إيران وأميركا، إلى التفاوض أم الحرب؟

يكاد لا يمر يوم إلا ويحفل بأدبيات سياسية، أمريكية وإيرانية، تصب في خانة الإشتباك المفتوح بين واشنطن وطهران، على خلفية الإنسحاب الأميركي من الإتفاق النووي. مسار من عض الأصابع لا بد وأن يفضي إلى نتيجة ما، على الأرجح، لن تكون حربا لا يريدها الطرفان.

لم يكن خافيا على أحد أن خروج أمريكا من الإتفاق النووي مع إيران يشكل خرقاً فاضحاً لإتفاقية دولية، وبالتالي، سوف تنتج عنه أزمة كبيرة بين ايران وأمريكا من جهة وبين ايران والدول الأوروبية من جهة أخرى والأسباب واضحة وهي الآتية:

1-  يعود برنامج ايران النووي لأغراض سلمية مرة أخرى إلى دائرة الإتهام وتثار علامات استفهام حول إقرار مجلس الأمن (5+1) بسلمية البرنامج النووي الايراني.

2- تعرقل عودة العقوبات الأمريكية أحادية الجانب على ايران التعاون الإقتصادي بين الدول الأوروبية وغيرها مع ايران.

3-  تعود مبيعات ايران من النفط والمشتقات النفطية إلى المستوى الذي كانت عليه قبل توقيع الإتفاق النووي في العام 2015.

4-  تدخل العلاقات الايرانية الأوروبية في نفق مجهول، ذلك أن إيران اعتبرت خروج الولايات المتحدة من الإتفاق النووي، يعطيها مبررا قانونيا مشروعا للخروج منه أو تجميد التزاماتها ببعض بنوده.

هذه الأمور تحققت كلها، ونجحت أمريكا في تعطيل الإتفاق النووي، وعادت لتضفي طابعا عسكريا على برنامج إيران النووي، ونجحت في الإضرار بالعلاقات السياسية والإقتصادية بين ايران والدول الأوروبية وأعادت مبيعات ايران من النفط إلى المستوى الذي كانت عليه قبل الإتفاق النووي، وبالتالي، عرضت الإقتصاد الايراني لأزمات تصاعدية.

هذه الأحداث دفعت ساسة وخبراء في ايران إلى طرح السؤال الآتي: إذا كانت أمريكا بمفردها قادرة على خلق جميع هذه المشاكل فما هي الفائدة التي تجنيها ايران من الجهد الذي بذلته على مدى سنوات طويلة في التفاوض مع مجموعة دول (5+1) لإثبات سلمية برنامجها النووي وإلغاء العقوبات الدولية المفروضة عليها، وإنطلاقاً من هذا السؤال، ازدادت الرغبة للتفاوض مع أمريكا لدى طيف إيراني وازن.

ولكن هذا ليس كل شيء، فالخلاف الأساسي بين ايران وأمريكا ليس متعلقاً بالإتفاق النووي فقط بل يمكن القول إنه لا يوجد خلاف مباشر بين ايران وأمريكا، بل أن الخلاف الأساس يعود إلى نظرة الطرفين لإسرائيل وللدور الايراني في الشرق الأوسط والنفوذ الايراني في المنطقة.

“لا حرب ولا تفاوض”

وإنطلاقاً من هذه المعطيات، دخل المرشد الأعلى آية الله السيد علي خامنئي على الخط، وأطلق إستراتيجية “لا حرب ولا تفاوض”، وصنف التفاوض مع أمريكا خارج الأمور المتعلقة بالإتفاق النووي في خانة الخطوط الحمراء بالنسبة للنظام الايراني، فأعطى إشارة غير قابلة للجدل بعدم قدرة الديبلوماسية الايرانية على تجاوز هذه الخطوط.

وفي ظل هذه المواقف الصريحة والحازمة للمرجعية، فإن أي مفاوضات بين ايران وأمريكا يجب أن تكون محددة ومقترنة بالأسس والمبادئ التالية:

1- ايران لن تقبل بالتفاوض مع أمريكا حول أي موضوع خارج عن الإتفاق النووي.

2- أي عملية تفاوض مع أمريكا في إطار المفاوضات النووية مشروطة بإعلان أمريكا العودة إلى الإتفاق النووي وإلغاء كافة العقوبات الجديدة التي فرضتها على طهران.

3- برنامج ايران الدفاعي وبشكل خاص برنامج الصواريخ البالستية الايرانية هو من المواضيع المحظورة ولا يجوز التفاوض حولها تحت أي ظرف من الظروف.

4- توسيع دائرة التفاوض مع أمريكا خارج إطار الإتفاق النووي يمكن أن يحصل فقط في حال حصول ايران على الضمانات اللازمة من أمريكا والتي تثبت لايران أن واشنطن تريد الدخول في مفاوضات عادلة ومتكافئة ولن تقلب الطاولة مجدداً بعد التقاط الصور التذكارية، لا بل أن التوصل إلى إتفاق أفضل بالنسبة للأمريكيين، يعني الحصول على حوافز وضمانات أفضل من تلك التي وفرها الإتفاق النووي بالنسبة إلى الإيرانيين.

من أزمة سياسية إلى أزمة عسكرية!

مع تبني الجمهورية الاسلامية الايرانية هذه المواقف من جهة، وعدم استجابة أمريكا للشروط الايرانية من جهة ثانية، أصبح الحديث عن أي مفاوضات أمريكية ايرانية ضرباً من ضروب الخيال.

تدخلت كل من ألمانيا وسلطنة عمان ودولة قطر واليابان وأخيراً جاءت المبادرة الفرنسية في سياق محاولات كسر الجليد بين ايران وأمريكا، إلا أن جميع هذه الوساطات باءت بالفشل بسبب عدم استيفاء الشروط التي حددتها إيران لقبول التفاوض مع أمريكا، فالسيد خامنئي اشترط عودة أمريكا إلى الإتفاق النووي وإلغاء جميع العقوبات الأمريكية على طهران لقبول استئناف التفاوض مع أمريكا حول الملف النووي الايراني، وهذا الشرط لم تتمكن أي وساطة من تحقيقه.

أقفلت الأبواب بوجه الأميركيين، فقرروا تحويل الأزمة من سياسية وإقتصادية إلى أزمة عسكرية وأمنية، وتزامن ذلك مع سيناريو مثير للشكوك تمثل باستهداف ناقلات النفط في بحر عمان والخليج الفارسي لتصبح الأزمة عالمية وليست ثنائية.

وبالتزامن مع هذه الأزمة، أعلنت الدول الأوروبية عن تأسيس القناة المالية الخاصة مع ايران المعروفة بـ”اينستكس”، إلا أن هذه الخطوة الأوروبية الهامة لم تكن كفيلة في تأمين مصالح ايران الإقتصادية من الإتفاق النووي، ما دفع طهران للتمسك في برنامج خفض التزاماتها بالإتفاق النووي بشكل تدريجي، وحتى الآن، ما زالت متمسكة بإعلان الخطوة الثالثة من خفض التزاماتها النووية والتي ربما تشمل إعلان طهران رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من خمسة في المئة.

يكاد لا يمر يوم إلا ويحفل بأدبيات سياسية، أمريكية وإيرانية، تصب في خانة الإشتباك المفتوح بين واشنطن وطهران، على خلفية الإنسحاب الأميركي من الإتفاق النووي. مسار من عض الأصابع لا بد وأن يفضي إلى نتيجة ما، على الأرجح، لن تكون حربا لا يريدها الطرفان.

حرب عالمية ثالثة؟

هل تندلع الحرب بين ايران وأمريكا بسبب هذه التطورات المتحرجة أم أن المساعي الفرنسية والأوروبية ستساهم في فتح باب التفاوض بين الطرفين؟

1- ما يمكن تأكيده هو أن ايران لن تقبل بالدخول في أي مفاوضات مع أمريكا إلا إذا أعلنت الأخيرة العودة إلى الإتفاق النووي وإلغاء العقوبات التي فرضتها على طهران كنتيجة طبيعية لعودتها إلى الإتفاق.

2- برغم أن شبح الحرب يخيم بشدة على المنطقة ومياه الخليج الفارسي من الكويت إلى بحر عمان، إلا أن نشوب الحرب بين الطرفين هو ضرب من الخيال، لأن إندلاعها يعني أن نيرانها ستطال جميع دول المنطقة والشرق الأوسط برمته، وهذه الفرضية تعني أن اسرائيل أيضاً ستدخل في حسابات هذه الحرب بشكل مؤكد، كما أن إنتقال النفط من منطقة الخليج الفارسي إلى الدول الأخرى سيتوقف حتى تنقشع غيوم هذه الحرب المفروضة والتي ربما تستغرق شهوراً أو سنوات وربما هذا السبب دفع الجميع لاعتبار نشوب مثل هذه الحرب المفروضة بأنها ستكون حرباً عالمية ثالثة.

إقرأ على موقع 180  فوز ترامب.. أو زمن التحوّلات و"القياصرة"!

3- ايران أعدت نفسها لاستراتيجية مواجهة مع سياسة الإدارة الأمريكية لمدة ست سنوات وذلك بناء على فرضية فوز الرئيس دونالد ترامب بفترة رئاسية جديدة.

 4- مع استهداف وإسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية، أثبتتت إيران أنها متمسكة باستراتيجيتها الدفاعية ولن ترفع غصن الزيتون في مواجهة التهديدات الأمريكية تحت أي ظرف من الظروف، بل سترد الصفعة بمثلها، ولهذا السبب إذا نجحت أمريكا في إيقاف صادرات ايران النفطية بشكل كامل وتسببت بزعزعة الأمن الإقتصادي الايراني، عندها لن تنعم أي من دول المنطقة بالأمن والإستقرار وكما صرح العديد من المسؤولين الايرانيين لن تتمكن أي من دول المنطقة من تصدير نفطها عبر الخليج الفارسي.

5- تعي إيران جيداً أن ترامب لا يمكنه أن يبدأ الحرب مع ايران وهو على أبواب الإنتخابات الرئاسية، ولذلك ثمة قناعة لدى الايرانيين في الداخل أن أية حرب أمريكية ضد طهران لن تندلع خلال السنتين المقبلتين، كما أن هنالك اعتقاد أن أي حرب بين ايران والسعودية لن تندلع أيضاً لأن نتائج مثل هذه الحرب الافتراضية لا تختلف عن نتائج الحرب بين ايران وأمريكا.

ومن الملاحظ حاليا أن حرب ناقلات النفط قد شارفت على الإنتهاء بعد الإفراج عن الناقلة الايرانية التي كانت محتجزة في مياه جبل طارق ويبدو أن هذا السيناريو في سلسلة الأزمات الايرانية الأمريكية أصبح بلا طائل ومن المستبعد أن يتم تكراره واستخدامه ضد ايران بعد أن أثبت عدم نجاعته، لأن ايران أثبتت بالعمل وليس بالكلام أنها سوف ترد على أي استهداف لها بالمثل في مياه الخليج الفارسي.

المبادرة الفرنسية

في ظل هذه الظروف، تدرك كل من ايران وأمريكا جيداً أن أفضل خيار لكلا الطرفين ولجميع دول المنطقة هو الحوار، وبالمناسبة، وفي ظل التطورات الجديدة على الساحتين الإقليمية والدولية، باتت كفة التفاوض بين ايران وأمريكا هي المرجحة على كفة الحرب، فالرئيس ترامب يدرك جيداً أن ما يمكن أن يحصل عليه من خلال مفاوضات عادلة وفق معادلة فوز- فوز مع ايران، لا يمكن أن يحصل عليه من خلال أي حرب يخوضها ضد ايران، وأهم ما يمكن أن يحصل عليه الرئيس الأمريكي في حال بدء المفاوضات هو ضمان الفوز في الإنتخابات الرئاسية المقبلة.

في هذا السياق، دخلت فرنسا مؤخرا على الخط وبيدها رؤية هدفها إنقاذ الإتفاق النووي وإيجاد قنوات لبدء التفاوض بين ايران وأمريكا، وحسب بعض المصادر غير الرسمية، أبلغت فرنسا القيادة الإيرانية أنها تتعهد برفع سقف تمويل القناة المالية الخاصة بين ايران والدول الأوروبية إلى خمسة عشر مليار دولار، وأنها سوف تقنع أمريكا بإصدار بعض الإعفاءات على مبيعات النفط الايراني وسوف تفعل القناة المالية الخاصة “اينستكس” في جزء من عمليات التبادل المالي بين الجانبين.

ويُقال أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حاول بشدة – ومن بين هذه المحاولات إجراء مكالمة هاتفية مع الرئيس الشيخ حسن روحاني استمرت لمدة مئة دقيقة – لتكون هذه المبادرة جاهزة قبل بدء اجتماع دول جي سبعة(G7) في فرنسا وذلك حتى يتسنى له جمع الرئيسين الايراني والأمريكي على طاولة واحدة، كما أنه حاول توجيه الدعوة إلى الرئيس الايراني للمشاركة في اجتماع “جي سبعة”، إلا أن عدم وضوح الرؤية في المبادرة الفرنسية، دفع بالرئيس روحاني إلى رفض الدعوة.

وتشير الأجواء إلى أن الرئيس الفرنسي يعلّق الآمال على نجاح المبادرة الفرنسية خلال الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك المقرر عقدها في نهاية أيلول ــ سبتمبر المقبل.

توسيع دائرة التفاوض مع أمريكا خارج إطار الإتفاق النووي يمكن أن يحصل فقط في حال حصول ايران على ضمانات تثبت لايران أن واشنطن تريد الدخول في مفاوضات عادلة ومتكافئة ولن تقلب الطاولة مجدداً بعد التقاط الصور التذكارية

لا أدلة واضحة على وجود فرصة للمسعى الفرنسي ولكن ثمة إعتقاد أن مبادرة ماكرون ربما تقنع طهران بتأجيل الإعلان عن الخطوة الثالثة من خفض التزاماتها النووية، ولكن الأكيد أنه لن تنتج عن هذه المبادرة مفاوضات ثنائية بين ايران وأمريكا إلا في حال تضمنت المبادرة الفرنسية شرط عودة أمريكا إلى الإتفاق النووي.

ماذا إذا بدأت المفاوضات؟

يأتي المسعى الفرنسي في وقت يرسل فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسائل من هنا وهناك بأنه يريد التفاوض مع ايران من دون أي وسيط، ويمكن القول إن حصول مثل هذه الفرضية ليس مستحيلاً على الإطلاق بل يمكن تحققها بكل بساطة في حال إعلان أمريكا العودة إلى الإتفاق النووي، حتى لو أعلنت الخروج منه مجدداً. لذلك، ليس مستبعداً أن يقدم رئيس دولة كبرى إشتُهر بمواقفه الغريبة والمتسرعة أن يُعلن العودة إلى الإتفاق النووي من أجل أن يبدأ المفاوضات مع ايران وصولاً إلى عقد إتفاق جديد وأن يعود ليعلن الخروج منه بعد إنتهاء المفاوضات.

والمؤكد هو أن أمريكا إذا أعلنت العودة إلى الإتفاق النووي، ولو بشكل مؤقت، فإن المفاوضات الايرانية ــــ الأمريكية لن تقتصر على الملف النووي، لأنه لم يبق هناك أي شبهات أو علامات استفهام في الملف النووي الايراني، بل ستكون من دون أدنى شك مفاوضات ثنائية مفتوحة ربما تستمر عدة شهور أو سنوات بهدف التوصل إلى إتفاقيات حول الكثير من الأمور العالقة بين الدولتين في المنطقة والشرق الأوسط، ويبدو أن هذا الطريق سالك أكثر بالنسبة لأمريكا، وهي تُقدمه على أي خيار آخر بما في ذلك خوض حرب لا يمكن التكهن بنتائجها.

Print Friendly, PDF & Email
طهران ـ علي منتظري

كاتب وصحافي ايراني مقيم في طهران

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  عندما تصبح هونغ كونغ أقرب سياسياً للرياض من بيروت