لن تهدأ أحوال العاصمة قريباً، وسيبقى الوضع على حاله لفترة ليست بالقصيرة. ماذا يفعل؟
جاء من الخليج إلى بيروت لاجراء امتحاناته الجامعية، والآن وبسبب الأوضاع الأمنية المتردية، لا جامعات ولا امتحانات ولا مطار.. فلماذا يبقى. قصده أحد الأصدقاء من أبناء قريته:
– متى ستذهب إلى القرية؟
– لولا بعض الأمور العالقة لذهبت الآن.
– في ظل هذا الوضع لن تستطيع أن تنجز شيئاً، ما رأيك لو رافقتني؟
– الآن.
– أجل، الطريق طويل، ولا أريد أن أذهب وحدي.
ارتدى ملابسه على عجل. وضع بعض الأغراض الضرورية في حقيبة صغيرة، وأخبر شقيقته بأنه ذاهب الى قريته الجنوبية هربا من المحاور المشتعلة في العاصمة. ركب سيارة يقودها صديقه، واتجها جنوباً، حيث الأمان المفترض. وبعد ساعة ونيف، كانا قد تخطيا حدود العاصمة، وإذ بحاجز طيار يفاجئهما:
– من أين الشباب؟
– من بيروت.
– إلى اين؟
– جنوباً.
– ماذا يوجد في السيارة؟
– لا شيء، بإمكانكم تفتيشها.
– الهويات.
بعد أن تفحص شباب الحاجز الهويات، تغيرت سحنتهم:
– ستبقيان معنا لبعض الوقت.
ما هي إلا دقائق قليلة، حتى أجبرا على الخروج من السيارة بالقوة، وتم حشرهما في سيارة أخرى، وبعد توثيق الأيدي، وتغطية العيون، انطلقت بهما إلى جهة مجهولة.
إنهما مختطفان. هذا أول ما فكرا به. بعدها فراغ وضياع وتسليم.
بدأ هذا الشاب الثلاثيني يحس بالطريق التي تقطعها السيارة. الآن نحن في طريق ترابية وعرة تتجه صعوداً. دقائق مرت قبل أن تتوقف السيارة، وايد خشنة غليظة تمتد لسحبه خارجها. سيل من الشتائم والاهانات تنهال عليه. لكمات بالأيدي. وركل بالأقدام. ثم ضرب مبرح بأعقاب البنادق. هو لم يفعل شيئا، لم يشارك في هذه الحرب القذرة لا من قريب ولا من بعيد. إنه إنسان مثقف، سلاحه الوحيد كتابه وشهادته التي يسعى جاهداً للحصول عليها. خلال سنوات دراسته المدرسية والجامعية، صادق الجميع من دون أي تمييز بين دين أو طائفة، لسانه لم يعتد على الأحاديث الطائفية البغيضة، ويداه لم تحملا أي سلاح، ولم تتلوثا بأي دم.
منذ انطلاق الشرارة الأولى للحرب العبثية البشعة، وضع أحلامه وآماله وحتى أحزانه في حقيبة ورحل إلى بلاد أخرى، طلباً للاستقرار والرزق الحلال، فلماذا يحدث معه ما يحدث؟
استفاق من ذهوله ليجد نفسه في زنزانة ضيقة، نتنة الرائحة. رطبة الهواء، والدماء تسيل على وجهه، اقتطع بأسنانه قطعة من قميصه، عصب بها جبينه الدامي، وبدأ ينظم أفكاره، ويستجمع ما بقي لديه من قوة، ليحدد معالم المرحلة المقبلة. ماذا بعد؟
توالت الأيام عليه، وبدأ يعتاد زنزانته، ويحن للعودة إليها كلما أخرج منها قسراً، ليمنح سجّانه متعة تعذيبه. وهذا الفأر الصغير، الذي يخرج من جحره في أوقات منتظمة، بات صديقه، فهو يقتطع من زاده اليومي، الذي بالكاد يكفي لطفل صغير، ما يقدمه لهذا الصديق الجديد. وتلك الأحاديث المسروقة في غفلة عن السجّان، والتي يتبادلها مع أمثال له في الزنزانات المجاورة، هي التي تشعره بأنه ما زال على قيد الحياة، وتبث في داخله قوة التحدي.. إلى أن كان ذلك اليوم. فتح باب زنزانته وقت الغداء، ليرى وجهاً لم يعتد رؤيته في أيامه الماضية، لا بد أنه سجّان جديد، وحتماً سيكون لديه أساليب جديدة في التعذيب، ولكن، ومن خلال الضوء الشاحب المنسل من الخارج، بدا له بأنه يعرف صاحب هذا الوجه. استجمع شجاعته ليسأل:
– أنت جديد هنا؟
– أجل لقد قدمت البارحة فقط.
– يبدو وجهك مألوفاً لدي.
طلب منه السجان أن يقترب من مصدر الضوء، عله يتعرف اليه:
– أجل. أجل. أنا أعرفك ألم تدرس في ثانوية (…)؟
– لقد كنا زملاء في الصف ذاته. ألست(…)
– أجل أنا هو، وأنت (…)، ما الذي جاء بك إلى هنا. هل كنت مع المسلحين؟
– أبداً. لم أحمل السلاح يوماً، أنا ما زلت اتابع دراستى، ولكنه حظي العاثر. وأنت لماذا صرت هنا. هذا المكان ليس لك، وهذا العمل لا يليق بالزميل الذي كنت أعرف.
– معك حق. لم آتِ إلى هنا برغبتي، بل هي الخدمة الإجبارية. أرجوك لا تخبر أحداً بمعرفتك بي، وأعدك بأن أساعدك قدر استطاعتي.
وبالفعل بر زميل الدراسة بوعده، وبات يزيد له حصص الطعام، وينوعها له كلما أمكنه ذلك. كما أنه استطاع أن يبعد عنه شبح التعذيب لفترة، حتى جاءه في يوم وقال له:
– اليوم هو يومي الأخير هنا. كيف أستطيع مساعدتك؟
– هل بإمكانك أن تخبر أهلي بأنني ما زلت على قيد الحياة؟
– سأجد وسيلة لأخبرهم، والآن وداعاً.
أغلق الباب، وعاد من جديد وحيداً مع أفكاره وآلام روحه ونحول جسده، عاد من جديد يستجدي رفيق زنزانته ليطيل البقاء معه. وعادت روزنامة أيامه تزدحم بصنوف العذابات الجسدية والروحية والفكرية.
أشهر مضت، استدل عليها من علامات حفرها فوق الحائط يوماً بيوم، ولا شيء يتغير، تعرف على بعض الأرقام المحيطة به (المختطفون لهم أرقام تنوب عن أسمائهم)، تحدث إليهم. وثقوا به ووثق بهم. باحوا له وباح لهم. بالأسماء. بالعناوين. وحتى بالذكريات. أما أخبار الخارج، فكان يعرفها من القادمين الجدد.
وذات يوم من تلك الأيام المرة، بل الشديدة المرارة. عجت ممرات السجن بالحراس، وعلت أصواتهم شاتمين لاعنين. وبدأت الزنازين تفتح بشكل عشوائي. الأولى. الثالثة. السابعة. الثانية، وبعد كل باب يفتح، كانت تعلو صيحات الألم ممتزجة بصوت السياط فوق الأجساد العارية. مصحوبة بشتائم من كل الألوان.
– ألم أقل لكم بأن الأحاديث ممنوعة بين المساجين. لن يشرق عليكم يوم آخر.
وكلما بلغت الأصوات المستغيثة مسامعه، كان ينكمش على نفسه أكثر، وبشكل عفوي يزداد التصاقاً بالحائط، آملاً أن تنفتح به فجوة سحرية تخفيه عن العيون. لو فتح باب زنزانته الآن، ما الذي سينجيه من سياط الجلادين؟ جسده النحيل لم يعد يحتمل المزيد من التعذيب.
– الآن. افتح هذه، الرابعة.
إنها زنزانته. ما إن وضع المفتاح في القفل، حتى قفز من مكانه، كمن به لوثة، وما أن فتح الباب، حتى كان خارجها، يحرك يديه في الهواء كأنه أصيب بمس. ذهل الحراس من تصرفه اللاواعي.
– هل هو مجنون؟
– أعتقد ذلك، لقد ضرب كثيراً على رأسه. كما أنه لا يسمع. أجل هو لا يسمع.
تلقفت أذناه طوق النجاة “لا يسمع”. وبدأ يشير إلى أذنيه، ويتفوه بكلمات غير مترابطة. لا معنى لها، وزاد اتساع عينيه ليدل على استنكاره تهمة تحدثه مع جيرانه!
– أعده إلى زنزانته. لا يسمع، إذن لم يتحدث مع أحد.
اليوم. نجا، ولكن ماذا عن الأيام القادمة، هل سيكون باستطاعته الافلات من التعذيب في كل مرة يقرر فيها الحراس القيام بهكذا حفلة. لا يهم، لن يتعب رأسه بهذه الأفكار، ليتعامل مع واقعه يوماً بيوم.
وفي يوم صيفي شديد الحرارة، جاءه أحد الحراس ليخبره بأنه سوف ينقل مع مجموعة سجناء، إلى مكان آخر. وبعد أيام قلائل تم نقله مع آخرين بواسطة مركب صغير إلى بيروت، وهناك أودع في أحد المعتقلات.
مرحلة جديدة بدأت، بسجّانها وسجنائها. بهمومها ومشاكلها. بعذاباتها ومرارة أيامها. زنزانته هذه المرة لم تكن فردية، بل كانت تضم مجموعة من المختطفين عن تلك الحواجز التي تقسّم بيروت، وتقطع أوصالها. من جنسيات مختلفة، ومذاهب متنوعة. مجموعة تضم المؤمن والملحد. المتعلم والأمي. الغني والكاد على عياله. منهم من خرج من بيته لشراء الخبز، ومنهم من كان يحمل السلاح ويقاتل على المحاور. مجموعة غريبة متناقضة، يجمعها الاحساس بالظلم، والافتقاد للحرية والعائلة والأصحاب، كما الزنزانة الواحدة.
لم تستطع وحشية السجّان أن تنتزع من داخله ذلك الاحساس بالمسؤولية تجاه كل من مر على زنزانته. هل تصدقون بأنه لم يحقد على أحد؟ لم يتمنَ يوماً الخروج من أجل الانتقام، بل كان دائماً يخطط لحياة جديدة ومستقرة، إذا كتب له الخروج من أسره، وأكثر من ذلك. كان يحلم بمتابعة دراسته التي انقطعت.
وتكر سبحة أيامه وشهوره، ويطوي في سجنه عامين ونصف العام. يفتح باب الزنزانة يوماً، وآمر السجن، الذي لم يره طوال فترة مكوثه سوى مرتين أو ثلاث، ينادي عليه. لا بد أن الأمر خطير.
– أنت (…)، تقدم نحوي.
– نعم. هل من أمر؟
– اتبعني إلى مكتبي.
سار بخطوات مترددة يتبع آمر السجن، وعقله لم يكف عن التفكير. ماذا يريد منه؟ هل يريد أن يعاقبه لأن أحداً وشى به. هل يريد أن يجنّده ليكن عيناً له على الداخل؟ يفضل الموت على أن يكون لهم جاسوساً. دخلا المكتب، وهنا بدأ يتحدث معه بلهجة رقيقة لم يعتدها أبداً.
– كم مضى على وجودك بيننا؟
– سنتان ونصف. ربما.
– موعد الافراج عنك قد اقترب.
– أرجوك لا تعبث بمشاعري.
– صدقني، ما أقوله لك هو الحقيقة. ستخرج من هنا قريباً. لقد تم الاتفاق بيننا وبين “جماعتك” على مبادلتك بأحد رجالنا.
– “جماعتي”؟ لا “جماعة” لي. لم أكن يوماً ضمن حزب أو جماعة.
– لا يهم. ستخرج بعد الانتهاء من إجراءات التبادل. والآن سوف يتم وضعك بزنزانة منفردة. وسيزورك طبيب من قبل الصليب الأحمر للكشف عليك وتضميد جراحك.
خرج وهو في حالة ذهول. بين مصدق ومنكر. هل ما سمعه هو الحقيقة. أخيراً استجاب الله لدعواته. هي ليلة القدّر بلا شك مرت عليه. وضع في زنزانة نظيفة. أحضروا له حلاقا. زاره مندوب الصليب الأحمر. تم الاعتناء بكدماته وجروحه. وللمرة الأولى منذ تم اختطافه يتناول وجبات ثلاث كاملة.
عشرة أيام مرت. وها هو سجّانه يحضر له ثياباً جديدة.
– ألا تريد أن تستحم. أنه اليوم الموعود.
الشامبو والصابون والمياه الساخنة. أشياء افتقدها، وها هو ينعم بها من جديد. نظّف جسمه. ارتدى ملابسه الجديدة. تسلّم بعض متعلقاته التي كانت معه يوم تم اختطافه. أوراق وتواقيع. وهذا مندوب من قبل الصليب الأحمر يتسلمه. حتى هذه اللحظة هو غير مصدق، يتحرك بشكل آلي. إنه الآن يعبر ممراً طويلاً، ويسمع التهاني والتبريكات من الزملاء والحراس على حد سواء. بات خارج المبنى. وهناك سيارة سوداء بانتظاره، دخلها مع المندوب وانطلقت بهما. اجتازت السيارة بوابة ضخمة وتوقفت، وها هي سيارة أخرى تجتاز البوابة المقابلة، وتتوقف بدورها.
بدأ يتعرف على المكان، إنه “ميدان سباق الخيل”، الحد الفاصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. ترجل من السيارة، ولأول مرة شعر بهواء الحرية يلامس وجهه، بدأ يطمئن قلبه حين تقدم منه مندوب الطرف الآخر ومعه أحدهم. لا شك بأنه هو الشخص الذي تمت مبادلته به. سار كل منهما باتجاه الآخر. تقاربا. تواجها. وسريعاً افترقا شرقاً وغرباً.. كل منهما صوب حريته!
أُخذ بالأحضان.
– حمداً لله على سلامتك.. خروجك كان معجزة.
– شكراً لكم.
ركب سيارة “جماعته” التي تقدمت به باتجاه “منطقته”.
– سيكون لنا حديث مطول معك، ولكن بعد أن ترتاح.
– أنا بتصرفكم منذ اللحظة.
– كل الأمور الروتينية يمكن تأجيلها. المهم الآن أن تلتقي عائلتك، ويجب أن تعرض على طبيب لتقييم وضعك الصحي، وبعدها لكل حادث حديث.
إنه اليوم التاسع من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1985. يوم لن تنساه ذاكرته وذاكرة كل من افتقده ابناً وأخاً، قريباً وحبيباً. فتح شباك السيارة، كان الليل قد أرخي ذيوله على بيروت، تلك المدينة الغريبة بتناقضاتها. بجمالها وبشاعتها. بتمدنها وهمجيتها، بدأ نسيم تشرين البارد يداعب وجهاً شاحباً تعباً، وسرعان ما سرت البرودة في الجسد الناحل. لكن العينين بقيتا تحدقان في الأفق المترامي.. وتخططان للغد الآتي.
(الصورة أعلاه للمصور اللبناني جمال السعيدي)