في جانب من هذا الحديث، اختار المتحدثون تبرير التراجع في المكانة، أو تفسيره، ضمن حالة أكثر شمولاً وعمقاً في التفاعلات الجارية في النظام الدولي، وهي ما صار يُعرَّف عنها بـ”مزاج الانعزال” لدى عدد متزايد من الدول الأعضاء في النظام أو/ و موجة الدول الواقعة تحت عقوبة العزل والإبعاد عن فعاليات النظام بسبب الخروج أو الزعم بالخروج على القواعد المعمول بها.
***
حال الدول في النظام الدولي كحال الأفراد في النظام السياسي لكل دولة على حدة. لاحظنا حتى تأكدنا من حقيقة أن نسبة متزايدة من الأفراد صاروا يتعرضون لحال الانعزال أو حال العزل وما يستتبعهما من شعور بالوحدة، وفي أحوال قصوى، بالرغبة أو الميل للانتحار. أهتم بمتابعة الظاهرة، وهي ليست جديدة أو طارئة على كل حال، باحثون ومفكرون في أنحاء كثيرة وتخصصات عديدة، من بينها علم النفس اهتموا بها. خرج هؤلاء علينا بأفكار هامة يمكنني تلخيص بعضها في الآتي:
أولاً؛ تشهد معظم الدول في العقود الأخيرة زيادات مطردة في عدد سكانها. ازدحمت الطرق والمدارس ومواقع العمل ووسائل المواصلات. هذه الزيادات تسببت في ضغوط شتى على حرية الحركة والتنقل وصعوبات في خدمات التعليم والصحة وتضييق في مساحات العمل والرفاهة، تسببت بالتالي في ضيق بل في أزمات نفسية حادة. كتب أحد الفلاسفة في وصف هذه الحالة قائلاً إنها أشبه ما تكون بحال “الانسحاب العظيم” للفرد العادي من المجتمع الذي يعيش فيه.
أمامنا، وبالتحديد في مقدم النظام الدولي الذي نعيش في جنباته، دولة عظمى ارتكبت من السياسات والممارسات ما جلب عليها بوادر عزلة داخل نظام دولي هي صانعته وقائده. جلب أيضاً بالتبعية داخل قطاع هام من نخبتها رغبة متنامية في الانعزال وسلوكيات أفراد وأجيال تستحق منا المتابعة والانتباه
ثانياً؛ شملت الزيادة قطاعاً هاماً من السكان وهم كبار السن. هؤلاء بطبيعتهم انعزاليون بالمزاج أو بالفرض المجتمعي. هؤلاء يضجون من الضجة والصخب المحيط بهم من كل مكان فيختارون، أو هم يُجبرون على اختيار الانعزال. هنا يتولد عند نسبة غير قليلة شعور بالوحدة ناتج عن حياة العزلة أو الانعزال، أي عن انفرادية التفاعل إن صحّ التعبير. الانفرادية تستبعد بحكم التعريف المشاركة وتعتمد درجة أعلى من الاستقلالية أو وهو الأهم وربما الأخطر درجة عالية من “النفسنة” ومن حب الذات أو تقديسها وربما درجة لا بأس بها من شعور بالعظمة المبالغ فيها أو باليأس الذي عادة ما يصيب المحبوس في سجن انفرادي.
ثالثاً؛ تفاقمت مشكلة الانفرادية وعلامات وتصرفات ناتجة عن الشعور بالوحدة بين سكان دول تعرضت مؤخراً لأوبئة مثل الكورونا أو لكوارث طبيعية. لاحظنا هذه الحالة في مصر حيث وقع ميل واسع من جانب المواطنين لتجنب المشاركة في المناسبات الاجتماعية بل وفي حالات كثيرة امتنع كثيرون عن الذهاب لأعمالهم وزادت نسبة من فضّلوا، إن سمحت ظروف العمل، أداء مهامهم من منازلهم. لوحظ في الوقت نفسه تغيير في السلوكيات والعلاقات نتيجة الشعور المتزايد بالوحدة وبغيرها من سلبيات الانفرادية في السلوك والتفاعلات مع الغير وبخاصة مع السلطة وممثليها.
رابعاً؛ لا جدال أنه في غياب التعددية السياسية والأحزاب والنقابات وأجهزة التواصل الإعلامي وحريات التعبير والتنقل، يزداد ميل الإنسان للتقوقع والانفراد في التصرف وبالتالي يتفاقم شعوره بالوحدة ومعه الرغبة في الاختفاء أو عدم المشاركة وفي النهاية يغلب اليأس والإحباط فالانزواء. هذا في حد ذاته تهديد مستتر للاستقرار، فالإنسان المشارك فضلاً عن أنه أداة بقاء ورقي الدولة، هو أيضاً الهدف الذي من أجله قامت وتبقى.
***
صدق الأولون من علماء السياسة عندما رفضوا الفصل المطلق بين الداخل والخارج في دراسة علوم السياسة. توقفت طويلاً أمام العناصر التي تتسبب في صنع الإنسان، ولا أقول المواطن، الذي يختار الانعزال أو يرضى بالعزلة المفروضة عليه. رحت أقارنها بالعناصر التي تتسبب في صنع الدولة التي تختار الانعزال أو تلك التي ترضى بعزلة تفرض عليها. رحت أراجع وأتذكر وأقارن.
سويسرا مثلاً اختارت الانعزال وأسمته حياداً. في قارة تشهد من عشرات العقود حروباً لا تتوقف، أهلكت في طريقها امبراطوريات ودمّرت مئات المدن وأطلقت العنان لهجرات وهجرات مضادة.
***
أحدهم سألني إن كنت أعتبر الولايات المتحدة في وضعها الراهن ومع استمرار حرب إسرائيل وأمريكا ضد الشعب الفلسطيني وبخاصة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل بخاصة ضد شعب غزة، أعتبرها دولة في حال انعزال. واستطرد في السؤال، أو أضاف سؤالاً إلى سؤال، قال فإن اعتبرتها في حال عزل أو انعزال فهل لاحظت على سلوكها تغييراً، وبدقة أشد ألست شاهدا مثلي على دولة عظمى تتصرف تصرفات دولة تشعر بالوحدة وهي عضو في نظام دولي غاص بالأمم بل هي وبالاسم ما تزال تحمل صفة القائد أو المهيمن في هذه الجماعة؟ ألم تنتبه إليها وبعض تصرفاتها تُعبّر عن حالة إحباط؟ ألا تراها كما أراها دولة عظمى محبطة؟
***
يُردّد خبراء السياسة الدولية ما يعتقدون أنه صار من قواعد الفهم للسلوك السياسي للدول، كما في السلوك السياسي للأفراد داخل كل دولة، أن أموراً ثلاثة تتسبب واحدة منها على الأقل في إثارة الرغبة في الانعزال عن الجماعة، وهي الحالة التي يصاحبها الشعور بالوحدة وتصرفات تعكس حالة مزيج من المشاعر والطموحات المحبطة. أما هذه القواعد فمنها (1) خروج القوة الأعظم المهيمنة على قواعد النظام الدولي، وأكثرها من صنع هذه الدولة القائد نفسها، وتمرد دول متزايدة العدد. (2) المبالغة في ممارسة الهيمنة تحت عنوان قيادة النظام الدولي. (3) الشكوك المتزايدة لدى عدد كبير من الدول في نجاعة النظام الدولي القائم وبخاصة قدرته على تحقيق الاستقرار والأمن الدوليين. لا يفوتني في هذا الصدد أن ألفت النظر إلى مدى انطباق قواعد الفهم هذه على سلوك الدول الأعضاء في النظام الإقليمي كما الدولي.
***
الدولة صانعة القواعد الأخلاقية للنظام الدولي صارت بشكل من الأشكال متهمة بخرق هذه القواعد. الدولة المكلفة بحفظ الأمن والسلم الدوليين هي الآن متهمة بأنها تنشر الفوضى وتثير الشغب. الدولة الأمل، باعتقاد شعوب العالم، صارت مصدراً للألم
كثيرة هي النماذج في التاريخ المعاصر التي تستحق العودة إلى دراسة نهج سياساتها الخارجية والداخلية، خلال انعزالها أو عزلها. كوبا كانت ولا تزال نموذجاً لحال دولة صغيرة فرض عليها العزل. الصين الشعبية مارست هذا الدور لعقود قبل أن تقرر الولايات المتحدة حاجتها لوجودها قطباً مشاركاً. كوريا الشمالية نموذج فريد لرد فعل دولة صغيرة تعرضت للعزل من جانب القوة الأعظم فتحولت إلى قوة حشد شامل غير مسبوق وتهديد كامن لأمن النظام الدولي. إسرائيل نموذج آخر فريد. عاشت لفترة غير قصيرة تحت قرار إقليمي بالعزل تجاوزته بشن حرب شبه دائمة على الإقليم الذي فرض عليها العزل وبالاندماج العضوي في النظام السياسي للدولة الأعظم. تايوان تقف برد فعلها أيضاً فريدة. فضّلت أن تستمر أداة في صراع القمة الدولية واثقة من أن مصير عزلتها مقترن بظروف تفرض عليها عودتها جزءاً من الوطن الأم. سمعت صديقاً في الصين يصف حالة تايوان (فورموزا سابقاً) بحالة دولة تعيش على فائض الزمن. عشت دهراً أحاول فهم ما قصد.
لكل من هذه الدول – النماذج سيرة حياة. كل منها اختط لنفسه سياسة خارجية تناسب ظروف العزل أو الانعزال وتتلاءم مع هدف التخلص من هذا الوضع أو الاستفادة منه. كل منها عانى من ضغط إحباط أو خيبة أمل وانقسامات داخلية. كل منها عاش مراحل ارتباك وتردد وقلة ثقة في الآخر عدواً كان أم صديقاً.
***
أمامنا، وبالتحديد في مقدم النظام الدولي الذي نعيش في جنباته، دولة عظمى ارتكبت من السياسات والممارسات ما جلب عليها بوادر عزلة داخل نظام دولي هي صانعته وقائده. جلب أيضاً بالتبعية داخل قطاع هام من نخبتها رغبة متنامية في الانعزال وسلوكيات أفراد وأجيال تستحق منا المتابعة والانتباه.
***
الأمر جد خطير وكذلك الوضع والظرف، فالدولة القائد، بقوتها الجبارة وأثناء لحظات ارتباك وسيولة ومعايير مزدوجة وشباب منفعل بالغضب أو عدم الرضا، تشارك في دعم حرب إبادة كبيرة تقرر شنّها ضد شعب فلسطيني أعزل، تشارك أيضاً في دعم حروب استعمار صغيرة في دول عربية وأفريقية متزايدة العدد. الدولة صانعة القواعد الأخلاقية للنظام الدولي صارت بشكل من الأشكال متهمة بخرق هذه القواعد. الدولة المكلفة بحفظ الأمن والسلم الدوليين هي الآن متهمة بأنها تنشر الفوضى وتثير الشغب. الدولة الأمل، باعتقاد شعوب العالم، صارت مصدراً للألم.