ثلاثة إتجاهات تتحكم بالواقع الإقتصادي اللبناني، ساهمت بفرضها خيارات سادت لما يزيد عن ربع قرن. تراكم انتج واقعا اقتصاديا وماليا مشوها بنيويا وأفضى إلى مؤشرات رقمية بالغة الحراجة والدقة والخطر.
الإتجاه الأول، الانهيار المالي وما يتبعه من انهيارات في المؤسسات وتسعير الاصول وتبخر الادخارات بمختلف اشكالها مع سقوط اشكال من النظام الاقتصادي السائد، من دون أن يعني ذلك بالضرورة السقوط التام لاساس النموذج الإقتصادي السائد حالياً.
الإتجاه الثاني، الاصلاح الحقيقي المستند إلى خيارات نقيضة في الاقتصاد أولا، ومن ثم في السياسات المالية وبعدها النقدية خلافا لكل ما ساد على مدى أكثر من ربع قرن. ويرتكز جوهر التغيير على الاقتصاد المنتج والعمل لا الريع أو السمسرة ومن الضروري أن يشمل هذا التغيير آليات عمل تضع حدا للمحاصصة والفساد وسرقة المال العام واستباحة القوانين، وكلها ممارسات باتت تشكل نمطا عاما أقوى من القوانين وتتجاوز الاقتصاد الى المجتمع بأسره.
الإتجاه الثالث، إستمرار الواقع الاقتصادي الحالي مع تامين واستهلاك كل الاحتياطيات المتوفرة والممكنة الان وفي المستقبل وبيع كل الأصول وحتى الثروات المستقبلية.
لا تطرح هذه السيناريوهات انقلابات كبرى سلبية أو ايجابية (انهيار او إصلاح) إنما تفرض تغييرا في موازين القوى المتحكمة وتحسينات شكلية في الاداء وادخال اليات جديدة واشكال مختلفة قد يبدو البعض منها مناقضا لما سبقه ولكنه في الجوهر، يكرس النموذج الإقتصادي المعتمد.
إن الحديث اليوم عن ورقة اقتصادية ومالية ترتكز على مؤتمر سيدر وخطة ماكنزي (طالبت الشركة نفسها رسميا بسحب اسمها عنها)، ما هي الا عودة الى الخيارات السائدة منذ ما بعد اتفاق الطائف والتي يعيش لبنان في ظل نتائجها الكوارثية! هذه الخيارات ـ الإتجاهات الثلاثة المطروحة هل هي ممكنة او سهلة او ترتبط بالرغبات المحلية او الخاصة لأطراف السلطة او للبعض منها أو لرغبات خارجية؟
لا يمكن فصل البعد الاقتصادي وعزله عن مجمل التعقيدات المرتبطة بواقع الجغرافيا السياسية للبنان والمنطقة والتشابكات السياسية المحلية والاقليمية وغيرها، ولكن الاهم انه صار مطلوبا، في المقابل، عدم عزل البعد الاقتصادي عن مؤشراته الفعلية الخطيرة وربطه فقط بالعوامل الانفة الذكر كما جرى طوال السنوات الماضية، لا سيما من قبل الجهات السياسية التي لم تتدخل مباشرة في الملف الاقتصادي أو كما تتصرف بعض القوى حاليا بحجة أن الملف سياسي اولا واخيرا.
يمكن أن يكون ملف الغاز والترسيم احد اكبر اسباب ابتزاز التصنيفات الاقتصادية للبنان بشقها السياسي كما يمكن أن يكون احد اسباب الضغط المباشر وغير المباشر. هكذا يريدون أن تتحول واحدة من اهم اوراق القوة لدى لبنان الى عامل ابتزاز ضده
كان السيد محمد حسين فضل الله يشبه لبنان واقتصاده تحديدا بالورقة الطائرة حيث لا يسمح لها بالتحليق ولا يسمح لها بالهبوط، فتظل تتارجح ويبدو أنه لتاريخه لا قرار بالانهيار من قبل من يستطيع ذلك ولا قرار بالاصلاح والتغيير من قبل من يفترض به ذلك. جملة معطيات تتداخل بعضها ببعض علما ان تداخلها ليس صدفة أو بريئا:
أولها، الخلط الى حدود الاندماج بين الأزمة الاقتصادية الحادة والمتراكمة تباعا منذ 1992 نتيجة عشرات العوامل الموروثة والمستجدة خاصة ما طرأ حينها من تشريعات وقوانين تنسجم مع خيارات لبنان الخدماتية ودنو السلام الموعود وغيرها.
ثانيها، تسخيف الامكانات والقدرات المحلية، سواء المتاحة الان أو التي يمكن توفرها، لكأن البلاد مفلسة فيما الموارد المهدورة (تلطيفا لكلمة مسروقة) تقدر بمليارات الدولارات سنويا وهي معروفة المصادر والمصبات وكذلك ادارة الموارد والاصول.
ثالثها، الثروة النفطية والغازية واخراجها تماما من المعادلة الاقتصادية وحصرها بالمنافع عبر الابطاء بالعمل او حصر الوعود للمستفيدين وجنسياتهم المختارة او الشروط التي تتسرب بين الحين والاخر.
وهنا لا يمكن اغفال الغاز ببعده الاستراتيجي وبموقع لبنان وقوته ربطا بالخلاف الحدودي على ترسيم المنطقة البحرية والحدود البرية مع العدو الاسرائيلي، لما لهذا الامر من تاثير على قدرة لبنان الداخلية وعلى لعب دور مؤثر بتصدير الغاز الى اوروبا، فضلا عن تأثيره بالنسبة لادخال مستثمرين “مزعجين” الى هذا القطاع في هذه البقعة من العالم. يمكن أن يكون ملف الغاز والترسيم احد اكبر اسباب ابتزاز التصنيفات الاقتصادية للبنان بشقها السياسي كما يمكن أن يكون احد اسباب الضغط المباشر وغير المباشر. هكذا يريدون أن تتحول واحدة من اهم اوراق القوة لدى لبنان الى عامل ابتزاز ضده بسبب سوء الادارة أو الخشية من اغضاب الاميركيين. يمكن فعلا اختيار اسهل “الشرور” والابقاء على النمط الإقتصادي القائم مع بعض التحسينات الشكلية، فينتقل البلد العاجز عن اجراء مناقصة بالشروط البديهية للمناقصات الى مستوى ارفع وادق، أي شراكة مع القطاع الخاص واي قطاع خاص؟ (نفس القطاع الذي لا يعمل الا بالشراكة مع السياسيين). هذا الخيار المتمثل بسيدر يعني الاقرار الكامل بصوابية واحادية الخيارات الاقتصادية والمالية والنقدية التي اتخذت طوال السنين السابقة وعندها للانصاف يجب على اصحابها الكف عن القول انها بدائل اصلاحية.
هذه عملية قد تستمر لسنوات عدة، عبر بيع كل شي من أجل إستمرار تمويل الدولة مع القوى السياسية وقد تترافق مع موارد متاتية من الغاز والنفط وربما جزئيا من اعمار سوريا… وبعدها عود على بدء مع فارق اساسي، عندما تتبخر كل الموارد ويبقى اساس المشكلة.