يأتي طرح هذا السؤال في ضوء مراجعة للمسار الممتد منذ أول زيارة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غداة إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020، حتى يومنا هذا، ولا سيما محطة جمع القيادات اللبنانية في قصر الصنوبر وإطلاق ما أسميت “المبادرة الفرنسية”، إستناداً إلى ورقة فرنسية سلمها ماكرون للقيادات اللبنانية.
منذ ذلك التّاريخ تعقّدت الأمور كثيرًا، وشهدنا انكفاءً فرنسيًّا كبيرًا في قوّة دفع هذه المبادرة الّتي واجهتها قوى السّلطة بشراسة، ووضعت الكثير من العصيّ في طريق تطبيقها كونها تتعارض مع مصالح هذه الطّبقة، خاصّة وأنّها كانت يومها قد أدرجت الكثير من البنود الإصلاحيّة الّتي تتعارض بشكل قطعيّ مع مصالح مُعظم مُكوّنات هذه السّلطة، ومنها حياديّة أو استقلاليّة الوزراء في “حكومة المهمة”، وأن يكونوا من أصحاب الاختصاص والكفاءة والاستقلاليّة في اتّخاذ القرار، بعيدًا عن التّبعيّة الحزبيّة السّائدة، فتبيّن للجميع بسرعة أنّ تحقيق ذلك غير مُمكن، وذلك بسبب تعوّد مُكوّنات السّلطة على المُحاصصة وكسب المكاسب على حساب بناء الوطن، وهذا ما يجعلنا نتخوّف من أن تكون هناك عمليّات مناورة والتفاف لمحاولة إنقاذ الطّبقة الحاكمة من مأزقها المهول الّذي وصلت إليه، وذلك بسبب المرونة الفرنسيّة الواضحة والحاصلة اليوم في مُعظم التّقارير والتّسريبات، خاصّة بعد أخذ الضّوء الأخضر الأميركيّ المبدئيّ، والسّعي بكل الوسائل لتمرير المبادرة، وتشكيل حكومة كيفما كان، أو بشروط أقلّ تشدّدًا ممّا مضى، للإسراع ببدء عمليّات الإصلاح المطلوب، وتوّلي التّفاوض مع صندوق النّقد الدّوليّ والجهات الدّوليّة المانحة الأخرى.
أكثر ما يخيفنا في هذه المقاربات هو التّسليم الفرنسيّ المُحتّم بمبدأ “عفا الله عما مضى”، وطيّ صفحة ملفّات الفساد القديمة، وهكذا تكون مكوّنات السّلطة قد حصلت على صكّ براءة مجّانيّ، وإعفاء عن كلّ ما قامت به في السّابق من عمليّات هدر وفساد وسطو على المال العامّ
ومن الملاحظ أنّ هناك تراجعًا فرنسيًّا واضحًا عن مبدأ حكومة الاختصاصيّين، والقبول بدخول سياسيّين في التّشكيلة العتيدة، وبالرّغم من أنّ المصادر الفرنسيّة تجزم بأنّ البنود الإصلاحيّة كثيرة، وتُعدّ مقبولة نسبيًّا، وهي البنود نفسها الّتي كانت واردة في الورقة الأولى، لكنّنا كقوى مجتمع مدنيّ ونخب واعية، يحقّ لنا أن نتساءل عن إمكانيّة تحقيق ذلك في ظلّ كلّ التّجاذبات الدّاخليّة الحاصلة، والصّراع المُحتدم على بعض الوزارات، خوفًا من أن تفتح كلّ جهة ملفّات الجهة الأخرى بشكلٍ استنسابيّ، ولذلك فإنّ أكثر ما يخيفنا في هذه المقاربات هو التّسليم الفرنسيّ المُحتّم بمبدأ “عفا الله عما مضى”، وطيّ صفحة ملفّات الفساد القديمة، وهكذا تكون مكوّنات السّلطة قد حصلت على صكّ براءة مجّانيّ، وإعفاء عن كلّ ما قامت به في السّابق من عمليّات هدر وفساد وسطو على المال العامّ.
وإذا سلّمنا جدلًا بأنّها ستكون الفرصة الأخيرة لاحتمال بداية طريق الإنقاذ قبل الانهيار الكبير، إلّا أنّها قد تكون أيضًا بمثابة الفرصة الذّهبية للطّبقة الحاكمة لإنقاذ نفسها، والصّعود من الهوّة السّحيقة الّتي سقطت فيها، وبذلك تُصبح المبادرة مبادرة إنقاذ للسّياسيّين المتورّطين في لبنان، بدلًا من محاولة إنقاذ حقيقيّ لشعب لبنان، ولذلك، فإنّ التّشاؤم هو سيّد الموقف، برغم أنّنا قد نكون أمام “آخر خرطوشة فرنسيّة ببندقيّة أميركيّة”، وعلينا أن ننتظر حتّى منتصف أو آخر شهر آذار/ مارس المقبل، على الأقلّ، لاستكمال وضوح الرّؤية، وزيارة ماكرون للسّعوديّة، ومتابعة المشاورات مع كلّ الجهات المعنيّة، خاصّة لجهة معرفة موقف الإدارة الأميركيّة الجديدة، وطريقة تعاطيها مع ملفّات المنطقة.
لا بد من محاولة تقديم مُقاربة جديدة للأزمات الخطيرة الحاصلة، بهدف السّعي لطرح الحلول والبدائل الممكنة للحلّ السّياسيّ والاقتصاديّ، وعلى صعيد الإصلاحات المطلوبة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ لبنان، خاصّة في حال فشل المُبادرة الفرنسيّة، كوننا أمام مفترق طُرق خطير على مستوى مستقبل الكيان اللّبنانيّ، ومستوياته جميعها.