النبطية، من لا يَعرِفَها.. ماذا يعرف؟

في السابع عشر من هذا الشهر، شيّعت مدينة النبطية اللبنانية مجموعة من الشهداء قضوا بعدوان إسرائيلي موصوف، لا غاية له سوى النيل من الحياة.

يُعيد العلامة سليمان ظاهر (1873 ـ 1960) إبن النبطية إسم مدينته إلى قوم عُرفوا تاريخياً بالأنباط، ففي “معجم مدن وقرى جبل عامل” أن الأنباط “جيل من الناس كانوا ينزلون في البطائح بين العراقين، وقامت لهم مملكة بترا في جنوبي شرق الأردن، والجمع أنباط، والنسبة إلى النبطية نبطي ونباطي مثل يمني ويماني”.

ولا يجانب أنيس فريحة (1903 ـ 1993) في “أسماء المدن والقرى اللبنانية” ما أتى عليه سليمان ظاهر، فمعنى نبط “يفيد في العربية دفق الماء وخروجه ونبعه، والأنباط هم سكان شرق الأردن القدماء، وليس بمستبعد أن يكون هذان المكانان، نبط ونبطية، مستقرين لجماعة من الأنباط نزلوا فيهما، وأرجح بأن الأنباط القدماء إنما سموا بهذا الإسم لأنهم كانوا أهل زراعة وفلاحة، مقابلة لهم مع البدو الذين كانوا رعاة”.

والنبط عند ياقوت الحموي (1187 ـ 1229) في “معجم البلدان” هو “الماء المستخرج من الحفر”.

وأما جذور النبط أو الأنباط فلا اتفاق حولها، كما يقول شيخ المحققين احسان عباس (1920 ـ 2003) في “بحوث في تاريخ بلاد الشام” فلا ثبات على كونهم من السكان الأصليين لبلاد الشام والعراق أو انهم قدموا من الجزيرة العربية، لكن ما يُرجّحه إحسان عباس أن النبط أو الأنباط كانوا يكتبون بالآرامية أو السريانية “إذ يكاد يتفق الباحثون على أن الخط العربي إنما اشتق من الحرف النبطي” وهذا ما يذهب إليه استاذ الدراسات العربية في الجامعة الأميركية ببيروت رمزي بعلبكي في “الكتابة السامية والعربية” بقوله “إن الخط النبطي من حيث الأصل خط آرامي” وثمة فترة “استغرقها انتقال الخط النبطي إلى صيغته العربية”.

سوق الوحدة:

من أشهر معالم مدينة النبطية “سوق يوم الإثنين” من كل أسبوع، وتكاد هذه السوق تلخص سيرة مدينة النبطية الوحدوية العابرة للأجناس والمعتقدات الدينية والمذهبية والإنتماءات السياسية، منذ ما قبل استقلال لبنان إلى يومنا هذا، وكأنه أريد لـ”سوق النبطية” أن يكون بطاقة تعريف عن أهل المدينة المترفعين عن كل نغص و ضيق، والمبتعدين عن كل انعزال وانطواء، والمنفتحين على كل عقل وقلب، والرافعين دوما راية الأخوة و بيارق إخوان الصفاء.

لا يُعرف لـ”سوق النبطية” تاريخ محدد، برغم أن التواتر يعيده إلى عهد المماليك في القرن الثالث عشر الميلادي، ومنذ نشأتها كانت هذه السوق ملتقى للآتين من مختلف المدن والقرى القريبة والبعيدة، من الجنوب وجبل لبنان، ومن البقاع الغربي وبعلبك، وفي أحيان كثيرة من أطراف دمشق ومن صفد وقرى الجليل في فلسطين قبل احتلالها، ولعل الصورة التي يقدمها شاكر بك الخوري (1846 ـ 1913) في “مجمع المسرات” الصادر عام 1908 ما يفي بإيجاز الصورة الوحدوية لمدينة النبطية وسوقها، إذ يقول:

“إن هذه السوق من أعظم المحلات التجارية في بلادنا، تجتمع إليها الناس كل نهار اثنين، ويجتمع فيها بين الخمسة آلاف وستة آلاف نسمة من شار وبائع، ومن العجائب انه ينعقد فيها نحو خمسين ألف عقد بين بيع وشراء، وكل ذلك بالقول فقط، ويتم بكلمتين اشتريتُ وبعتُ، ويندر جدا الإختلاف بينهم، والأغرب من ذلك أنهم من كل الأجناس، بين نصارى على اختلاف أجناسهم، ومتاولة ودروز وإسلام وغيرهم، ومع هذا الإجتماع، لحد الآن ما سُمع أن حصل بينهم اختلاف”.

الشيخ أحمد عارف الزين (صاحب مجلة “العرفان” الشهيرة) يكتب في جريدة “جبل عامل” بتاريخ 21 آذار/مارس 1912 معرفاً بالنبطية وأهلها وسوقها، فيقول:

“إن جبل عامل قطر متسع، في داخليته ناحيتان، الأولى ناحية الشقيف ومن أعمالها زهاء أربعين قرية ونفوسها تربو على خمسة وعشرين ألفا وقاعدتها قصبة النبطية التي تبلغ نفوسها سبعة آلاف، وهي بلد راق يضرب في التجارة، بل هو البلد التجاري الوحيد في داخلية القطر، وله سوق عامة تقام في يومي الأحد والإثنين من كل أسبوع يجتمع فيها ما ينيف عن عشرة آلاف نفس بين بائع ومبتاع (وهذه السوق يأتيها) العديد الأكبر من بلاد نائية مختلفة الطبائع والأمزجة والأديان والمذاهب”. 

وعلى ما يبدو أن هذا الإنفتاح النبطاني امتدت مفاعيله إلى أنماط الحُكم والإدارة على ما يلاحظ المستشرق إداورد روبنسون (1794 ـ 1863) ففي كتابه “يوميات في لبنان” يشير إلى أن شيخ إقليم بلاد الشقيف يقيم في النبطية “ويقال إن للشيخ مجلس شورى مؤلفا من أعضاء ينتسبون إلى مذاهب مختلفة”.

عقل الوحدة:

من أعلام مدينة النبطية ومن أعلام لبنان والعرب العلامة أحمد رضا (1873 ـ 1953) وفي كتابه “مذكرات للتاريخ” تفيض الروح الوحدوية عربياً ولبنانياً وتلمع في نصوصه منظومة فكرية مقيمة على التآخي والتسامح والرابطة الوطنية، ومع كل ما يعني ذلك من نبذ للتعصب والإنغلاق والفرقة، ومن جعبة هذا العلامة هذه الأحداث ـ العظات والموعظات أن السلطات العثمانية سعت بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى تحريض أهالي جبل عامل على أشقائهم في جبل لبنان فوقف الشيخ أحمد رضا متصدياً ونابذاً لذلك، وفي روايته:

“في 17 أيلول/سبتمبر 1914، كان البكوات عبد اللطيف بك الأسعد ومحمد بك التامر وفضل بك الفضل في نزل لوكاندة المطران (فندق في مدينة صيدا) وكنتُ أنا نازلاً فيه أيضاً، وذات مساء جاءنا عبد اللطيف بك الأسعد يقول إن رضا باشا الحاكم العسكري في عاليه استدعانا ولعله يطلب أموراً هامة، فقلتُ، وكنتُ سمعتُ حساً خفياً بأن الحكومة تريد أن تُحرّض زعماء جبل عامل على الهجوم على جبل لبنان ليوقدوا فتنة شعواء في البلاد، فقلتُ له لا يمكن لكم الغدر بأبناء وطنكم، ولا يوجد لدي لكم مخرج إلا بأمر واحد، وهو أن يعطيكم أمراً مكتوباً بالهجوم، وهو عندئذ لا يعطيكم لأنه لا يريد تحمل المسؤولية، وفي اليوم الثاني ذهب البكوات إلى عاليه، ولما طلبوا الأمر المكتوب، سكت ـ الحاكم العسكري التركي ـ وأذن لهم بالإنصراف”. 

ذهب الأتراك وجاء الفرنسيون، وكأي غريب عن الديار، عملوا على زرع الشقاق والفراق بين أبناء “الثورة العربية الكبرى” التي كان يقودها الشريف الحسين بن علي، وكان أهل الجنوب اللبناني قد عقدوا لواءهم له، ومن خلال الدائرة المذهبية حاول الفرنسيون “التسلل” لبث الخصومة والتفرقة، ويسرد الشيخ أحمد رضا هذه الواقعة:

إقرأ على موقع 180  العلاقات الفرنسية الشيعية تاريخياً.. جدليَّة الدّور والهويّة

“في 3 نيسان/أبريل 1920 جاء النبطية المسيو شاربنترييه حاكم صيدا العسكري، وجاءنا رئيس البلدية وطلب منا أن نزوره، وكنتُ أنا وزميلي الشيخ سليمان ظاهر وعزمنا على إجابة الطلب، وقال المسيو شاربنتييه:

ـ أعلم ما أنتما عليه وأعرف تأييدكما للحكومة العربية في الشام. إن الحكومة الفرنسية تحب الشيعة وتميل إليهم، ومتى تقرّر المصير وأصبحت فرنسا هي الدولة المنتدبة لسوريا، فإن الشيعة ستنال حقوقها وزيادة، هل تظنون أن حكومة الشام تعطي الشيعة حقوقها”.

ـ الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر: ما الذي يمنع ذلك؟

ـ المسيو شاربنتييه: لمن تدعون في مساجدكم.

ـ الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر: إننا ندعو لملك العرب الملك حسين.

ـ المسيو شاربنتييه: هل تدعون للملك فيصل ـ إبن الشريف الحسين.

ـ الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر: سندعو له وهو أهل لذلك، لأن ملكيته كانت بإجماع أهل الحل والعقد.

ـ المسيو شاربنتييه: كيف تقولون برئاسة الملك الحسين الدينية، وهو سني وأنتم شيعة.

ـ الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر: لأنه قد حاز الشروط من حيث كونه قرشياً هاشمياً، ولا يمنع من خلافته كونه سنياً”.

ومن عقول النبطية ومفكري لبنان والعرب العلامة محمد جابر آل صفا (1870 ـ 1945) الذي شكّل ثلاثياً ذهبياً مع أحمد رضا وسليمان ظاهر، فكان للثلاثة روح وقّادة واحدة، وتصدروا قائمة المناوئين للأتراك عبر انخراطهم المبكر في الجمعيات العربية السرية وكادت مشانق جمال باشا السفاح تلتف حول أعناقهم لولا قدرة قادر، وكذلك كانت حالهم مع الفرنسيين، وهم ثلاثة من خمسة وضعوا مقررات مؤتمر “وادي الحجير” الشهير كما أورد آل صفا في كتابه “تاريج جبل عامل”.

وبعد مؤتمر “وادي الحجير” عملت فرنسا على دس الدسائس، كما يقول محمد جابر آل صفا “وشاءت الدسائس ألا تُبقي الوفاق ـ بين اللبنانيين ـ ووقعت فاجعة بلدة عين إبل عام 1920، كل هذا والحكومة ـ الفرنسية ـ لم تحرك ساكناً، ولما تفاقم الأمر، فرّ سكان جديدة مرجعيون إلى النبطية فلاقاهم أهلها بالترحاب وأقاموا أشهراً على الرحب والسعة، حتى هدأت الأحوال فعادوا شاكرين ونشروا بلاغاً في صحف بيروت يُعرب عن ارتياحهم”.

وفي أبعاد ومجالات أخرى، كان للنبطية دور ريادي في تأسيس “المجمع العربي العلمي” في دمشق عام 1920 فذاك الثلاثي (ظاهر ـ رضا ـ جابر) من أعضائه المؤسسين، وهذا ما كانت عليه جمعية “المقاصد الإسلامية” فقد كان الثلاثي من مؤسسيها.

أنوار النبطية:

عند مدخل مدينة النبطية، يستقبل تمثال حسن كامل الصباح الوافدين إليها والعابرين منها، وهذا العالم المظلوم (1895 ـ 1935) الذي تعود إليه عشرات براءات الإختراع، والملقب بـ”إديسون العرب” كان من أوائل العلماء الذين عملوا على إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، وكان حلمه أن ينير دنيا العرب مستفيداً من الربع الخالي في المملكة العربية السعودية وصحراء العراق وبادية الشام، لم تأخذه لوثة تعصب ولا نوبة تمذهب، كان عربياً صافياً كأبناء النبطية، عنه يقول محمد جابر آل صفا:

“أعظم ما طمح إليه حسن كامل الصبّاح، ذلك الأمل في تسخير أشعة الشمس المحرقة في الصحراء العربية لإنارة المدن والقرى، وقد فاوضه الملك فيصل الأول ـ إبن الشريف الحسين ـ ملك العراق، بإنشاء معامل لتوليد القوة الكهربائية وتوزيعها على كل الأقطار العربية، وكاد ينتهي الأمر بإستقدامه إلى العراق لولا وفاة الملك فيصل”.

بعد وفاة ملك العراق فيصل الأول عام 1933 وبالإستناد إلى شهادة المفكر عجاج نويهض (1896 ـ 1982)  في مجلة “العربي” الكويتية (شباط/فبراير 1981) أنه يذكر “جيداً أن الأمير شكيب ارسلان كان يكاتب الملك فيصل بشأن مشروعات حسن كامل، ولكن وفاة فيصل أوقفت هذا المسعى الذي انتقل إلى الملك عبد العزيز ـ آل سعود ـ على يد الأمير شكيب، وربما لو روجعت أوراق الملك عبد العزيز لعُثر على مراسلات الأمير شكيب”.

أخيراً؛ زجل لبناني عن حسن كامل الصبّاح وجبران خليل جبران:

على وزن “القرادي” يقول الشاعر أسعد سعيد متوجها لزميله جان رعد:

يا جان من لبنان مدرسة الشعوب/ غنينا أميركا عقول وسحرنا قلوب 

بالعبقري جبران من قلب الشمال/ وبالعالم الصبّاح من قلب الجنوب.

وهنا يُجيبه جان رعد:

نحنا يا أسعد صوت والعالم صدى/ الرجال لحكيت عنهم اتحدوا الردا 

لمش سامع بجبران مش فاتح كتاب/ لما بيعرف الصبّاح ما بيعرف حدا.

فعلاً؛ من لا يعرف النبطية.. ماذا يعرف؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  مراسم دفن الدين السياسي.. هل بدأت؟