القصة في الدور لا في شخص سليماني، وإن كان الشخص والدور صنعا معا ثنائية مكملة لثنائيات إيران المتعددة، القائد الأعلى والرئيس، الحرس والجيش، الجمهورية والإسلامية، وقاسم سليماني العسكري الأمني السياسي ورجل العلاقات العامة على مستوى الإقليم، وعينه، الحالة الذهنية التي كانت تُشعر المؤسسة الحاكمة باطمئنان حتى حافة الهاوية، لم تنجح طهران بعد عام في القبول بالواقع، لذلك بقي ظل اغتياله ثقيلا منذ اللحظة الأولى للشعور بفقدان التوازن وانفلات الخيوط من يدها.
عام كامل من غياب سليماني كشف ثغرات كثيرة كان يغطيها قائد قوة القدس في حياته بعلاقاته المنسوجة على مدى سنوات، ولأنه كان متوليا لشؤون خارج الحدود بشكل عملي بدا الإقليم الذي امتدت في جهاته الأربع إيران ثقيل الحركة من زاوية قدرتها على استخدامه مساحة لتوجيه رسائلها والضغط على خصومها. صحيح أنها لم تنكفئ إلى داخل حدودها كما أرادت لها الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده في المنطقة، لكنها في المقابل بدت أكثر تكبيلا من أي وقت مضى، لا سيما في ساحة اشتباك تأثير رئيسية كالعراق، حيث ساد الارتجال لدرجة بدأت فيه طهران تبحث عن طريقة لجمع شتات حلفائها من فصائل وجماعات اتفقت على العنوان وتاهت في التفاصيل.
عراق ما بعد سليماني شهد تراجعا لما كانت تتباهى به إيران منذ دخول تنظيم داعش إلى الموصل من نجاح في كسر موروثات الحرب الإيرانية العراقية. كان سليماني يعمل على التأسيس لمرحلة جديدة تتمكن فيها طهران من تثبيت وجودها شعبيا من خلال شرائح شعبية موازية للحضور العسكري المتمثل بالفصائل الشيعية الموالية لها، لكن ذلك بدأ بالتراجع حتى قبل اغتياله ولاحقا تحول إلى أمر واقع مع انفلات حجارة السبحة بشكل سريع إلى حد أصبحت فيه الحالة العراقية اليومية عبئا عليها بعدما كانت استثمارا تستفيد من توظيفه في صناعة توازن ردع صلب مع واشنطن. وفي حين فشلت واشنطن في المقابل في البناء على هذا التراجع الإيراني، لم تتعامل بعد طهران مع تغير قواعد اللعبة فدخل الصراع في حالة صراخ متبادلة، تماما كما هي الحال هذه الأيام، حيث يتحسب كل طرف قيام الطرف المقابل بتوجيه ضربة ولا ينعكس هذا سوى المزيد من التوتير والتراجع على مستوى مقبولية الطرفين في الداخل العراقي.
باغتيال سليماني، كما أسلفنا، تغيرت قواعد اللعبة والاشتباك، صحيح أن طهران ردت ميدانيا قبل دفن قائدها العسكري بهجوم صاروخي على قاعدة عين الأسد، إلا أن هذا لم يغيّر في واقع أن الولايات المتحدة عطلّت قدرة الجمهورية الإسلامية على المبادرة، بالتالي حتى على المستوى السياسي الداخلي في العراق اختلط الحابل بالنابل وصارت إيران مضطرة للقبول بتسويات صغيرة في انتظار تحولات لدى خصومها، بالتالي هي عمليا فقدت المبادرة إلى الآن.
على مستوى المنطقة، برزت موجة التطبيع العربية مع إسرائيل كعنوان للمرحلة. المشهد يذكّر بمؤتمر شرم الشيخ في العام ١٩٩٦ تحت عنوان صانعي السلام مع فوارق كبرى، وبرغم أن طهران عندها كانت أقل نفوذا مما هي عليه الآن، إلا أنها صنعت ظروفا لمحاصرة تداعياته ونتائجه. في العام ٢٠٢٠، بدا واضحا أن إيران والمحور الذي تقوده في المنطقة تحت اسم محور المقاومة، أقل قدرة على صناعة ظروف مناهضة للموجة التي أعلنت الولايات المتحدة بشكل صريح أن الهدف منها محاصرة نفوذ إيران الإقليمي والخطر الذي تشكله على جيرانها. باستثناء الخطابات السياسية والحملات الإعلامية لم تستطع إيران حتى اللحظة من عرقلة هذه الموجة، مع الاستمرار في عملية تسليح فصائل المقاومة والتي لم تتوقف رغم محاولات إسرائيل الحثيثة لمنع ذلك.
في سوريا، بدا الحضور الإيراني على وضعية الصامت، على الأقل في ما هو معلن، وإن كانت ظروف الساحة السورية تختلف عن تلك التي في العراق في ظل وجود قيادات ميدانية إيرانية راكمت على مدى السنوات الماضية علاقات داخلية تسمح لها واقعا باستكمال العمل الذي كان قد بدأ سابقا. ولعل الغارات الإسرائيلية التي لم تتوقف قبل اغتيال سليماني وبعده تشير في مكان ما إلى استمرار التهديد وتطوره، لكن السؤال يبقى ماذا عن دور إيران حال ولوج التسوية للملف السوري مراحلها العملية، وأي مكاسب يمكن لها ضمانها خاصة مع التغيير في البيت الأبيض الأميركي ومجيء إدارة قد تكون أكثر تشددا في الميدان السوري مما كانت عليه إدارة دونالد ترامب الحالية.
بالنسبة لطهران، القراءة أعلاه قد تكون متشائمة، إذ أنها ترى أنها استطاعت بعد ساعات فقط من عملية الاغتيال من ضمان تعيين سلس لخليفة قائدها العسكري الإقليمي وهو نائبه اللواء إسماعيل قاآني، والذي بدوره يحمل سيرة ذاتية عسكرية تمتد من الحرب الإيرانية العراقية إلى أدوار عملياتية على مستوى الإقليم وأبعد من ذلك، لكن قاآني وإن امتلك القدرة العسكرية والمعرفة الميدانية التي يتطلبها الموقع، فهو يفتقد لمسألة أساسية، ألا وهي التأثير الذي كان لدى سلفه على مختلف الجماعات والفصائل وهذه القدرة لم تكن وليدة المنصب فقط، إنما عملية تراكمية امتدت لسنوات صنع خلالها ما يشبه جهاز تحكم استطاع عبره فرض حضوره والقفز على التناقضات وسحب فتائل التفجير الداخلية بين الأطراف المتحالفة مع طهران والمختلفة في ما بينها. ولعل كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مقابلته الأخيرة مع قناة الميادين يضيء بشكل واضح على هذه النقطة إذا يقول إن قاآني يستطيع تحمل المسؤولية وهو بدأ فعليا بالدخول إلى كل الملفات لكن “لنكون موضوعيين هو يحتاج لبعض الوقت حتى لا نتوقع منه ولا نحمله ما كان يقوم به الحج قاسم بعد ٢٢ سنة من التجربة في قوات القدس”.
هذا في ما مضى، وما مضى يصنع مسارا للقادم الذي سيشهد بدوره تطورات داخلية وخارجية قد تدفع طهران تدريجيا للخروج من الحالة التي تسيطر عليها. التغيير في الولايات المتحدة سيعني تحديات جديدة لطهران على مستوى الإقليم، وإذا كانت إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن تبدي نية لتخفيف التشدد تجاه طهران على مستوى الملف النووي، إلا أن ذلك لن ينعكس بالضرورة على السياسة الأميركية في الإقليم والتي قد تنحو أكثر نحو الانضباط الذي كانت تفتقده إدارة ترامب، لكنه انضباط حازم لن يتراجع بدوره عن إيجاد الأدوات اللازمة لكبح جماح طهران في المنطقة، ويعني هذا فيما يعنيه تحديا أكبر لطهران لتثبيت حضورها الإقليمي وإغلاق الطريق على واشنطن لاستهدافها في مناطق نفوذها، تحديدا لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، بينما سيكون الملف اليمني حاضرا من بوابة الحرب المستمرة والتي لا يبدو واضحا بعد ما إذا كان بايدن ينوي واقعا الضغط لإيقافها. لن يكون لدى طهران مساحة للرفاهية لأن ما كان يوفره ترامب لها من تصعيد ينعكس على الداخل حالة من الحنق ضد الإدارة الأميركية، لن يكون حاضرا في زمن بايدن، الذي سيستخدم سكاكر رفع العقوبات في الداخل لإنتاج حالة ضغط عضوية قد تطالب تدريجيا بسحب الذرائع من أميركا لتسريع الاستفادة من العودة للاتفاق النووي.
(*) ينشر بالتزامن مع موقع “جاده ايران“