حسن نصرالله بتبنيه التام لقضية فلسطين، كما لا يمكنه أن يكون إلى جانب حركة “حماس” وغيرها من فصائل المقاومة في معركة تحرير فلسطين. وهنا أود التذكير بما قاله لكاتبة هذه السطور أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأمينها العام الدكتور جورج حبش في مقابلة نشرتها صحيفة “السفير” بتاريخ السابع من كانون الأول/ديسمبر 1993 وفيها: “أنا كماركسي أقول برافو لحماس وحزب الله لأنهم يتصدون للإمبريالية سواء في القضية الفلسطينية أو في قضايا العالم الثالث، ونحن نرحب بهذا النهوض الإسلامي ونتحالف معه”.
أخيراً، تتبدّد الحيرة/حيرتنا لأننا نؤمن بمقاومين أحياء أصابعهم تشدّ على الزناد. شهداء أحياء يؤدون الصلاة في محراب النور فوق التراب أو في الثرى فهم السائرون في صراطه المستقيم. صراط الحق نحو فلسطين من شمال حدودها. تلك الحدود التي رسمت معادلاتها بدم الشهداء، وتضحيات البيئة الحاضنة، واقتدار القرار القيادي وحكمته. هذي الحدود/ الوهم، منها وعليها وبها ارتسمت معالم حدود لن تكون كما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، على الطريق إلى القدس.