في كتابه الجديد الصادر حديثاً عن جامعة المعارف بعنوان “الجندر المخادع-من المرأة الضحية إلى تفكيك المنظومة الأسرية”، يبدو طلال عتريسي واقفاً في قوس محكمة الرأي العام، ليُقدّم مرافعة تفكيكية لهذه النظرية ودوافعها، والآثار التي ترتبت على الأخذ بها، وما تزال تترتب، لا سيما وأنّ هذه الإلزامية التي تحدث عنها ما تزال وضع نقاش، قبولاً أو رفضاً، في العديد من الدول، ومنها برلمانات غربية أقرت قوانين شرّعت الشذوذ من الجنسين، في حين تصدّت روسيا بلسان رئيسها فلاديمير بوتين لهذه الظاهرة حماية للأسرة، وأيضاً رفضت دول إفريقية عدة إقرار هذه القوانين.
في الفصل الأول بعنوان “المرأة قضية، المرأة ضحية”، يسأل المؤلف: “هل المرأة فعلاً ضحية دائماً”؟ ويقول إن قضية النساء ليست واحدة. وهي ليست “ضحية” في كل مكان وزمان، ولأن المرأة ليست الوحيدة التي يُمكن أن تُظّلم، متوقفاً عند ما أسماه بأدبيات الأمم المتحدة وأدبيات الجمعيات النسوية في توجيه النقد والاتّهام إلى المنظومة الأُسريّة التقليدية، معتبراً أن التعامل مع قضية المرأة باعتبارها واحدة “نقطة انطلاق خاطئة ومُضللة في أدبيّات الأمم المتحدة وفي الفرضيّات الجندرية”، متسائلاً: هل تُعدّ قضية المرأة مستقلة أيضاً عن الانتماء، وعن الخصوصية الثقافية؟
ويشير عتريسي إلى أن التنوع الثقافي الذي دعت الأمم المتحدة إلى احترامه في مواثيقها الدولية، وفي شرعتها العامة، وحسبته مع حرية الاعتقاد الديني، حقاً من حقوق الإنسان، يؤكد البعد الثقافي لقضية المرأة التي ستختلف من مجتمع إلى آخر، مبدياً أسفه لفرض الأمم المتحدة “توحيد الرؤية الثقافية حول المرأة وأدوارها الاجتماعية والأسرية، بحيث يصير لزاماً على كل المجتمعات أن تتخلّى عن خصوصياتها وتنوعها الثقافي”.
في هذا السياق، يأتي تفكيك عتريسي للفرض القسري الذي تعمل عليه الأمم المتحدة ووكالاتها في مسائل تتعدّى حقوق المرأة؛ بوصفه حجة قوية في معرض نقاش هذه المسألة. يقول المؤلف إن البدايات كانت في طرح مسالة الجندر في مؤتمر بكين في العامين 1994 و1995، وما لبثت أن تطوّرت من تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين، أو عدم التمييز على أساس الجنس وصولاً إلى المساواة الجندرية، والهويّة الجندرية، والتوجهات الجنسية، والتوجهات الجنسية المثلية، والدعوة إلى تغيير ما بقي من أحكام وتشريعات تعوق تلك الهويّة، وتلك التوجهات. فإلى جانب عدم احترام التنوع الثقافي هناك مسألة إلزام المؤسسات التربوية على سبيل المثال باعتماد مناهج لا تتناسب وخصوصيات هذا المجتمع أو ذاك، إضافة إلى ما شهدناه من انهيار القيم الأخلاقية والدور الغائب لمؤسسة الأمم المتحدة ومواثيقها تجاه ما تعانيه المرأة الفلسطينية والطفل الفلسطيني في غزة وحرب الإبادة المفتوحة بحق مجموعة بشرية كان الأولى بالأمم المتحدة أن تجد لنفسها دوراً في معالجتها.
يفتح طلال عتريسي النقاش على مصراعيه في الفصول الستة للكتاب، بإبرازه حججاً مضادة لطروحات الجندر، مؤكداً “أن الجندر مخادع، لا يلتزم بأي ثوابت بيولوجية ولا بأي مرجعية اجتماعية، أو أسرّية ولا بما هو حلال أو حرام”
ويثير عتريسي ما طرحته اتفاقية “سيداو” لإلغاء جميع أنواع التمييز ضد المرأة والصادرة عن الأمم المتحدة، لجهة ربط الاتفاقية قضية المساواة بين الرجل والمرأة بالسلام الدولي ورفاهية العالم، ما يجعلنا نبدي – معه – استغرابنا “لهذا الرفاه” في ظل حرب الإبادة التي تشنها اسرائيل ويدعمها العالم مادياً أو صمتاً عما يتعرض له مليوني إنسان في بقعة جغرافية محددة، وسط صمت الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان والحركات النسوية المحلية والعربية والعالمية. هذا الصمت على معاناة نساء غزة وما تتعرضن له من إجرام جسدي وأسري وأعمال قتل وتنكيل وتجويع، يدفعنا لتأجيل النقاش حول مسائل الرفاه والسلام المطروحة آنفاً من الأمم المتحدة، وبما يجعلنا نؤيد المؤلف بأن هذا الربط إنما هو “ربط مخادع”.
وفي فصل من فصول الكتاب بعنوان “المجتمع الذكوري، النظام الأبوي”، يشير عتريسي إلى مقولة الأدبيات النسوية من أن النظام الأبوي “هو نظام عالمي، أو نظام شمولي”، ما يعني أن وضع المرأة السيئ يعود – برأيهم – إلى النظام الأبوي، مستعرضاً سلسلة استهدافات النظام الأبوي في أوروبا، إذ بدأت “عملية مطالعة النظريات المعرفية الموجودة ونقدها في “العلوم الذكورية” وطرحت في المقابل نظريات تحت عنوان “النظرية المعرفية النسوية” ثم يتبعه بالسؤال التالي: ماذا لو كُتب التاريخ بمنظور نسوي واعترض الذكور على ما جاء فيه، فإلى من يرجع تقرير الحقيقة التاريخية في مثل هذه الحال؟
يناقش عتريسي نظرية الدكتور هشام شرابي الذي دعا إلى إزاحة الأب رمزاً وسلطة كي يحصل التغيير، رافضاً دعوته هذه، مبرراً رفضه لها في سياق النص (ربما دعوة شرابي كانت في سياق تفكيك البطريركية السلطوية، أي الاستبداد والتسلط!). أما الفكرة التي لم “يبلعها” الدكتور عتريسي فهي في طرح منظمة “أبعاد” (جمعية نسائية في لبنان) تهمة أن الرجل/الزوج هو سجّان، وأن المرأة سجينة، وأن الأسوأ من هذا التشبيه، كما يقول، هي الدعوة إلى الوقوف بوجه السجّان/الرجل!
يفتح طلال عتريسي النقاش على مصراعيه في الفصول الستة للكتاب، بإبرازه حججاً مضادة لطروحات الجندر، مؤكداً “أن الجندر مخادع، لا يلتزم بأي ثوابت بيولوجية ولا بأي مرجعية اجتماعية، أو أسرّية ولا بما هو حلال أو حرام”.
سيبقى النقاش مفتوحاً، وخاضعاً لمدى قدرة كل طرف على قبول أو رفض هذه القوانين التي جعلتها الأمم المتحدة إلزامية في المجتمعات المغايرة لمثل هذه القوانين ثقافياً واجتماعياً ودينياً.. ومغايرة أيضاً لمبدأ حرية الرأي الذي تدّعيه الأمم المتحدة، والحركات النسوية في العالم. باختصار كتاب الدكتور عتريسي يستحق المطالعة والإقتناء.