في الداخل الإيراني، سمعنا أصواتاً ترتفع للمرة الأولى بهذه الحدة، داعية إلى ضرورة الرد القوي والحاسم لأن عدم الرد بالشكل المناسب يعني المزيد من الإغتيالات لقادة ومسؤولين إيرانيين في قلب العاصمة الإيرانية طهران، علی حد تعبير محلل الشؤون الدولية الدكتور مهدي خراطيان للتلفزيون الإيراني الرسمي. بالمقابل، يعتقد المحلل المتخصص في الشأن الإقليمي الدكتور رضا صدر الحسيني أن الرد يجب ألا يكون متهوراً ومتسرعاً وغير محسوب النتائج بل رداً عقلانياً؛ مشيراً في ذلك إلى العمليات التي تقوم بها فصائل المقاومة في داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها.
وقد سارعت إيران الرسمية بعد ساعات من الهجوم علی سفارتها بدمشق إلى عقد اجتماع لمجلس أمنها القومي برئاسة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، من أجل دراسة الموقف واتخاذ اللازم إستنادا إلى التطورات والأجواء المحلية والإقليمية والدولية؛ كما ناقش المجلس الرسالة التي استلمتها طهران من واشنطن والتي قالت فيها إنها لم تكن منخرطة في الهجوم ولم تكن علی علم به؛ وخلص المجلس إلى اتخاذ قرارات سياسية وميدانية، في الوقت الذي طلبت فيه طهران من مجلس الأمن الدولي الانعقاد لبحث الشكوی التي تقدمت بها لادانة الكيان الإسرائيلي الذي استهدف مقراً دبلوماسياً خلافاً للمواثيق والأعراف الدولية.
وحسب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، إستدعت وزارة الخارجية الإيرانية السفير السويسري لدی طهران بعد منتصف ليل الإثنين الماضي، وسلّمته “رسالة مهمة” مُوجهة للجانب الأمريكي تتعلق بالهجوم وظروفه؛ ويبدو أن هذا الإجراء جاء بعد اجتماع مجلس الأمن القومي وما خلص إليه من “تقدير موقف” حيال التعامل مع الإستهدافات الإسرائيلية للمستشارين الإيرانيين في سوريا وآخرها ضربة القسم القنصلي في السفارة الإيرانية بدمشق.
هل كان الأمر مفاجئاً لطهران؟
في النصف الثاني من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تولدت لدی طهران قناعة أن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو يسعى لتوسيع نطاق الحرب بشكل يؤدي فيه إلى استدراج الجانب الإيراني ليجعله في مواجهة مباشرة مع الجانب الأمريكي الذي سيتدخل في الحرب إذا دخلتها إيران؛ وبالتالي قرّرت اتخاذ تدابير من شأنها ألا تضبط ايقاع ساعتها علی التوقيت الإسرائيلي الذي يضعه نتنياهو؛ وقد مارست إيران ضبط النفس في إطار هذه القراءة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى مطلع الشهر الحالي.
لكن ما بعد ضرب السفارة في دمشق يختلف عما قبله، وصارت الأسئلة من نوع آخر: هل أعادت طهران صياغة موقفها؟ هل تريد وضع قواعد اشتباك جديدة؟ وهل باتت ترى أن الرد بشكل مباشر وسريع من شأنه أن يعيد الاعتبار إلى هيبتها وموقفها؟
قبل فك رموز وشيفرات هذه الأسئلة، لا بد من القول إن عملية الأول من أبريل/نيسان أحرجت القيادة الإيرانية؛ فإن ردّت مباشرةً وبسرعة، ربما تنزلق الأمور نحو وضع خطير عليها أن تتحمل عواقبه السياسية والأمنية والعسكرية، ناهيك بالاستدراج إلى فخ نتنياهو؛ وإن وقفت مكتوفة اليدين، يضع ذلك هيبتها في خضم الشكوك والأسئلة ليس علی صعيد المنطقة بل حتی علی المستوی الداخلي الإيراني، خصوصاً أنها توعدت الكيان العبري مرات عدة بالرد القوي والحاسم اذا تعرّض أمنها القومي للخطر.
ثمة استدراك؛ أنه على عتبة بداية الشهر السابع من حرب غزة، لم يستطع رئيس وزراء الكيان ولا مجلسه الحربي من تحقيق أي من الأهداف التي حدّدها لاجتياح قطاع غزة؛ فلا هو استطاع سحق حركة حماس؛ ولا استطاع تفكيك كتائب القسام بدليل رشقاتها الصاروخية التي ما تزال تصيب غلاف غزة؛ ولا استطاع اطلاق سراح الرهائن المحتجزين في القطاع المحاصر. زدْ علی ذلك تنامي وتصاعد حركة الاحتجاج داخل الكيان والتي بلغت ذروتها ليل أمس (السبت)، وشعاراتها وقف اطلاق النار والتفاوض السياسي لاطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وإجراء إنتخابات مبكرة؛ إضافة إلی تنامي الضغوط الدولية لفرض وقف لاطلاق النار حتی أن التنسيق الإسرائيلي الأمريكي أصيب بتصدعات، ما استوجب عدم استخدام الجانب الأمريكي حق النقض (الفيتو) علی القرار 2728 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، ولو أنه بقي حبراً على ورق.
مثل هذه الأوضاع تجعل نتنياهو اليوم أشبه ما يكون بالثور الجريح الهائج والمفترس الذي لا يُفكر سوی بالنجاة وحفظ ماء الوجه الذي مُسح بأرض غزة. لذا، من غير المستبعد أن يُقدم علی فعل أمني أو عسكري غير متوقع ضد إيران التي يعتبرها “رأس الأفعى”، بدليل استضافتها مؤخراً كلاً من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة.
غير أن المعضلة التي تواجه أي رد فعل إسرائيلي أن حرب غزة صارت في صلب الإنتخابات الأمريكية، فالاعتراضات صارت علنية وباتت مواكب أعضاء الكونغرس المتحمسين لإسرائيل تتعرض للرشق بالبيض، ناهيك بما يجري في الجامعات الأمريكية وحملة مقاطعة الإنتخابات الرئاسية خاصة في الولايات الست المتأرجحة وغير ذلك من الإحراجات، وبينها ملامسة عدد الضحايا سقف الأربعين ألفاً بين شهيد ومفقود معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، وسقوط أكثر من 35 طفلا ضحايا المجاعة، فضلاً عن إقدام الجيش الإسرائيلي على إستهداف أعمال الإغاثة وقتل سبعة من العاملين الأجانب في المطبخ المركزي العالمي (وورلد سنترال كيتشن) على ساحل غزة في وضح النهار.
يحصل ذلك كله برغم أن من يجلس في البيت الأبيض راهناً لطالما كان يتشدق برفع راية حقوق الإنسان وشعارات الدفاع عن الحريات والديمقراطية. ولو أن ما يفعله الكيان الإسرائيلي قد فعلته أي دولة في العالم لكان قد تعرض لأقسى العقوبات الأمريكية وفُرضت عليه عقوبات وصدرت بحقه قرارات دولية تحت الفصل السابع؛ لكن طالما أن الكيان الإسرائيلي هو المرتكب، فإنه يبقى فوق القانون وغير مشمول بهذه الفاتورة القاسية من التدابير والعقوبات.
إن الاعتقاد السائد هو أن إيران لن تقدم علی أي خطوة غير محسوبة النتائج، فالقيادة الإيرانية وتحت سقف “الصبر الإستراتيجي” لا تحرق المراحل ولا تتصرف بعقل انفعالي. ميزة القيادة الإيرانية أنها تقرأ الواقع من دون أي تهور، وتأخذ في الحسبان أنها تملك العديد من الأوراق الإقليمية وأن الكيان ليس في أحسن حالاته، إنما هو في وضعٍ لا يُحسد عليه ولم يمّر بمثل الظروف التي يمر بها منذ العام 1948 حتى الآن؛ إضافة إلی أن إيران عندما ترد، كما قال عضو بارز في الحرس الثوري، فإنها تستهدف الأمن القومي الإسرائيلي، أي يكون الاستهداف وجودياً للكيان الإسرائيلي بعيداً عن قتل شخص هنا أو تدمير بناية هناك.
في الخلاصة، ربما لم تأتِ الساعة بعد؛ واذلال الكيان يحتاج إلى المزيد من الوقت والصبر؛ وما كان يُطبخ للآخرين يجب أن يذوقه الكيان الآن؛ وما زالت الاحتمالات مفتوحة علی مصراعيها خصوصاً مع استمرار العدوان علی غزة.