الاستلهام غير التأريخ، لكن هناك قواعد لا يصح تجاوزها، أهمها أن يكون هناك تدقيق فى الحوادث الرئيسية دون وقوع فى فخ المباشرة، وإلا كانت الدراما من أعمال الدعاية.
من حق المؤلف أن تكون له قراءته الخاصة شرط ألا يتجاوز ما هو ثابت ومؤكد من وقائع، وإلا كان ذلك تزييفا للحقيقة التاريخية.
بين فخى المباشرة والتزييف تكتسب الدراما التاريخية صعوبتها البالغة.
التراجيديات الإغريقية أسست لذلك النوع من الدراما دون أن تكون تأريخا.
فى العصور الحديثة استلهم «وليام شكسبير» مسرحياته الشعرية من التاريخ، وقد أكسبته مكانة رفيعة فى تاريخ الأدب الإنسانى.
كان يقرأ فيما وراء التاريخ وحوادثه من رؤى أوسع وأشمل لفلسفة الحياة وتناقضات البشر والصراع على السلطة والمال والنفوذ.
بفضل أشعاره المسرحية بالغة الروعة والجلال احتفظت الذاكرة الإنسانية بصيحة القيصر المغدور «يوليوس قيصر» تحت وطأة خيانة صديقه الأقرب: «حتى أنت يا بروتوس» واستقرت فى الكتابات السياسية الغربية مرثية «مارك أنطونيو» وهو يتعهد بالثأر لدم القيصر، كمثال للمدح والقدح بنفس الوقت وخلط الأوراق السياسية على نحو مربك.
على ذات النهج استلهم «محفوظ عبدالرحمن» المؤسس الحقيقى للدراما التلفزيونية العربية لحظة مماثلة من التاريخ المصرى عند مصرع «سيف الدين قطز» بتدبير من «الظاهر بيبرس».
فى طريق عودة الجيش المنتصر على المغول بعد معركة «عين جالوت» اغتيل «السلطان» وجلس صديقه اللدود على عرشه.
فى مونولوج طويل فيه حب ومقت، إعجاب وكراهية، ولاء وانتقام، أخذ «بيبرس» يرثى صديقه الذى قتله للتو فى رائعة «محفوظ» «الكتابة على لحم يحترق».
بتكوين «محفوظ» فهو قارئ تاريخ محترف، يدقق فى الروايات والمذكرات والوثائق وتستهويه ما تنطوى عليه من تراجيديات.
يبنى عقيدته الخاصة قبل أن يضع حرفا واحدا على ورق، يكتب وهو يعرف وجهته الأخيرة.
الكتابة التاريخية ليست حصصا فى الإنشاء الدعائى، شخصيات مسطحة بلا أبعاد إنسانية ووقائع توظف حقائقها لمقتضيات المصالح وتسويات الحسابات.
أعماله المستلهمة من وقائع تاريخية بعيدة مثل «ليلة سقوط غرناطة» و«ليلة مصرع المتنبى» و«سليمان الحلبى» تستمد قيمتها من مدى صدقها الفنى والتزامها فى الوقت نفسه بالحقائق الأساسية، فلا تزيف تاريخا ولا تدعى عليه.
لكنها تضيف شخصيات للدراما لم توجد قط حتى يتسنى للمؤلف إثراء العمل وكشف البيئة المحيطة التى تجرى فيها حوادثه.
القاعدة نفسها تنطبق على الدراما التاريخية المعاصرة غير أن المهمة فى هذه الحالة أصعب وأشق.
فى «بوابة الحلوانى» رؤية متماسكة تاريخيا وجديدة دراميا لقصة حفر قناة السويس، كيف تغيرت الحياة فى «الفرما» التى أصبح اسمها تاليا «بورسعيد»، وكيف كانت صورة الحياة السياسية والثقافية والفنية فى تلك الأيام؟
فى هذا العمل أعاد «محفوظ» كتابة التاريخ على لحم يحترق.
لأول مرة يرد اعتبار الخديوي «إسماعيل» دراميا بعد أن دأبت لسنوات طويلة مسرحيات وأفلام كوميدية على السخرية منه دون ذكر اسمه.
فى رد الاعتبار الدرامى انتساب لتيار تاريخى عريض ينصف «إسماعيل» ويقدر حجم ما أنجزه فى بناء مصر الحديثة رغم أية أخطاء فادحة ارتكبها.
لا يوجد أديب آخر على ذات درجة درايته بأدق تفاصيل قصة القناة السياسية والإنسانية معا، قرأ كل المذكرات وراجع كل الوثائق وحاور كل شهود العيان، والتزم الصدق التاريخى.
بالنسبة لـ«محفوظ» فإن الأساس هو «حفظ الشخصية التاريخية» قبل الكتابة عنها، أن تعرف مفاتيحها وكيف يمكن أن تتصرف فى المواقف المختلفة، وعندما تحفظها فالمغاليق تفتح أمامك، كما روى لى ذات حوار بيننا.
الدراما التاريخية بلا رؤية لمجتمعها مبتورة والدراما الاجتماعية بلا رؤية لتاريخها مسطحة. وكان كلاهما على علم بأصول الصنعة، مدركا أنه يكتب على لحم يحترق لمجتمع يتوق للحرية والعدل
لم يكن مستعدا، وهو يبحث ويحقق كل ما كتب عن «أم كلثوم»، أن يدخل فى مناطق من حياتها الشخصية بروايات ظنية لا دليل نهائيا عليها، أو أن تكون الإثارة مقدمة على القيمة.
اقترن اسمه بـ«أسامة أنور عكاشة»، فلا يذكر اسم أحدهما حتى تستدعى الذاكرة الآخر، هما توأمان فنيان ينتميان إلى الأفكار نفسها لكن كل على طريقته، فـ«محفوظ» المثقف الموسوعى تمتد أعماله الدرامية فوق خطوط التاريخ، و«أسامة» الفنان الملهم تقتحم أعماله المجتمع وتحولاته.
غير أن كليهما أخذ شيئا جوهريا من عالم توءمه الفنى، فـ«محفوظ» أضفى على سيناريوهاته التاريخية رؤية اجتماعية للعصر الذى تجرى فيه وخلق الدراما من بين التناقضات، بينما أسبغ «أسامة» على روايته الاجتماعية رؤية تاريخية تعمقها وتضفى عليها رسالتها، كما فعل فى أعماله التليفزيونية «ليالى الحلمية» و«المصراوية» و«زيزينيا».
الدراما التاريخية بلا رؤية لمجتمعها مبتورة والدراما الاجتماعية بلا رؤية لتاريخها مسطحة. وكان كلاهما على علم بأصول الصنعة، مدركا أنه يكتب على لحم يحترق لمجتمع يتوق للحرية والعدل.
بقدر اقتراب الأدب مكتوبا بلغة الدراما التلفزيونية من الأحداث الفارقة، التى غيرت وجه التاريخ، بلا تدليس فى وقائعها، أو تجهيل بروح عصرها، يكتسب قيمته وتأثيره على الذاكرة العامة جيلا بعد آخر.
كان عمل المؤلف والسيناريست الراحل «محفوظ» «بوابة الحلوانى» اقترابا دراميا نادرا بلا كهنوت وحواجز من جوهر نظرية الأمن القومى فى مصر.
نظريات الأمن القومى لا تخترع ولا تنشأ من فراغ، فحقائق التاريخ تصوغها فوق خرائط الجغرافيا.
إذا ما هزمت انكفأت على جراحها، تنهب مواردها ويستبد بشعبها.
وإذا ما نهضت تكتسب مهابتها فى جوارها.
تلك قاعدة رئيسية فى نظرية الأمن القومى المصرى، كما استفاض فى شرحها الدكتور «جمال حمدان» فى سفره الجليل «عبقرية المكان».
الإنصاف من القواعد الأساسية للدراما التاريخية، لكنه لا يعنى المساواة بين الأبطال والأوغاد حتى يقال إن المؤلف كان عادلا فيما هو يقع فى محظور التزييف.
كلما تباعدت الأزمان والمسافات قد يظن أن الكتابة الدرامية التاريخية أسهل، أو أن الحواجز والحساسيات قد أزيلت، لكن ذلك ليس صحيحا دائماً.
إنه المشى مجدداً فوق حقول الألغام، كما يحدث حالياً لمسلسل «الحشّاشين».. والصخب حوله.
(*) بالتزامن مع “الشروق“