النخب بلا دورها المعرفي.. أداة بيد الإستبداد

في كتابه الجديد، بعنوان “تأملات 2022 في الحرية والسياسة والدولة” لمؤلفه الفضل شلق (الدار العربية للعلوم ـ ناشرون؛ 2023)، يسرح الكاتب في حقل سياسي فكري مترامي الأطراف. يناقش قضايا الإمبريالية والحرية والإستبداد والدين والمعرفة، كما تشي عناوين هذه المقالة.

ما تحالفت الامبريالية يوماً مع الحركات الشعبية، يسارية كانت أو يمينية، أو حتى إسلامية؛ بل فعلت ذلك مع قوى الاستبداد. ما أيدت الامبريالية الديمقراطية يوماً في بلادنا، وبقية العالم، بل منحت حمايتها دوما لقوى الاستبداد، وريثة حركات التحرر الوطني، وحليفة القوى الدينية الخارجة عن دين المجتمع. القوى الامبريالية كانت على صراع في ما بينها حين تقاسمت العالم في مؤتمر برلين، وبعده في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحاربت بعضها بعضاً في الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. وكانت حليفة أنظمة الاستبداد في الحرب الباردة وبعدها. وفي الحرب على العراق كانت الأنظمة العربية، أي منظومة الاستبداد، شريكة الامبريالية. هذا يعني أن صدام حسين كان على حق، كما أن فلاديمير بوتين الآن في الحرب على أوكرانيا ليس على حق. وعود الامبريالية الكاذبة مسؤولة بالدرجة الأولى عن هذه الحرب وتلك. أما صدام ثم بوتين فينطبق على كل منهما قول: “خدعوها بقولهم حسناء”.

الإمبريالية والإستبداد

العلاقة قوية بين الامبريالية وحكام الاستبداد، حتى التي حددت وضعية المجتمع بعد الاستقلال. ما يحكى عن التبعية هو تعبير عن علاقة حكام عهد الاستقلال بالغرب. بقي المجتمع معادياً للامبريالية، وبقي العداء سياسياً. جاء حكام الاستقلال، أساؤوا العلاقة مع مجتمعهم. عاملوه بفظاظة وفجاجة. سلطوا عليه أجهزة الأمن والبيروقراطية؛ صارت العلاقة بينهم وبين مجتمعهم سلبية. صار المجتمع معادياً للسلطة. فقدت السلطة شرعيتها. بقاؤها في الحكم كان هو الأولوية الأولى، بل الوحيدة لديها. أنشأوا علاقات ايجابية مع الغرب؛ اتبعوا سياسة واقعية؛ بين الامبريالية والمجتمع، اختاروا الامبريالية. فهي الأقوى. ظنوا أن في العداء الثقافي للامبريالية إرضاء لمجتمعاتهم. فشنوا تعبئة ثقافية ضد الثقافة الغربية، واخترعوا تعبير “الغزو الثقافي”، الذي ادعوا مواجهته. هم الذين شنوا حرب الثقافات المغلوطة الزائفة الكاذبة، التي نظّر لها هنتنغتون. حتى في تلك فقد كانوا كاذبين، إذ استفادوا من كل العلاقات مع الامبريالية، حتى الثقافية منها. لكنهم استخدموا التعبئة الثقافية ضد الامبريالية، كامتداد لحرب التحرر الوطني، بينما جعلوا “منافع” العلاقة الإيجابية حكراً عليهم وعلى حاشيتهم.

كانت بداية الاخوان المسلمين قبل عبد الناصر بعشرين سنة. وكان مزاج الناس أيام عبد الناصر عروبياً وحدوياً. وعندما حدثت المواجهة بين عبد الناصر والاخوان المسلمين، كان الناس مع عبد الناصر. في العقد ذاته، أي في الخمسينيات، لم يكن باستطاعة مرشح واحد للأخوان المسلمين الفوز في النتخابات النيابية

في المقابل، لم تكن الامبريالية بحاجة الى أكثر من أن يتعامل الحكام الجدد مع مجتمعهم بفظاظة، وديكتاتورية، وقمع، وقسر، وإكراه، كي يدعمونهم كما لو كان الواحد منهم المفوّض السامي للامبريالية في بلاده. في نفس الوقت استماتت الامبريالية في محاربة القادة المحليين الذين كانوا يعبرّون عن هواجس مجتمعهم، ولو استخدموا أدوات وأجهزة القمع كجمال عبد الناصر مثلاً.

تغيّر الدين من الرحابة وقبول التطوّر والحداثة التلقائية الى الأصولية ورفض التطوّر والحداثة القسرية، المفروضة من فوق. كان سببه السياسات التي اتبعها حكام عهد الاستقلال. ربما كان هوشيه منه بعد التحرير من القادة القلائل للتحرر الوطني الذي رفض السكن في قصر بنوه له وأصر على السكن في بيته المتواضع.

المزاج الديني

في التأريخ للمراحل المعاصرة، وربما لكل المراحل السابقة، تعتمد نقطة النهاية والاستنتاجات المتعلقة بها على نقطة البداية التي تختارها. إذا بدأت المرحلة الراهنة في الثمانينيات، أو حتى السبعينيات من القرن العشرين، تجد المجتمع يسوده المزاج الديني، وتستنتج أن المشكلة هي في الإسلام؛ وتُخفى عليك الأسباب الحقيقية لذلك. وإذا بدأت المرحلة في الخمسينيات من ذلك القرن أو حتى قبل ذلك، تصل الى نتائج مغايرة. كانت بداية الاخوان المسلمين قبل عبد الناصر بعشرين سنة. وكان مزاج الناس أيام عبد الناصر عروبياً وحدوياً. وعندما حدثت المواجهة بين عبد الناصر والاخوان المسلمين، كان الناس مع عبد الناصر. في العقد ذاته، أي في الخمسينيات، لم يكن باستطاعة مرشح واحد للأخوان المسلمين الفوز في النتخابات النيابية. كان أكرم حوراني في حماه، وخالد بكداش، هذا بعثي وهذا شيوعي، زعيمين حقيقيين لجماهير واسعة من الناس. أكثر بكثير مما لدى الاخوان المسلمين. تغيّر الوضع مع الرئيس المؤمن محمد أنور السادات، الذي بنى علاقات مع الاخوان المسلمين، وفي نفس الوقت أعلن سياسة الانفتاح على الامبريالية. كل ذلك في محاولة يائسة منه لاكتساب شرعية فقدها بالابتعاد عن نهج عبد الناصر، واتخاذه طريقاً أدت الى زيارة اسرائيل واتفاقية كامب دايفيد.

وفي إيران، هل كانت الثورة الإسلامية الخمينية ممكنة لولا ثورة محمد مصدّق الذي أمم النفط في مطلع الخمسينيات الماضية، فدبرت الامبريالية الأميركية انقلاباً ضده أعاد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي شرع بتنفيذ مخطط قمعي إجرامي غير مسبوق؟ وفي تركيا، هل كان رجب طيب أردوغان ممكناً لولا الانقلاب العسكري في مطلع الثمانينيات الذي جاء بالنيوليبرالية على يد تورغوت أوزال، تلميذ سعيد النورسي، والذي ارتفع في أيامه عدد أئمة المساجد من خمسين ألفاً الى مليون ومائة ألف؟ وفي أفغانستان، هل كانت حركة الطالبان ممكنة لولا الغزو السوفياتي الذي عزل ملكاً، لم يكن الجمهور معادياً له، وجاء بحكام أشبه بالدمى. تذرعوا بالشيوعية في محاولة لاكتساب شرعية فقدت مع عداء الناس لسلطة “التحرر”؟

ديكتاتورية الإمبرياليات

يبدو أن الامبرياليات جميعها، سواء كانت يمينية أو يسارية، لا تستطيع، بل لا تريد، إلا التعامل مع ديكتاتوريات في بلدان “التحرر الوطني”. وقد استطاعت الامبريالية التلاعب بمجتمعات اضطرت الى الجلاء عنها بفضل حروب التحرر الوطني. إن التحرر الوطني لا يعني بالضرورة الحرية لأبنائه. ورحيل الاستعمار المباشر لا يعني رحيل الامبريالية. فهذه هي الرأسمالية في صيرورتها الى نظام عالمي.

الذين يعادون الامبراطورية، لا يدرك معظمهم أن عداءهم ومقاومتهم لها لا يعنيان الكثير، إن لم يكن الأساس هو العداء للرأسمالية. لا نعرف إذا كان لينين على حق في تسمية الامبريالية “أعلى مراحل الرأسمالية”، وهي عنوان كتاب له. يتحدث الكثيرون من أهل اليسار والشيوعية عن أزمة الرأسمالية. وهي أزمات متلاحقة وحقيقية. ويتجاهلون، أو يجهلون، أزمات المجتمعات والطبقات الدنيا، الناتجة عن عدم القدرة على إيجاد الطرق والوسائل للخلاص من الرأسمالية. لا اعتراض على تعبير لينين. لكننا لا نعرف إذا كانت الرأسمالية سوف ترحل دون الخلاص من البشرية. الحرب على أوكرانيا، أو في أوكرانيا، هي صراع بين امبرياليتين، روسيا والولايات المتحدة. والحديث لدى الطرفين يدور حول تهديد الأمن الغذائي عالمياً. وهناك أوبئة لا نعرف مصدرها. ومجاعات يهددوننا بها. فالى أين المصير؟ ألم يستخدم الكاتب الأميركي الشهير، من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، في كتابه المهم الصادر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تعبير “الإنسان الأخير”؟

إقرأ على موقع 180  يا إلهي.. عالمٌ عربيٌ يُسْكِرَهُ الدم

ثلاثية إستبدادية

تحولت قوى التحرر الوطني الى استبداد، كانت خطورته، وما تزال، هي بالإضافة الى قمع المجتمع، وحجب الحريات، تكوين نخب ثقافية وسياسية دارت حول السلطة. وكان همها، أو الأولوية عندها، إرضاء الطاغية، ونهب المجتمع مادياً ومعنوياً. بغض النظر عن الثروات الكبرى التي كونتها على حساب الناس، كان وجودها يشكّل انسداداً لأفاق التطوّر التلقائي للمجتمع. نخب ذات عقل تقني بسبب انتهازيتها وذرائعيتها؛ لا تسأل، لا تجادل، لا تحاور، لا تعرف إلا الطاعة وآليات الانصياع، أو ما يُسمى “الانقماع الذاتي”. تمارس على نفسها قمعاً لتجنب الأخطاء في الممارسة أو النظرية. وحتى لا تثير غضب الطاغية وأعوانه. مجّدت التراث وهي لا تفهمه. ليس همها الفهم والإدراك والمعرفة الجذرية، بقدر ما هو، وما يزال، الانسجام فكرياً وثقافياً مع آليات السلطة. ليست كل نخبة في العالم، وفي ظل الطغاة هي من هذا النوع. فقد نشأ فكر كثير في بلاطات الملوك، والأمراء، والطغاة عموماً. هذه النخبة العربية هي كذلك لارتباطها بأنظمة استبداد هي في تحالف مع الامبريالية التي لا تريد لشعوبنا ومجتمعاتنا أن تفهم. نخبة فارقت سؤال اللماذا، واقتصرت على سؤال الكيف. لم تتساءل عن الكون والمجتمع والنظام والفرد، ولماذا الأمر كما هو عليه. اقتصرت على سؤال الكيف، بمعنى أن تتكيّف مع كون مُعطى، ومجتمع مقموع، ونظام آمر، وفرد سلخ عن قدرته على التمرّد؛ نخبة، بغض النظر عن كونها فاقدة النزاهة على الصعيد الأخلاقي، هي ذات عقل مستريح. عقل أفقد المجتمع حيويته، فصار عليه أن يواجه الطغاة، ونظام الاستبداد المتحالف مع الامبريالية، والمدعوم من المؤسسة الدينية، بصدور عارية ووعي مكشوف؛ كالأيتام على مأدبة اللئام.

الاستبداد بطبعه جبان. هو يخاف الناس. وهو حريص على أن يعرف نواياهم، ولو تخميناً، ويعاقبهم. والبعض يُرمون في السجن لعشرات السنين لمجرد الشبهة

الاستبداد.. والنخب

معروف عن أنظمة الاستبداد ما هي، ومعروف عن الامبريالية ما هي، ومعروف عن المجتمع ما هو. موضع التجاهل في التحليلات السائدة هو دور النخبة الثقافية التي جعلت تحالف أنظمة الاستبداد مع الامبريالية راجحاً على علاقة ممكنة بين الأنظمة ومجتمعاتها. تخلت النخب عن دورها المعرفي القائم على السؤال والتمرّد، واستسلمت للعقل المستريح، فصارت عالة على مجتمعها، وأداة بيد الاستبداد، وعونا للامبريالية ادعت أنها تقاومها. لا تستطيع أي نخبة أن تكون أمينة لمجتمعها إذا لم تكن متمردة عليه؛ إلا إذا كانت ضده لا من أجله. ليس الأمر أن تكون النخبة مع قضية ما أو ضدها، بل أن تكون مع المجتمع وضده وفيه، وأن ولاءها للمجتمع ولاء وجود لا ولاء قضية وحسب. ربما لم تخطىء النخب الثقافية في الشعارات المرفوعة، بل تخلت عن مجتمعها بالولاء الفكري والمعرفي لغيره. تصورها في الشأن المعرفي هو الأساس. سيطرت أنظمة الاستبداد على هذا المجال، فصارت النخبة فاقدة السؤال، بعيدة عن التمرد.

ليس في الأمر تبرئة للداخل من وصمة الهزيمة وإلقاء الملامة على  الخارج. الخارج الامبريالي يُلام دائماً، وهو بالتعريف عدائي تجاه ما هو داخلي عندنا. لكن علاقة السلطات عندنا بالمجتمع، ومن ضمنه النخبة الثقافية، هي في أساس العجز والهزيمة. العلاقات بين المجتمع والنخبة ونظام الاستبداد هي ما شكّل قاعدة للتبعية أي العلاقات بين بلادنا والامبريالية: هذه العلاقات التي لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه لو كانت العلاقات الداخلية مختلفة.

الإستبداد والجهل

التبعية للامبريالية ليست مجرد علاقة بيننا وبين قوى الامبريالية والرأسمال العالمي. هي في الأساس العلاقات الداخلية التي شكلت قاعدة الامبريالية. أضعفت قوى الاستبداد المجتمع عن طريق التفرقة، والتذرير، وضرب العلاقات الأفقية بين الناس، وإضعاف النخب الثقافية، والسجن، والتعذيب، وربما أكثر، لكل معارض أو لكل من حدثته نفسه بمعارضة السلطة. الاستبداد بطبعه جبان. هو يخاف الناس. وهو حريص على أن يعرف نواياهم، ولو تخميناً، ويعاقبهم. والبعض يُرمون في السجن لعشرات السنين لمجرد الشبهة.

لقد خلت البلدان العربية من مراكز بحث وتفكير سواء في المواضيع العلمية أو الإنسانية. يضاف الى ذلك تراجع الجامعات لأنها لم تعد مراكز حركات طلابية ومطلبية ووطنية. إسكات الجمهور أدى الى شرذمته، وهذه الى فقدان المجتمع الحيوية، خاصة السياسية، وإضعاف روح المبادرة وانتشار اللامبالاة، والانضمام لجماعات دينية سلفية، هي في معظمها لا تهتم بالسياسة أو مُنِعَ عليها ذلك.

حكم الاستبداد عندنا هو حكم استبداد الجهل، سواء لدى السلطة أو المجتمع. حتى المجتمع صار جهاز مراقبة وقمع لصالح السلطة. كثرة جواسيس السلطة المنتشرين في كل مكان ساعدت على ذلك. أصيب المجتمع بالعجز وفقدان الكرامة. تعاظم شأن الكلام الذي لا يعني الكثير. مزايدات الكلامولوجيا صارت تصم الآذان. توالي الهزائم أدى الى نفسية دونية مع مكابرة العاجز الذي يحاول التعويض عن الهزيمة بكلامولوجيا النصر، خاصة تجاه إسرائيل. رثاثة المجتمع والسلطة صارت السمة البارزة. تعمم الفقر. وفي مقابل ذلك تركزت ثروات كبيرة لدى أقلية تحوم حول الطاغية. تراجع متوسط الدخل دون مبادرة السلطة لانتهاج مبادرة تنمية حقيقية كان تجسيداً لسياسات إفقار حقيقية، ولم يكن فقراً تلقائياً، بمعنى أن سياسة السلطة كانت الإفقار، إفقار الناس لجعلهم جماعات منهكة. تكاثرت هجرة الريف الى المدينة. أدى ذلك الى نمو المدن، خاصة في الضواحي، نمواً عشوائياً. نشأ اقتصاد مواز وغير رسمي. صار يشكل جزءاً كبيراً من الدخل العام. العشوائية في العيش تؤدي الى عشوائية في التفكير.

تفاقمت الرقابة حتى صار كل امرئ يخاف الكلام أو التعبير عن رأيه. ذبل التفكير. قمع حرية إبداء الرأي كان في جزء منه سببه أن لم يعد هناك رأي. وكأن في الأمر إفراغ الدماغ من ملكة التفكير. ضيق مجال الوعي قاد الى تخثره، وتركيز اهتمام الناس على الأمور اليومية، خاصة النخبة الثقافية التي فقدت قدرتها المعرفية، أي الشيء الوحيد الذي يجعل منها نخبة ثقافية. مع توسيع نطاق التعليم والقمع، اقتصر الوعي على التقنيات. غاب السؤال والشك والنقاش. فكل ذلك مثار للشبهات.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  العروبةُ ناسٌ، حريةٌ، تعدديةٌ.. وليس أنظمة استبداد