مع مغادرة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان العاصمة اللبنانية، هناك من شعر بأن المبادرة الرئاسية الفرنسية مصيرها مثل المبادرة الفرنسية التي تخص تنفيذ القرار 1701. صحيح أن لودريان “ما زال على السمع” وزار الفاتيكان في الساعات الماضية، وكان لبنان في صلب مباحثاته هناك، غير أن معظم القيادات اللبنانية التي تتعاطى مع الفرنسيين رسمياً باحترام ولياقة سرعان ما تذهب في السر إلى التهكم على دور “الأم الحنون” التي رفضت الاستماع إلى النصائح التي أسديت إليها بعدم ارسال لودريان مجدداً إلى بيروت والغاء فكرة قيام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بزيارة ثالثة للبنان.
في هذه الأثناء، بدأت الدوحة تستشعر صعوبة تمرير ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية وأيضاً الوزير السابق جهاد أزعور، وبالتالي صار لا بد من تثبيت فكرة “المرشح الثالث”، وعلى هذا الأساس، زار الموفد القطري جاسم بن فهد آل ثاني العاصمة اللبنانية في نهاية أيار/مايو المنصرم وأمضى فيها ثلاثة أيام بعيداً عن الأضواء، لتفادي استفزاز سفراء الخماسية الذين صار بعضهم يُردّد أن حكوماتهم راجعت الحكومة القطرية وتبين أن الأخيرة نزعت عن “أبو فهد” أي مسؤولية في الملف اللبناني!
وهذه الزيارة القطرية التي أحيطت في المرة الأخيرة بكتمان شديد، حاولت أن تُركز في مضامينها الرئيسية على خلق أرضية مشتركة لأطراف متعددة قادرة على السير بخيار “المرشح الثالث” والذي بات بالنسبة للفواعل الدولية والاقليمية ضرورة لا بد منها لتجاوز المأزق الرئاسي اللبناني.
و”أبو فهد” التقى مسؤولين لبنانيين أبرزهم المعاونان السياسيان لرئيس مجلس النواب علي حسن خليل وللأمين العام لحزب الله الحاج حسين الخليل، وقد لمس من “الخليلين” تمسكاً أكثر من أي وقت مضى بخيار فرنجية، الأمر الذي يُؤكد ما قاله رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد للمبعوث الفرنسي لودريان بأنه في ضوء تطورات الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى الآن، صار “الثنائي” أكثر تمسكاً من أي وقت مضى بفرنجية.
من هنا يمكن قراءة المسعى القطري ربطاً بالعديد من المعطيات والسياقات السياسية:
أولاً؛ إن الحركة القطرية المستمرة في الملف اللبناني وعلى عكس ما يوحيه العديد من الأطراف الممتعضة منها، منسقة بشراكة لافتة للإنتباه مع الجانب السعودي، وبدا أن “رشقات” الاستهداف التي تعرض لها الدور القطري من قبل محسوبين على السفارة السعودية في بيروت، تمت معالجتها سريعاً بوقف هذه الحملة التي تبين أن من يقف وراءها هو مرشح رئاسي لبناني.
ثانياً؛ يتردد في الأروقة الدبلوماسية أن الجانبين السعودي والقطري استنتجا أن الفرنسيين مارسوا سياسة تضييع الوقت والإشغال ولم تصل مبادراتهم إلى أي نتيجة فعلية منذ أربع سنوات؛ لذا، وجب الذهاب نحو خيارات مختلفة، ومن هنا أتت فكرة المشاورات في قطر.
ثمة اقتناع أن الحركة القطرية في الملف الرئاسي قابلة للتطور في اتجاه ملف الجنوب ومحاولة وقف الحرب هناك، وهذا الأمر يعكس ميلاً قطرياً لدعم استقرار لبنان، ومن هنا ثمة نقاشات جدية تُعبّر من خلالها الدوحة عن رغبتها بتثمير جهدها اللبناني من خلال حضور استثماري أكبر في قطاعات متعددة، وهذا الأمر حتى لو لم تخطط له قطر سيُكرسها عنصراً مؤثراً في صياغة المشهد السياسي اللبناني مستقبلاً
ثالثا؛ وربطاً بكل ما يحصل من تحركات ولقاءات معلنة وسرية بين بيروت والدوحة، ثمة استشعار سياسي أن قطر والتي فعّلت محركاتها باتجاه أطراف عديدة، من خلال الموفد الأمني أو عبر لقاءات المسؤولين اللبنانيين مع رئيس الحكومة القطرية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وغيره من الطاقم الدبلوماسي، يظهر أن القطريين يعملون على خلق مسار سياسي ثالث يضم القوى الرافضة لمرشح حزب الله من جهة ولكل مقاربات رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للملف الرئاسي من جهة أخرى، وهذا الأمر يُعمل عليه بهدوء مع القوى المعنية بذلك.
رابعاً؛ بات بحكم المؤكد أن الحركة القطرية تحظى بدعم من الولايات المتحدة والسعودية، وأن خيار المرشح الثالث مرهون بتوفير رافعة سياسية تضم التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي وتكتل الاعتدال الوطني وحزب الطاشناق، والعمل على إمكانية الاتيان بجزء من المعارضة إلى هذا الخيار، وتحديداً حزب الكتائب من جهة وبعض النواب التغييريين من جهة أخرى ما قد ينتج توافقاً على اسم رئيس وسطي بنحو 43 صوتاً هم الثلث المعطل الذي سيحول دون عقد أي جلسة لا تتبنى المرشح الوسطي.
خامساً؛ ليس خافياً أن الاندفاعة القطرية تحاول ردم الهوة بين القوات اللبنانية ورئيس المجلس النيابي، أولاً حول الحوار والتشاور المعطل، وثانياً حول طبيعة المرحلة المقبلة وشكل الدولة والنظام في ظل تنامي خطاب الانعزال والتقسيم والذي يخيف بري أكثر من أي أمر آخر، من هنا فإن مسارات الحل وفقاً للعقلية القطرية تقول إن الحوارات الثنائية أكثر قدرة على خلق الحلول.
سادساً؛ برغم السؤال المتكرر حول “هل يزور وفد من حزب الله الدوحة؟”، إلا أنّ المتابعين يعتبرون أن الزيارة تفصيلٌ ثانويٌ، فالتواصل بين الدوحة وحزب الله لم ينقطع في الآونة الأخيرة، وأي حل رئاسي سيكون الحزب ممره الإلزامي. زدْ على ذلك المساحة التي باتت قناة “الجزيرة” تعطيها لحزب الله، من دون غيرها من الفضائيات العربية والعالمية.
سابعاً؛ أي خيار رئاسي وسطي أو غير وسطي، يستمد جزءاً من شرعيته بوجود كتلة سنية مؤيدة له، من هنا يمكن الذهاب نحو خيارات أقل حدة من شأنها أن تُريح حزب الله وتُطمئن جبران باسيل وتُكرّس علاقة متوازنة مع رئاسة الحكومة وهذه الشخصية حتماً ستطمئن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي يعتبر أن تحصين مصالحة الجبل يكون بخيار من هذا القبيل لا بخيار الرئيس الصدامي. وما يسري على جنبلاط يسري بطريقة مختلفة على شخصيات مسيحية معارضة ولكن على الطريقة الجنبلاطية وليس “الجعجعية”.
ثامناً؛ هذا الإطار الذي يُعمل على اتمامه استفز سمير جعجع، الذي حرص على لقاء النائب ميشال معوض بهدف دفعه باتجاه أساسي وهو إعادة الإمساك بورقة الـ 42 نائباً مع إمكانية توسيع هامش هذا العدد بالترغيب (الحديث عن خسارة حزب الله للحرب) أو الترهيب (بالحملات الإعلامية والضغط السياسي) تماماً كما حصل في لحظة ترشيح جهاد أزعور، من هنا فإن معوض الذي تحرك بعنوان إعادة لملمة صفوف المعارضة بدأ يتلمس تأثيرات الحركة القطرية باتجاه الكتل.
تاسعاً؛ ثمة اقتناع أن الحركة القطرية في الملف الرئاسي قابلة للتطور في اتجاه ملف الجنوب ومحاولة وقف الحرب هناك، وهذا الأمر يعكس ميلاً قطرياً لدعم استقرار لبنان، ومن هنا ثمة نقاشات جدية تُعبّر من خلالها الدوحة عن رغبتها بتثمير جهدها اللبناني من خلال حضور استثماري أكبر في قطاعات متعددة، وهذا الأمر حتى لو لم تخطط له قطر سيُكرسها عنصراً مؤثراً في صياغة المشهد السياسي اللبناني مستقبلاً.
عاشراً؛ كل ما سبق يبقى مرهوناً بمجريات الوقائع الميدانية في قطاع غزة، وما يمكن أن تنتجه الصفقة المحتملة، وعليه فإن الرئاسة الحاضرة في المبادرات الخارجية، مرتبطة بتحقيق تسوية شاملة للحرب وما قد ينتج عنها في اليوم التالي، أو أننا مقبلون على تأجيل الحلول إلى ما بعد الانتخابات الأميركية والتي ستكون محط أنظار العالم جميعاً.