حتى أن لغتنا العربية زادت الأمر التباساً عندما جمعت بين “البطولة” و”الباطل” في نفس الجذر اللغوي! فهل كان ذلك لأن البطولة تقضي على الباطل، أم لأنها قد تعزّزه وترّسخه؟
في هذا المقال نستكشف معاً كيف تعاطت الوسائل المعرفية المختلفة مع فكرة البطولة بداية من الشيوعية والرأسمالية مروراً بالدين والعلم.
البطولة بين الشيوعية والرأسمالية
لمّا كانت الشيوعية والرأسمالية هما الإطاران اللذان شكّلا حياتنا على امتداد القرن الماضي كله حتى لحظتنا الراهنة، كان من الأنسب أن نبدأ بهما. عرف عنهما التناقض منذ البداية، إلا أن البعض مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري ذهب في تشريحهما أعمق من غيره واكتشف أنّ التناقض بينهما سطحي ولكنهما في العمق المعرفي متطابقان. وإن كانت الشيوعية قد انهزمت أمام الرأسمالية فليس ذلك دليلاً على صلاح الأخيرة وقوتها، بل إنها بلا شك سائرة إلى زوال. فهي تطابق الشيوعية في العمق المعرفي، وعليه، لم تختلف نهايتها عنها وإن تأخرت قليلاً. وإن كان ذلك شعوراً متنامياً الآن مع تصاعد الأزمات الإقتصادية على مستوى العالم وانكشاف الوجه القبيح للعنصرية والوحشية الغربية ابتداءً من أوكرانيا وصولاً إلى غزة، فقد كان ذلك واضحاً لأولي الألباب منذ أكثر من قرن من الزمان. فقد تنبأ بهذا الانهيار فيلسوف الحضارة اشبنجلر في كتابه الفذ “تدهور الحضارة الغربية” عام 1922. وكذلك توصل إلى النتيجة نفسها جوستاف لوبون في كتابة “فلسفة التاريخ” عام 1931 برغم حماسته الشديدة للولايات المتحدة وبغضه الأشد للسوفييت آنذاك. ومما يتعلق باتفاقهما علي مستوى العمق المعرفي اتفاقهما على احتقار البطولة مع اختلاف الدوافع لذلك الاحتقار. فالشيوعية احتقرت الفرد وأنكرت أي تميز له وجعلت أي فضيلة ممكنة له نتيجة للمجتمع وحركيته. فالبطلولة والعبقرية للمجتمع لا الفرد. أما الرأسمالية فردّت على تعظيم الشيوعية للمجتمع باحتقارها للجمهور، فنزلت به إلى مرتبة الطفولة غير الراشدة أو طور الإنسان البدائي الهمجي الذي تغلبه عواطفه ولا دور للعقل في حياته. فقد رأت الرأسمالية أن الجمهور حيوان مفترس عظيم القوة عديم العقل تلعب البطولة فيه دور مروّض الوحوش. ولذا انتشرت في المجتمعات الرأسمالية البطولات الغرائزية كبطولات السينما والمصارعة والرياضة والموضة والسوشيل ميديا التي تغري ذلك الوحش وتشغله وتجعل لغضبه ووحشيته مصرفاً بعيداً عن السلطة، كما نصح بذلك برتراند راسل في كتابه “السلطة والفرد”. وقد تبنى غالبية المثقفين في العالم العربي تلك الرؤية، فأصبح راسخاً عندهم أن الجمهور مغيب وعاطفي وجاهل، وأن البطل مستغل ومناور ومخادع يلعب بعاطفة الجمهور ويستغل جهله من أجل التمكين لنفسه.
البطولة في الدين
وعلى عكس تلك الرؤية، يأتي موقف الدين. فكل مذهب ديني فيه شخص مركزّي مع اختلاف رتبته بين نبيّ ووليّ. بل ذهبت بعض المذاهب الاسلامية كالشيعة إلى جعل الإمام (البطل) ركناً من أركان الدين، كما شرح ذلك المفكر الكبير علي شريعتي في كتابه “الأمة والإمامة” عندما توقف أمام مصطلح “الأمة” الذي استخدمه القرآن لوصف المسلمين بديلاً عن القوم أو الشعب أو القبيلة، مع أنه استخدم بعض تلك المصطلحات لوصف أقوام آخرين. ولم يفارق أهل السنة هذا المسلك كثيراً. فقد ذهبوا إلى أن الخلافة شرط من شروط اقامة الدين وإن لم يكن ركناً. فالبطولة حاضرة في كل دين بقوة بدءاً من ابلاغ الرسالة إلى إقامة الدين وشعائره ودولته. ففي الدين، تكون البطولة الفردية ممدوحة طالما التزمت دورها في خدمة الجمهور لا استغلاله والتسيّد عليه. وكثيراً ما ينحرف ذلك الدور في الدين، ولكن انحراف التطبيق لا ينفي صلاحية الفكرة خصوصاً اذا انوجدت تطبيقات سليمة في فترات سابقة.
البطولة في العلم
أما في العلوم فهناك دور للبطولة أقرب للدين منه للشيوعية أو الرأسمالية. والبطل هنا هو القوى الخارجية التي تُفرض على محتوى من الأجسام أو الجسيمات فتقضي على العشوائية فيه/فيها.. وتفرض النظام. فالحديد مثلاً من حيث خصائصه المغناطيسية ليس مغناطيساً ولكنه قابل لأن يُصبح مغناطيساً. السبب في ذلك أن بنيته الذرية تحتوي علي مغناطيسيات صغيرة ولكن في اتجاهات عشوائية يهدم بعضها بعضاً، فإذا تعرض لمجال مغناطيسي خارجي، فإن ذلك المجال يُجبر تلك المغناطيسيات العشوائية على الاصطفاف في اتجاه واحد، فإذا بالحديد يصير مغناطيسا. كذلك فإن الجسيمات الأولية التي خُلق منها الكون كانت في بدايتها عديمة الكتلة. ولو ظلّت على تلك الحالة لما أتيح للكون أن يصل إلى حالته تلك من التطور من ذرات ومجرات وحياة! وأصل الكتلة لتلك الجسيمات هو مجال يسمى مجال الهيجز. عندما نشط ذلك المجال انفعلت له كل الجسيمات الأخرى فاكتسبت كتلها وشرع الكون في تطوره الذي تُوّج بالوعي. والأمثلة في العلم كثيرة، والنقطة الرئيسية هي أنه حيثما وجد نظام فهناك قوة أو مبدأ أو عامل ما وراء انتظامه، واذا ما اختفى ذلك العامل فالعشوائية هي النتيجة الحتمية ومنها إلى الفناء والعدم. وذلك يعود إلى أحد أرسخ قوانين الفيزياء، القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن الطبيعة تميل إلى هدم النظم وزيادة العشوائية، وأنه لا يوجد نظام إلا لقوة قاهرة من ورائه.
ضرورة البطولة
ليس الجمهور غبياً ساذجاً أو عاطفياً بلغة جوستاف لوبون، بل له من القدرة الابداعية العقلية ما يمكن أن يتجاوز العقل الفردي مثل ابتكار اللغة والفولكلور الشعبي كما ذهب إلى ذلك سيغموند فرويد في كتابه “علم نفس الجماهير” رداً على لوبون. ثم أن أعقد ما في الفلسفة هي تلك البديهيات أو المسلمات (Common sense) التي يُبنى عليها كل فكر وهي في نفسها لا دليل عليها إلا أنها إدراك مشترك أجمع عليه الناس. وكأن علم المنطق يستند في آخر الأمر إلى إجماع الجمهور! ولكن تلك الإبداعات العقلية للجمهور لاحقة على عقل فرد موجه أو عقول مفردة؛ بطل أو مجموعة أبطال، كما ذكرنا في مقال سابق. فالعلاقة بين الأبطال والجمهور تكاملية، يُجسد فيها الأبطال الأفكار وينفخ الجمهور فيها الروح بما توافر لديه من قوة الفعل. فإذا كان أبطالهم من ذوي العقول الراجحة تضخم العقل فيهم حتى فاق أبطالهم. أما في غياب تلك النماذج الموجهة تتراجع الابداعات العقلية للجمهور وتتصدر العاطفة، وعندها لا يرى كل فرد إلا نفسه ويسعى إلى مصلحته من دون تقدير مصالح الآخرين، فيقع الصدام وتسود الفرقة بعد تسيد المصالح والأهواء. ولذا كان دور البطل ضرورة، فمن خلاله تنتظم المصالح في أضيق حد من الصدام إلى أن يرتقي الناس، كما قال الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد:
“كان الناس في دور الهمجية، فكان دُهاتهم بينهم آلهة وأنبياء، ثمَّ ترقّى النّاس، فهبط هؤلاء لمقام الجبابرة والأولياء، ثمَّ زاد الرّقي فانحطَّ أولئك إلى مرتبة الحُكَّام والحكماء، حتى صار النّاس ناساً فزال العماء، وانكشف الغطاء، وبان أنَّ الكلَّ أكفاء. فأناشدكم الله في أي الأدوار أنتم؟ ألا تفكِّرون”؟
وهو ان كان يرى أنه في مرحلة من التطور يتساوى الجميع وتزول الحاجة إلى البطولة، فهو يرى في موضع آخر أنها مرحلة لم ولن تتحقق قط:
“أما بلوغ الترقّي بالأمم إلى المرتبة القصوى السّامية التي تليق بالإنسانية، فهذا لم يسمح الزمان حتَّى الآن بأمَّةٍ تصلح مثالاً له، لأنَّه إلى الآن لم توجد أمَّة حكمت نفسها برأيها العام حُكماً لا يشوبه نوعٌ من الاستبداد ولو باسم الوقار والاحترام، أو بنوعٍ من الإغفال ولو ببذر الشِّقاق الديني أو الجنسي بين الناس”.
فالناس في حياتهم أشبه بتلك المغناطيسيات العشوائية، يتحرك كل في حياته من أجل نفسه غير مبال بالآخر. وكلما اقترب من غيره زاد نفوره. وقد عبّر عن ذلك شوبنهاور عندما رصد مجموعة من القنافذ في يوم شديد البرودة تقترب من بعضها البعض طلباً للدفء ولكنها ما لبثت أن أوجعها شوكها حتى تباعدت، واستمر التداني والتنائي إلى أن وصلت إلى مسافة آمنة بمنجى من الأذى.
خطورة البطولة
ولكن من يضمن عدم انحراف البطل وفساده، وقد عانينا في تاريخنا الحديث كثيراً من انحراف الأبطال. بعضهم كان بطلاً بصدق، تجسّدت فيه أماني أمته وكان أحق بها وأهلها. اندمج بالجمهور وتماهي فيه الجمهور، كما يقول فرويد، فأصبح كل فرد من الجمهور يرى نفسه فيه. وبذلك كان هو في ذاته رابطاً وثيقاً بين أفراد الجمهور، وهو ما أفضّل وصفه بالحلول والاتحاد. فقد اتحد البطل والجمهور وحلا في جسد واحد عظيم العقل والقدرة. وتلك حالة تفسر الصحوات المفاجئة السريعة في التاريخ. نجدها في تجربة الإسكندر المقدوني، وهي أعظم في تجربة محمد بن عبدالله. ولكن بمجرد غياب البطل تنفصل عرى الجمهور ويرتد إلى عاطفته وعصبيته المُدمّرة ويبدأ الصراع. وتلك حالة مشهورة حتى في المؤسسات. قد يظن البعض أنه يمكن تجنبها إذا ما جعلنا البطولة لمؤسسة لا لفرد، وليس ذلك صحيحاً. نعم المؤسسة أطول عمراً من الفرد ولكنها برحيل الفرد تفقد حيويتها ويكون عمرها بعده بلا انجاز يذكر. وذلك ما يُفسر ضعف الدول بعد رحيل الجيل المؤسس ثم انحدارها تدريجياً وصولاً إلى الإنهيار، كما شرح إبن خلدون في مقدمته. بل تلك حالة مشهورة حتى في العلوم. فجامعة جوتنجن الألمانية أصابها نوع من الجمود برحيل جاوس، وكذلك حدث نفس الجمود لجامعة كامبريدج برحيل نيوتن. بغياب البطل يحدث نوع من التراخي للمؤسسات يستمر زمناً إلى أن يُجدّد شبابها عظيم آخر. وبذلك يكون خطر البطولة أن انجازها مرتبط بفرد أو مجموعة أفراد برحيلهم يُهدّد الانجاز كله. وهناك مخاطر أخرى أشدها انحراف البطل وفساده تأثراً بتهافت الناس عليه ونظم القوافي فيه وتكالب المنافقين حتى يقضوا على اتحاده بالجمهور ويستحيل إلهاً أو شبه إله، كما ذكر الكواكبي. وربما كان سبب ذلك التأليه أن أغلب الناس لا يستطيع الفصل بين البطل والفكرة، فيصبح معصوماً منزّهاً وذلك بداية الانهيار. ووجه آخر من مخاطر البطولة هو التماهي الدائم في البطل حتى يصبح هو المصدر الوحيد للفعل. بمعنى أن المجتمع يوكل اليه الفعل وحده ويتخلص من مسؤوليته “اذهب أنت وربك فقاتلا”. لا ينبغي لكل ذلك أن يزّهدنا في البطولة كما يحاول البعض أن يرسخ ذلك تستراً بـ”النقد” وما هو إلا الهدم والتشويه. فأي نقد ذلك الذي يطالب بنبش القبور والتمثيل بمن رحلوا من عقود وقرون بدعوى أنهم سبب تخلفنا، وهم في نفس الوقت يُمجّدون ويُسبّحون بحمد من بالسلطة. أي نقد ذلك الذي يُجّرد الأمة ممن خدموها وضحوا بحياتهم في سبيلها فإذا الجيل الناشئ بلا قدوة تهديه، يتيم الفكر، فريسة ضعيفة لكل تافه ورخيص.
نعم هناك خطر على المجتمع من انحراف أبطاله، ولكن عدم تواجدهم في المقام الأول أو محاربتهم فقتلهم اذا وجدوا نهاية حتمية. وذلك قياساً على اعتراض ابن رشد على الغزالي في تحريمه للفلسفة خوفاً على الناس من ضلالها، إذ قال إنه قد يكون في درس الفلسفة خطر محتمل ولكن منعه خطر أكيد. وكذلك فإن في تحقق البطولة خطر محتمل بالانحراف، ولكن في غيابها خطر حتمي بالانهيار.
عصمة البطولة
وتلك أخطار يمكن تحاشيها أو على الأقل اضعافها عنما تكون البطولة تداخلاً بين البطل والجمهور. بمعنى آخر عندما يتزامن الأبطال مع جيل لا يقل عنهم بطولة، عندئذٍ يكونوا جميعاً “قد جاءوا في موعدهم مع القدر”. فقد يحدث أن يوجد بطل الأبطال في عصر من العصور ولكن وحده دون من ينفعل له ومعه. عندئذ تصبح بطولته وبالاً عليه. وفي الإمام عليّ كرّم الله وجهه خير مثال. وهو البطل الذي لا يدانيه أحد، فقد كان أمة وحده، ولكن مع جمهور وصفه هو بقوله “أشباه الرجال ولا رجال، طغام الأحلام، وعقول ربّات الحجال”. فكانت النتيجة أن مات كمداً قبل أن يموت شهيداً. فإن لم يصادف البطل عصراً أو جيلاً متطلعاً إلى تغيير وقادر عليه، ينفعل للبطل ورؤيته ويصطف تحت قيادته، فلن يكون ذلك البطل سوى قتيل عصره وجيله. فالبطل ليس خالقاً وانما موحداً وقائداً، فان لم يجد من يقود وصادف قدره أمة عاقراً مات كمداً قبل أن يموت قتيلاً، ولا بد له من القتل. ومثاله في ذلك مثال المغناطيس الذي يمغنط الحديد ولكن يعجز مهما أوتي من قوة أن يمغنط النحاس. فإن حدث والتقى مع ذلك الجيل، كان ذلك الجيل خير عاصم له من الميل والذلل. فذلك جيل يقّدر الرجال ولكن تقديره للحق أكبر، كالرجل الذي قال لعمر “لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا”. فذلك الرجل لا يقل عن عمر بطولة، وتكون البطولة ها هنا مشتركة بين الفرد والمجتمع. فرد بطل يُوقظ المجتمع ويُنظّمه، ومجتمعٌ بطلٌ يحميه ويقّومه.
وأظننا الآن في مرحلة المجتمع البطل الذي طحنته الأزمات من المحيط إلى الخليج فآيست البعض وأنضجت آخرين وشحذت هممهم. ولكنهم بعد في انتظار البطولة الفردية التي تدفعهم إلى العمل بمقدار تضحيتها في سبيل الحق أمامهم، فتحيي فيهم العزيمة، وتتراجع الذاتية، وتتقدم الروح الجماعية، ويهبوا جميعاً للعمل والتغيير.