مسرحية “الحادثة المجنونة” أضحكنا فيها أبطالها أشرف عبد الباقي وعبلة كامل. ضحكٌ مصريٌ مسرحيٌ حقيقيٌ ينتمي إلى زمن كان ما يزال فيه المسرح المصري بخير. لم يكن قد بلغ ما شهدناه بعد ذلك من كبوة أصابته على مدى عقدين ونصف العقد من الألفية الجديدة؛ وهذه ليست بجديدة على المسرح المصري، فقد مرّ بحالات هبوط سابقة أبرزها في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، وفي أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) 1967. انتكاسات استمر ظلها يُعتِّم الكثير من مناحي الحياة المصرية ربما حتى يومنا هذا، وبالطبع كان للمسرح نصيبه من هذا الظل الكئيب. ولكن برغم هذه المحطات الإنحدارية، شاهدنا هزات مسرحية ارتدادية ايجابية، إنتاجاً وحضوراً وتمثيلاً، ولعل أغلب الفضل في ذلك يعود لنجوم مسرحيين بعينهم، على رأسهم فؤاد المهندس، سمير غانم، سهير البابلي، عادل إمام، محمد صبحي، سيد زيان، محمد نجم، وحيد سيف، أحمد بدير وغيرهم.
أتذكر عند مشاهدتي عرض “الحادثة المجنونة” المسرحي للمرة الأولى، أن أكثر من لفت انتباهي هو أشرف عبد الباقي وموهبته وخفة ظله وحضوره الهائل على خشبة المسرح، وهو الذي لم تنصفه شاشة السينما حينما حاول أن يكون نجم شباك تدر أفلامه إيرادات مليونية كنظرائه من جيل الكوميديانات الذين وصلوا إلى هذا الحلم. ناهيك عن أن من تقف قبالته هي عبلة كامل الفنانة التي تتميز بصدقها وتميزها التعبيري.
لكن ما فاتني في الماضي هو النظر بدقة إلى ما وراء العرض من قصة، لأكتشف منذ سنوات قليلة أن مؤلف المسرحية لينين الرملي، قد إقتبس الفكرة الرئيسية من رواية صدرت عام 1963 للكاتب البريطاني جون فاولز John Fowles، بعنوان The Collector، التي ترجمتها للعربية في العام ذاته، مؤسسة دار الهلال في إطار سلسلة “روايات الهلال” تحت عنوان “جامع الفراشات” من ترجمة عبد الحميد فهمي الجمال.
لينين لم يقتبس النص ويُعرّبهُ، ولم يكتفِ بتمصيره عبر تغيير عناصر القصة من بريطانية إلى مصرية، من أسماء وأماكن وأحداث وتفاصيل، لا بل سعى إلى تحويل مسار الرواية الأصلية بالكامل، ليس فقط بإضافة أبعاد سياسية، اجتماعية ونفسية، بل بتحويل التراجيديا إلى كوميديا صارخة؛ كوميديا تجارية بالمعنى المصري. أي جعلها مسرحية كوميدية يحب الجمهور أن يحجز التذاكر لمشاهدتها بهدف الاستمتاع بالضحك، دون أداءات تمثيلية أكاديمية أو مصطلحات مركبة أو تركيبات درامية معقدة. وهذه السمات تصيب الكثير من النصوص، خاصة المقتبسة من الأدب العالمي، مما يجعلها لا تصلح سوى لإنتاجات مسرحية تجريبية أو مشروعات تخرج لطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية أو عروض ثقافية نخبوية، يعلم الجميع أنها لن تتحول أبداً إلى عرض فني تجاري يمكن أن يستمر عرضه وإقبال الجمهور على حضوره لعدة مواسم.
وبلغة السوق الفني التجاري، لا يمكن لمسرحية مثل “الملك لير” على سبيل المثال، أن تُنافس مسرحية “حودة كرامة” في مستوى الإقبال الجماهيري والإيرادات وطول فترة العرض، وذلك بغض الطرف عن القيمة الفنية وجودة النص المعروض أو أية تقييمات فنية، فالمقياس المقصود هنا جماهيري بحت.
لكن لينين الرملي هنا، ومن خلال فرقة ستوديو 2000 التي أسّسها صحبة جمال محمود، بعد انقضاء زمن فرقة ستوديو 80 التي أسّسها مع المسرحي الكبير محمد صبحي من قبل، نجح في تحقيق المعادلة الصعبة، فقدم نصاً مقتبساً عن رواية عالمية، وقام بتمصيره، وتحويله إلى عرض مسرحي كوميدي، وصنع منه عرضاً مسرحياً استمر عرضه لمدة عام من سبتمبر/أيلول 1993، حتى تم تصوير العرض المسرحي تلفزيونياً في سبتمبر/أيلول 1994. وإذا ما أراد واحدنا قياس مدى انهيار المسرح المصري الآن، عليه فقط أن يقارن بين حال مسرح الفردوس الذي عرضت على خشبته مسرحية “الحادثة المجنونة“، حينها والآن!
حين بدأ عرض المسرحية، كان النجم الذي يقوم بأداء دور الخاطف “عاصم عبد القادر“، الموازي لشخصية “فرديناند كليج” في الرواية الأصلية، الفنان المصري حسين فهمي، قبل أن ينتقل الدور لفنان ربما أضاف للجانب التجاري الكوميدي في نجاح المسرحية وهو الفنان أشرف عبد الباقي.
وعلى ذكر حسين فهمي، فهو يعد صحبة نجوم آخرين من أجيال مختلفة، مثل عبد الله غيث، سميحة أيوب، نور الشريف، عزت العلايلي، صلاح السعدني، يحيى الفخراني، يوسف شعبان وفاروق الفيشاوي من النجوم المخضرمين على شاشات التلفزيون والسينما العربية، الذين حرصوا على أن يسهموا في الظهور في عروض مسرحية من عينة “أهلا يا بكوات“، “الملك هو الملك“، “الوزير العاشق” أو “كاليجولا“. لكن هذه العروض المسرحية – خاصة إنتاجات “المسرح القومي” منها – لم تكن تجارية ولا يتوقع منها أن تحقق رواجاً بين الجمهور لأسباب يطول شرحها.
عودة للكاتب لينين الرملي، فقد قام هذا المؤلف المصري الراحل، بتحويل وتحوير للقصة الأصلية التي تحمل أبعاداً نفسية، اجتماعية، اقتصادية وسياسية بل وفلسفية عميقة لتحدثنا عن تجربة الحرية وأسرها بداعي الحب، ليصنع منها لينين رواية تستعيض عن التعمق بالإيماء والإشارة عن ذات المعنى، بقصة مصرية بسيطة، تحافظ على الجانب التجاري، وتصنع الضحكات المتتالية، لكنها لا تغفل التلميح نحو المعاني الأعمق، عن الاستبداد والقهر الممثَل في بطل القصة الذي يختطف حرية البطلة بزعم الحب أو الحماية، ليبقيها سجينة كفراشات فرديناند كليج حتى تموت حريتها، ولا يبقى منها سوى جمال المظهر.
ولأن غرضي هنا عبارة عن دعوة إلى القراءة والمشاهدة، دعوني ألخص لكم القصة الأصلية دون حرق أحداثها: يختطف شابٌ يعاني من اضطرابات نفسية وضغوط اجتماعية عديدة، فتاة جميلة، ويحتجزها في قبو منزله النائي، ليعقد معها صفقة، لا تغادر بموجبها محبسها هذا قبل أن تحبه كما يدعي هو حبه لها، ويتفقان على أن تكون فترة احتجازها محدودة بعد تفاوض بينهما. فهل تنجو هي بحبه، أم تموت حريتها فتموت قهراً مثل الفراشات المحنطة، أم أن كلا من السجين والسجان محتجزان في ذات سجن القهر الاجتماعي الذي قتل الإثنين؟
قصة تتمحور حول شاب بريطاني يعاني من مشاكل اجتماعية منذ نشأته، تعليمه الركيك وثقافته المحدودة، طبقته الاجتماعية البسيطة التي لا ينجيه منها سوى فوزه بجائزة مالية كبيرة في رهان رياضي، فيشتري منزلاً أثرياً قديماً له قبو كان بمثابة محراب تعبُّد. شخص يعاني من عجز اجتماعي بل وجنسي في التعامل مع كل من المجتمع والجنس اللطيف، فيلجأ إلى مراقبة الفتيات والتقاط الصور لمفاتنهم. يراقب فتاة أبهره جمالها، سلبت قلبه، ولتأكده بأنها لن تعيره اهتماماً في الواقع الاعتيادي، قام بخطفها واحتجازها في قبو منزله معتقداً بأنه سيتمكن من كسب قلبها إن هو عزلها وقهرها لكي تتعرف عليه وتقع في حبه! تحاول البطلة “ميراندا جراي” الهرب عدة مرات، ثم تحاول بطرق أخرى أن تقنع فرديناند بأن يطلق سراحها مع نهاية مدة الاحتجاز المتفق عليها، وأن تتأقلم وتتعايش ولو بصورة مؤقتة مع موقفها الصعب، لكن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ. قصة ذات أبعاد متعددة وعميقة لا يمكن تلخيصها سوى بقراءة الرواية الأصلية لجون فاولز، أو القراءة عنها.
وتنقل المسرحية المصرية ذات المعنى بأحداث وتشابكات تختلف بالطبع في تفاصيل نسجها لينين الرملي حول إيماءات سياسية واجتماعية مصرية عبّر عنها بطلا الرواية أثناء حواراتهما الثنائية التي تشكل أغلب مدة عرض المسرحية دون تكلف أو فلسفة. وفي النسخة التلفزيونية للعرض التي أخرجها رائد لبيب، جاءت على لسان لينين الرملي نفسه هذه الكلمات: “الحادثة اللي بتحصل في المسرحية، بتحصل كل يوم في بلادنا ألف مرة..“
جدير بالذكر، أن الرواية البريطانية قد تم اقتباسها في صورة فيلم سينمائي هوليوودي بعد عامين من إصدارها بذات العنوان The Collector من إنتاج عام 1965، وقد قام بإخراج العمل لشاشة السينما، المخرج الأمريكي المخضرم ويليام وايلر William Wyler، صاحب الأعمال السينمائية الأشهر Ben-Hur وHow to Steal A Million.
وقد نجح لينين الرملي في “الحادثة المجنونة” في جلب روح “جامع الفراشات” ليوقفها بصبغتها المسرحية فوق خشبة مسرح الفردوس، المسرح المِطل على ميدان البعوث، عند تقاطع شارعي “سكة دار العملة” و”مستشفى الطلبة” بمنطقة الدراسة في قلب القاهرة، والذي أضاف لينين على خشبته تفاصيل مصرية للرواية البريطانية بنجاح، وعرض الفكرة وأوصل الرسالة. فهل تبقى خشبة مسرح الفردوس وتنجح حملة إنقاذها؟ أم يستمر السوس في النخر في خشبها كما نخر السوس في كيان المسرح المصري ككل بعد لينين ورفاقه؟ وهل يمكن للحب فعلاً أن يولد من رحم القهر كما اعتقد “عاصم عبد القادر”/ “فرديناند كليج”؟
ها نحن في عام 2024، ليدعوكم كاتب هذه السطور إلى الاستماع إلى رسالة لينين الرملي ومن وراءه جون فاولز وويليام وايلر. والمعنى إما في بطن خزانة جامع الفراشات، أو في بطن السوس الذي نخر خشبة مسرح الفردوس..!
تحياتي.