العودة إلى صناديق الاقتراع لم تكن في حسبان أي من الأطراف السياسية؛ انتخابات فرضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد أن انبثقت فكرة حل البرلمان في رأسه نتيجة انهيار حزبه في الانتخابات الأوروبية والفوز الكبير لحزب اليمين المتطرف الذي حصد ضعف ما سجل حزب رئيس فرنسا، لكأن ماكرون يريد جعل الخوف من اليمين حافزاً لجعل المواطنين يُصوّتون لحزبه، في محاكاة واضحة لمبارزة رئاسية بينه وبين رئيسة حزب التجمع الوطني مارين لوبان، يكون الفائز فيها دائما فائزاً من يُقرّر مواجهة اليمين المتطرف. وهي ترنيمة قديمة تقول «ضع كرسياً لينافس مارين لوبان. فيربح الكرسي». ولكن الأمور تغيّرت كثيراً من دون أن يدري بها قاطن الاليزيه.
كذلك اعتقد ماكرون أن اليسار متشرذمٌ ولن يقوى على طي خلافاته سواء حيال قضايا داخلية (اقتصادية واجتماعية خصوصاً) أو خارجية (أوكرانيا وغزة نموذجاً)، وتبين أن اعتقاده ليس بمحله، إذ تمكن اليسار خلال أربعة أيام من تشكيل «الجبهة الشعبية الجديدة» (NFP) وأن يُبعد «فزاعة» ميلانشون عن واجهته ويُعيد العديد من الوجوه الاشتراكية إلى الساحة مثل الرئيس السابق فرانسوا هولاند.
بدروه، عزّز اليمين المتطرف جبهته بانضمام بعض مؤيدي المتطرف البارز إيريك زمور إليه في سياق عودة حفيدة جان ماري لوبان إلى عائلتها الأساسية.
هنا يتبين خطأ ماكرون، فالمعركة ستكون بين تحالف اليسار (فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي وعدد من الأحزاب الميكرو وفي مقدمتهم حزب غلوكسمان) من جهة وبين تحالف اليمين المتطرف من جهة مقابلة.
السؤال: كيف سيُصوّت لبنانيو فرنسا؟
للإجابة على هذا السؤال وجب النظر إلى تركيبة اللبنانيين السوسيولوجية على أرض بلاد شارل ديغول، مع الأخذ بالاعتبار تراتبية وصولهم، هجرة أم هروباً أم لجوءً، فضلاً عن رصد الانتماءات الطائفية والمذهبية، برغم عدم أهمية العامل الديني في فرنسا العلمانية، إلا أن الانحياز اليميني نحو الشوفينية الوطنية في الدول الأوروبية يُعيد رويداً رويداً أهمية البعد الديني لا سيما أن التشديد على مسألة المهاجرين ينعكس بقصد أو من دون قصد على الإسلام والمسلمين ويرتد ارتفاعاً في منسوب التدين في فرنسا وبالتالي تراجع العلمانية.
وكما هو حال اللبنانيين في بلدهم، فإنهم منقسمون في اغترابهم ولكن بـ«تهذيب وسكون». جاءت الحرب على غزة لتنقل الاعتراض على انغماس حزب الله فيها إلى صالونات اللبنانيين في فرنسا وأحاديثهم في المقاهي. وقد ساهم القمع المعلن لكافة مظاهر دعم فلسطين في الشوارع والجامعات في التخفيف من حدة هذه الجدالات العلنية التي لم تكتمها مواقع التواصل الإجتماعي، وراحت ترسم حدود نظرة هذا أو ذاك من لبنانيي أو لبنانيات فرنسا إزاء الأحداث الجارية في المنطقة.
الجديد أننا نسمع من بعض اللبنانيين تأييداً لطروحات اليمين المتطرف خصوصاً فيما يتعلق بالمهاجرين واللاجئين. وبحسب عدد من الدراسات حول الاندماج في المجتمع الفرنسي فإن هذا التعبير يعكس معادلة علمية تقول إن المهاجر بعد سنوات عمل واندماج في النسيج الوطني يتوجس من وطأة وصول مهاجرين جدد
واستناداً إلى نظرة عامة إلى هذه التعليقات والبوستات يمكن القول إن حرب غزة انتقلت إلى قلب الانتخابات الفرنسية بالنسبة للبنانيين كما هو الحال بالنسبة للقوى السياسية المتنافسة.
فقد ركزت «فرنسا الأبية» (LFI) في حملة الانتخابات الأوروبية على مسألة فلسطين وضرورة وقف الحرب في غزة، وذلك في مناورة مكشوفة لجذب أصوات الضواحي. ولما وصف أقطاب هذا الحزب هجوم «حماس» في ٧ أكتوبر/تشرين الأول بأنه «عمل إرهابي ولكن في سياق مقاومة محتل» انهالت اتهامات «اللاسامية» على هذا الحزب. وهذا يُفسّر تكالب كافة الأحزاب اليسارية واليمينية على «فرنسا الأبية». ولكن بعد حل الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة لإنتخابات جديدة تغيّرت الأمور وتحالفت القوى اليسارية، بعكس ما اعتقد ماكرون والمراقبون.
مؤيدو «فرنسا الأبية» من اللبنانيين هم من مؤيدي موقف حزب الله من قضية فلسطين بشكل عام من دون أن يكونوا بالضرورة من مؤيدي الحزب. حزب الجمهوريين (LR) كان على مر السنوات «الملجأ الانتخابي» للبنانيين بشكل عام خصوصاً للطبقة الثرية المقيمة في الضواحي الغربية. قد تكون هناك اعتبارات تاريخية لهذا التقارب بين الحزب الديغولي التاريخي واللبنانيين. وتجدر الإشارة إلى أن «مجموعة الصداقة اللبنانية الفرنسية» في البرلمان ليس فيها أي ممثل لحزب ميلانشون وتضم نواباً من أصول لبنانية هم ثلاثة ينتمون إلى أحزاب يمينية.
مارين لوبان زعيمة «الجبهة الوطنية» (FN) التقطت هجوم ٧ أكتوبر/تشرين الأول كفرصة للتخلص من اتهامات اللاسامية التي لطالما كانت ترافق كافة مراحل حزب والدها جان ماري لوبان. كبار من أقطاب محاربة اللاسامية أعطوا مارين لوبان شهادة حسن سلوك بسبب مواقفها. واللافت للإنتباه أن عمليات إرهابية متفرقة استهدفت فرنسيين من الديانة اليهودية دعمت تيار محاربة «فرنسا الأبية» وبالتالي قرّر اليمين المتشدد أن يركب هذه الموجة.
مسألة اللاسامية لا نجدها في أفواه اللبنانيين المعارضين لميلانشون، ومع ذلك نجد عدداً لا بأس به من مؤيدي الحزب الجمهوري الذين انتقلوا إلى تأييد مارين لوبان يستعملون بعض هذه التعابير، وفي هذا تأكيد على اندماج هؤلاء في صلب النسيج الانتخابي الفرنسي إذ أن الإحصائيات تعطي حزب اليمين المتطرف ٤٠٪ كمؤشر افتراضي للبرلمان المقبل.
الحزب الاشتراكي هو الخاسر الأكبر بالنسبة للجالية اللبنانية. في السابق، كان التقارب شبه العضوي بين الحزب الاشتراكي وإسرائيل من عوامل الفرقة مع اليساريين اللبنانيين. أما اليمينيون منهم فيتنقلون بين الحزب الديغولي وحزب ماكرون قبل أن تحتضنهم مؤخراً مارين لوبان.
الجديد أننا نسمع من بعض اللبنانيين تأييداً لطروحات اليمين المتطرف خصوصاً فيما يتعلق بالمهاجرين واللاجئين. وبحسب عدد من الدراسات حول الاندماج في المجتمع الفرنسي فإن هذا التعبير يعكس معادلة علمية تقول إن المهاجر بعد سنوات عمل واندماج في النسيج الوطني يتوجس من وطأة وصول مهاجرين جدد. حصل هذا الأمر على مر السنين مع الإيطاليين ثم البرتغاليين وبعد ذلك البولنديين.
بالنسبة للقادمين من إفريقيا الشمالية من المغرب والجزائر وتونس فإن عامل الدين خفّف كثيراً من هذا «التململ» بحكم عادات التعاضد في المجتمعات الشرقية. وهذا ما يغذي طروحات اليمين المتطرف والخوف من «غزو المجتمع الفرنسي» من قبل الإسلام . الغرابة أن أجوبة بعض اللبنانيين شبيهة جداً بطروحات مارين لوبان: يجب وقف تيارات الهجرة.
وفي الواقع فإن اللبنانيين الذين أجابوا على هذا النسق ليسوا «فقط» من قاطني المناطق الغنية أو من أصحاب المهن العالية، ولكن من سكان الضواحي حيث يحيط بهم فرنسيون مهاجرون سابقون مثلهم! يُفسّر هذا علماء الاجتماع بالخوف من المنافسة في بداية السلم الاجتماعي.
مسألة فلسطين تتفرع ليصبح نقاش اللبنانيين تحت قوس شعار «بدنا نعيش»، وهنا يمكن رصد خطاب نقدي يتجاوز أحياناً حدود الطوائف ويشمل الطبقات الاجتماعية كافة.
ولكن ميلانشون وحزبه لا يراهنون على هذه الأقلية المعترضة على كثرة المهاجرين بل يستهدف الأكثرية المهاجرة المجنسة التي تنزل إلى الشوارع تحت لافتة دعم غزة وفلسطين ووقف الحرب. وتدرك أحزاب اليسار أن هذا الرهان رابح في حال تحركت هذه الجموع نحو صناديق الاقتراع. ويُفسّر هذا قبول الأحزاب اليسارية بتشكيل «الجبهة الشعبية الجديدة» وإعطاء “فرنسا الأبية” حصة الأسد: فمن أصل ٥٧٧ دائرة خصّصت ٢٣٠ منها لحزب ميلانشون مقابل ٢٠٠ للحزب الاشتراكي و٩٠ للخضر و٥٠ للحزب الشيوعي.
السؤال الكبير الذي يمكن أن يؤثر على شكل البرلمان الجديد هو عدد المؤيدين لحزب “فرنسا الأبية” الذين يُمكن أن ينتقلوا إلى صناديق الاقتراع في ٣٠ حزيران/يونيو، علماً أن التجارب تُبت قلة مشاركة الضواحي في الانتخابات. بالنسبة للبنانيين الذي يدعمون أحزاب اليسار لا شك في أنهم سيكونون على موعد مع التصويت، ولكن أعدادهم بسيطة مقارنة بالفرنسيين من أصول مغربية؛ هؤلاء هم الذين بمقدورهم قلب الموازين خصوصاً وأنهم مستهدفون بطروحات اليمين المتطرف الذي لا يتردد بالإشارة إليهم بأنهم «فرنسيون بالأوراق فقط».
السؤال الأكبر هو موقف الأحزاب الوسطية (ماكرون والجمهوريون) في الدورة الثانية في حال كانت المنافسة بين مرشح يمين متطرف ومرشح جبهة اليسار؟
والسؤال الأهم أين ستذهب الأصوات في حال كان ممثل اليسار من حزب «فرنسا الأبية» هل يُغير اللبناني اتجاه صوته أم يضع ورقة بيضاء أم يسير في ركاب اليمين المتطرف؟
انتخابات البرلمان الأوروبي في لبنان
انتخابات البرلمان الأوروبي في لبنان: حلّ حزب “فرنسا الأبية” في الطليعة حاصداً ٨٥٠ صوتاً من أصل ٢٥٩١ توجهوا للتصويت بينما نال حزب الجمهوريين ٤٣٦ صوتا واليمين المتطرف (مارين لوبان) ٤١٩ صوتا.