أقدام الخنازير، الأذنان، الأمعاء، المعدة، وغيرها من قطع الخنازير التي يعتقد البعض أنّ مصيرها القمامة، تُشكّل قطاعاً حيوياً لدول الاتحاد الأوروبي. فالصين تستوردها بكميات كبيرة. سنة 2023، اشترت الدولة الآسيوية بما قيمته 6 مليارات دولار بين قطع ولحم خنازير، أكثر من نصفها مصدره الاتحاد الأوروبي. هذا القطاع المُهم جدّاً بالنسبة إلى أوروبا، فرضت عليه الصين رسوماً جمركية عالية مؤخراً ردّاً على فرض الاتحاد الأوروبي رسوماً جمركية تصل إلى 48% على السيارات الكهربائية المُصنّعة في الصين، مقارنةً بضريبة تبلغ بحدّها الأقصى 10% حالياً. الردّ الصيني تعاملت معه أوروبا كـ«ضربة» لسوق استراتيجية بالنسبة لها. أكثر المُتضررين ستكون إسبانيا، التي استوردت منها الصين العام الماضي بقيمة 1.1 مليار يورو، تليها هولندا والدانمارك وفرنسا.
التصعيد الأوروبي قابله ردّ صيني. الاثنان استخدما سلاح التجارة والحمائية كتكملة لحملة التهديدات والاتهامات بخرق قواعد منظمة التجارة العالمية. بين الفريقين، تخرج المنظمة لتُنادي بضرورة «عدم فرض قيود على التجارة الحرّة». فهل يجب اعتماد نظام الحمائية للصناعات المحلية أم تفضيل التجارة الحرّة؟
لبنان والاتحاد الأوروبي
«لا نُريد حماية تجارية»، يقول مستشار رئيس الحكومة اللبنانية للشؤون الاقتصادية، سمير ضاهر. مناسبة الحديث عن لبنان تتعلّق بمحاولة وزارة الاقتصاد والتجارة اللبنانية منذ حوالي الأربع سنوات وضع اتفاقيات ثنائية جديدة، وتعديل بنود في اتفاقيات قائمة، أهمّها الشراكة بين لبنان والاتحاد الأوروبي (وُقّعت عام 2006). توصّلت الوزارة اللبنانية بالفعل إلى عدد جديد من الاتفاقيات الثنائية التي يُتوقّع أن تدخل حيّز التنفيذ قريباً، كالشراكة مع كلّ من قطر والعراق. ويجري، باقتراح من السفير السعودي لدى لبنان، تجهيز نصّ اتفاقية مع السعودية لتوقيعه حين تُصبح الظروف السياسية مؤاتية له. أما مع الأوروبيين، فقد وضعت «الاقتصاد والتجارة» تعديلات على عددٍ من البنود، أهمّها زيادة رسم 10% على كلّ البضائع والسلع التي لها مثيل محلّي أو الفاخرة، وقد ورد هذا الشرط أساساً في إحدى بنود الموازنة العامة لعام 2023.
كان من المُفترض قبل حوالي السنة أن تُقدّم وزارات الصناعة، الزراعة، الإقتصاد والتجارة لوائحها بالمُنتجات التي توصي بحمايتها، وأن تُعطي وزارة المالية بصفتها الوصية على إدارة الجمارك رأيها في التعديلات. الأمران لم يتحقّقا حتى تاريخه. وبحسب المعلومات، فقد أوصت رئاسة الحكومة اللبنانية بـ«التريّث» في المضيّ قدماً بالمشروع بضغوط من الاتحاد الأوروبي.
تحدّث مستشار رئيس الحكومة سمير ضاهر عن وجود «استنسابية في فرض الرسوم الجمركية»، وعن حماية لا يستفيد منها الاقتصاد والمجتمع ككلّ، بل عددٍ محدود من القطاعات والأفراد تبعاً لنفوذهم السياسي. بالنسبة لصناعة النبيذ مثلاً، «تتراوح الإعفاءات والحمائية من 2% إلى 70%، هذه حماية للصناعيين والصناعة أم للسياسيين الذين يملكون شركات النبيذ الكبيرة»
ليست المرّة الأولى التي يطلب فيها الأوروبيون تجميد تعديلات على اتفاقية التجارة. سنة 2019، يوم أصدرت وزارة الاقتصاد قراراً بفرض رسوم نوعية على 18 مُنتجاً، وزيادة الرسم الجمركي على الواردات 3%، تواصلت سفيرة الاتحاد الأوروبي يومها، كريستينا لاسين، مع رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، لوقف القرارين. علماً أنّ المادة 34 من الاتفاقية الثنائية تنصّ على أنّه في حال مواجهة أيّ من طرفَي الاتفاقية «صعوبات جدّية تتعلّق بميزان المدفوعات (يتألف من أقسام عدّة ويُسجّل الفارق بين الأموال الواردة إلى البلد وتلك التي تخرج منه عبر القنوات الرسمية)، يجوز اتّخاذ إجراءات تقييدية في ما يتعلّق بالمدفوعات الجارية، إذا كانت تلك الإجراءات ضرورية للغاية».
لا تعتقد وزارة الاقتصاد والتجاريون والصناعيون في لبنان أن هناك ضرورة أشدّ من الانهيار على كلّ المستويات وتراكم العجوزات لاستيفاء الرسوم الإضافية وتعديل الاتفاقية الثنائية، بخاصة أنّ الاتفاقيات التجارية أدّت إلى زيادة العجز في الميزان التجاري اللبناني (الفارق بين الاستيراد والتصدير)، بالتالي المساهمة في استنزاف العملات الأجنبية وزيادة الضغط على العملة المحلية. وتربط لبنان ثلاث اتفاقيات تجارة حرّة، و13 اتفاقية ثنائية واتفاقيات إطار مع دول أوروبية، و14 اتفاقية مع دول عربية، و16 اتفاقية مع دول أخرى. جميع هذه الاتفاقيات لم تكن عادلة، وأتت لمصلحة الطرف الثاني على حساب لبنان.
الهدف العلني من التعديلات هو حماية الصناعات والمنتجات المحلية من المنافسة الأجنبية غير العادلة. الصناعيون في لبنان يتكبّدون أكلافاً إنتاجية أكبر بسبب فاتورة الكهرباء المرتفعة، والمياه، واستيراد معظم المواد الأولية للصناعة. إلا أنّه لرئاسة الحكومة رأياً آخر. يقول سمير ضاهر «الرسم الجمركي سيزيد الكلفة على المُستهلكين. وزارتا الاقتصاد والصناعة تُريدان فرض رسوم على حوالي 80% من السلع بنسبة 10% وضريبة بنسبة 3% لحماية الصناعة المحلية. السياسة العامة لا تكون هي نفسها في الوضع الطبيعي وفي الحالات القاهرة». يتحدّث مستشار رئيس الحكومة عن وجود «استنسابية في فرض الرسوم الجمركية»، وعن حماية لا يستفيد منها الاقتصاد والمجتمع ككلّ، بل عددٍ محدود من القطاعات والأفراد تبعاً لنفوذهم السياسي. بالنسبة لصناعة النبيذ مثلاً، «تتراوح الإعفاءات والحمائية من 2% إلى 70%، هذه حماية للصناعيين والصناعة أم للسياسيين الذين يملكون شركات النبيذ الكبيرة؟»، يسأل ضاهر. ليس النبيذ وحده القطاع المحمي لامتلاكه من قبل عدد من السياسيين، بل الاسمنت أيضاً مشمول بحماية مُطلقة، تتضمّن منع استيراده من دول أخرى، ما سمح لمُنتجيه المحليين التحكّم بالإنتاج، وزيادة الفاتورة البيئية والصحية، ورفع الأسعار بنسب خيالية مقارنة بالسعر الذي حدّدوه للتصدير.
حرية التجارة مدخل إلى تغيير النظام؟
النقاش حول اختيار الحمائية أم الانفتاح التجاري يعود إلى القرن الثامن عشر، على الأقلّ. في ظلّ الحمائية التجارية، تطوّرت الصناعة الحديثة في بريطانيا خلال الثلث الأخير من ذلك القرن. لسنوات طويلة، حَمت الإمبراطورية الانكليزية أسواقها الصناعية، في وقت كانت تفتح بالقوة أسواق الدول المُستَعمرة أمام السلع والتجارة الإنكليزية. مكّن ذلك بريطانيا من احتكار التجارة في العالم، وفي ظلّ هذا الواقع طوّر الفيلسوف الألماني كارل ماركس موقفه من الموضوع: «نظام الحماية وسيلة مُصطنعة لإفادة المُصنّعين، مُصادرة ملكية العمال المُستقلين، تحويل وسائل الإنتاج الوطنية إلى رأسمال، والانتقال بالقوة من نمط الإنتاج في العصور الوسطى إلى نمط الإنتاج الحديث». وهو حرص، مع رفيقه الألماني فريديريك إنجلز على تحديد الظروف التي تكون فيها الحمائية مقبولة، كأستراليا وإيرلندا في ستينيات القرن التاسع عشر، لدعم الصناعات الناشئة.
انتقاد ماركس للحمائية أتى برغم اعتباره أيضاً أنّ «التجارة الحرة التي تدور حول سيطرة البرجوازية البريطانية على السوق العالمية هي الحرية التي يتمتع بها رأس المال لسحق العامل». لماذا إذاً أيّد مؤسس الشيوعية التجارة الحرة؟ المعادلة بسيطة بالنسبة إليه: «عندما تُطيح بالحواجز القليلة التي لا تزال تُقيّد حركة رأس المال، فإنك بذلك تمنحه حرية العمل الكاملة. نظام الحماية في يومنا هذا مُحافظ، أما نظام التجارة الحرة فمُدمّر. يُحطّم القوميات ويدفع العداء بين البروليتاريا والبرجوازية إلى أعلى المستويات. باختصار، إنّ نظام التجارة الحرّة يُسرّع الثورة الاجتماعية، وبهذا المعنى الثوري وحده، أُصوّت لصالح التجارة الحرّة».
هدف ماركس إذاً كان استخدام قواعد اللعبة الرأسمالية لخلق الثورة الاجتماعية الحتمية والمُنتظرة. وقد شرح أنجلز عام 1847 وجهة نظره بقوله: «الحماية ستساعد الطبقة الرأسمالية الجديدة على إزالة بقايا الأرستقراطية الإقطاعية. في هذه الظروف، للطبقة العاملة مصلحة في ما يساعد البرجوازية على الحكم دون عوائق، لأنه فقط عندما يتم إزالة جميع الحواجز غير الضرورية من ميدان المعركة سوف تندلع معركة حاسمة (…) التجارة الحرة أو الحماية تتحرك بالكامل ضمن حدود النظام الحالي للإنتاج الرأسمالي، وبالتالي ليس لها مصلحة مباشرة بالنسبة لنا نحن الذين نريد التخلص من هذا النظام (…) سوى في أنّها ستُطور الظواهر الاقتصادية والتي يجب أن تُدمّر النظام بأكمله».
سيطرة فريق مُعيّن على قرار منظمة التجارة العالمية لا يُلغي أنّ مؤسسات «الدولة العميقة» العالمية تُصرّ على تحقيق أوسع تكامل تجاري دولي
التجارة الحرّة: تحقيق السلام أم الهيمنة؟
النظام الذي حذّر منه الشيوعيون، حدّد إطار عمل جديد غداة الحرب العالمية الثانية، حين وقّعت «قوى الحلفاء» (أو الدول المُنتصرة) اتفاقية «بريتون وودز» للحوكمة العالمية، فأصبح بموجبها الدولار الأمريكي عملة الاحتياطي الدولي، وأُنشئ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي و«الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (الجات) – GATT»، والتي قُدّمت على أنّها اتفاق أساسي لتحقيق النمو والازدهار والسلام. الـ«جات» استُبدلت عام 1995 بما بات يُعرف بـ«مُنظمة التجارة العالمية – WTO»، ويمتد نطاق عملها إلى الخدمات والملكية الفكرية والزراعة، وليس فقط الحشد لخفض التعرفات الجمركية على السلع. هناك انتقادات عديدة لأنّ ما صُمّم قبل ثلاثين عاماً كان هيكلاً يهتم فقط بتأمين مصالح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان على حساب تنمية بقية العالم. وشكّل ذلك امتداداً لعقود من الاستعمار والهيمنة المالية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والإنتاجية، التي أدّت إلى أن تكون المواد الأولية واليد العاملة في الدول المُستَعمرة أداة لتلبية حاجات الإمبراطوريات، ولاحقاً «الدول المُتقدمة».
هدف منظمة التجارة العالمية الأساسي هو التسويق لحرية التجارة ونزع القيود حتى يتم تحقيق التنمية ونموّ الاقتصادات وتطوّر المجتمعات. إلا أنّه لم يتمّ تطبيق نظرية «السوق الحرّة» إلا في الدول الفقيرة والمُستَعمرة، لتعزيز الهيمنة عليها.
منظمة التجارة العالمية التي تُعرّف عن عملها بأنّها «تهدف إلى ضمان تكافؤ الفرص للجميع، وتوفّر إطاراً قانونياً ومؤسسياً لتنفيذ ورصد الاتفاقيات، وتسوية النزاعات الناشئة عن تفسيرها وتطبيقها»، هي وفق تعبير الأستاذ الجامعي والمُتخصّص في قضايا التفاوض الاقتصادي، ياش تاندون في كتابه «التجارة هي الحرب”: «مدفوعة بتوازن مُعيّن للقوى الاقتصادية والإيديولوجية والسياسية في المجال العالمي (…) هي ليست حميدة وحيادية كما يُروّج، إذ إنّ قواعدها عرض للتغيير بناء على طلب الأقوياء. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قادران على التلاعب بقواعد التجارة والتحايل عليها لزيادة الدعم (الممنوح للصناعيين المحليين)، بدلاً من تقليله».
سيطرة فريق مُعيّن على قرار منظمة التجارة العالمية لا يُلغي أنّ مؤسسات «الدولة العميقة» العالمية تُصرّ على تحقيق أوسع تكامل تجاري دولي.
الرأسمالية ضدّ الرأسمالية!
«ما هي الإجراءات اللازمة لتنشيط التجارة الدولية؟»، مُدوّنة نشرها خبيرَا النمو والتجارة في البنك الدولي، بابلو سافيدرا ومنى حداد، يُظهران فيها أننا «نشهد حالياً أضعف توسّعٍ في تجارة السلع والخدمات مقارنة بأي انتعاش عالمي في العقود الخمسة الماضية. تجارة السلع العالمية عام 2023 انخفضت عند مقارنتها بعام 2022». وقد تضاعف عدد حالات «حظر التصدير وغيرها من التدابير المقيدة للتجارة أربع مرات منذ عام 2020». أما بالنسبة إلى الدعم، «فيغطي حالياً ما يقرب من نصف السلع القابلة للتداول بعد أن كان يغطي 20% منها فقط عام 2012». تؤدي هذه التدابير إلى «تشويه التجارة وتراجع مستوى كفاءة الاقتصاد العالمي». والجمع بين كلّ المخاطر التي تُسبّبها الحمائية المعاصرة على الاقتصاد العالمي، تُشير إلى أنّ «الخسائر طويلة الأجل قد تتراوح بين 1% و7% من إجمالي الناتج المحلي العالمي (الأداة الأكثر استخداماً لقياس حجم اقتصاد بلد ما)».
التحذيرات من تقييد التجارة تأتي من المؤسسات الغربية التي تظهر وكأنّها في مواجهة القوى الرأسمالية نفسها.
فقد نشر البنك الدولي ورقة بحثية عام 2023 يشرح فيها كيف أثّرت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على نحو 450 مليار دولار من التجارة السنوية، «كما كان مُتوقعاً، أدّت الحرب إلى خفض الصادرات الأميركية إلى الصين والصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، لكن أهمية الصين بالنسبة للتجارة العالمية ارتفعت». أما الأكثر إثارة للانتباه، فهو كيف أنّ الحرب التجارية، وبرغم التحذيرات الدولية منها، «خلقت فرصاً لبلدان أخرى لتوسيع صادراتها بما يتجاوز الفجوة التي خلّفها الصراع ونقص الواردات».
غالباً ما تتمّ المقارنة بين الإجراءات التي تتّبعها الولايات المتحدة وتلك المُطبقة في الصين، التي أدّت إلى الاعتراف بالصين كاقتصاد سوق كامل وتسهيل تنمية المنطقة الآسيوية. التحذير الأبرز هو أنّ الموقف الغربي من التجارة يُؤدي إلى خلق تكتلات تجارية بعيدة عن المصدر، أي الولايات المتحدة، وإحداث خلل في التركيبة العالمية.
«إن الخطر السلبي الأكثر إثارة للقلق المتمثّل في تجزئة التجارة العالمية هو زيادة تصعيد التوترات الحالية إلى الحد الذي يمكن أن تبدأ فيه البلدان في تشكيل كتل توقف التجارة مع البلدان الأخرى وتجبر الأطراف الثالثة على اختيار أحد الجانبين»، كما يوضح تقدير اقتصاديين في صندوق النقد الدولي.
مختلف أنواع الحمائية التي قدّمتها السلطات اللبنانية للتجار والصناعيين، أكان تثبيت سعر الصرف أو الدولار الجمركي أو الإعفاءات الضريبية، فلم يظهر أنّ لها فائدة على المجتمع. على العكس، ضررها كان أعلى بكثير من الفوائد التي سُوّق لها، فلا هي حمت الصناعة المحلية ولم تُخفّف الأعباء عن المجتمع اللبناني
ماذا عن المُجتمع؟
في دراسة بعنوان «الميزان التجاري وأسعار الصرف: النظرية والأدلة من السياحة» منشور عبر منصة «ساينس دايركت» العلمية، يتم التحذير من التعرفات الجمركية وتطبيق الحمائية التجارية لأنّها ستؤدي «إلى زيادات في أسعار السلع والخدمات في جميع أنحاء العالم، فينتج عنها تباطؤ النمو الاقتصادي، ارتفاع التضخم، ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع البطالة». لذلك، بدلاً من القيود الصارمة «يُمكن استخدام أسعار الصرف كأداة للسياسة الاقتصادية تصحيح العجز التجاري».
النقطة الثانية التي يجري التحذير منها هي استفادة «حفنة من الشركات من السياسة الحمائية، ولكن بقية الاقتصاد سيتضرر، والمستهلكون سيتضررون لأنّهم سيدفعون أسعاراً أعلى. الخاسرون هم كلّ من لا يُمكنه مواكبة السوق العالمية».
إذا ما أردنا الختام بالتركيز على وضع خاص كلبنان، نجد أنّه في الحالتين كان المُجتمع هو من يدفع الفاتورة الأكبر. اتفاقيات التجارة الحرّة الموقعة مع كلّ البلدان والتكتلات الدولية أرهقت الاقتصاد والمالية والصناعات المحلية، وتحوّلت إلى «اتفاقيات الموت التجاري»، كما يصفها وزير الاقتصاد السابق، منصور بطيش. لم تُستخدم بطريقة فعّالة لتسويق تصدير المنتجات اللبنانية، ولم يتم الاهتمام أصلاً بتحسين نوعية المُنتج اللبناني وإعطائه قيمة تفاضلية. أما مختلف أنواع الحمائية التي قدّمتها السلطات للتجار والصناعيين، أكان تثبيت سعر الصرف أو الدولار الجمركي أو الإعفاءات الضريبية، فلم يظهر أنّ لها فائدة على المجتمع. على العكس، ضررها كان أعلى بكثير من الفوائد التي سُوّق لها، فلا هي حمت الصناعة المحلية ولم تُخفّف الأعباء عن المجتمع. كلّ الإجراءات ساعدت عدداً محدوداً من التجار والصناعيين في تحقيق أرباح غير مشروعة، وتسعير المنتجات بأعلى من تلك المستوردة، والحصول على موقع تفاضلي مقارنة بالصناعيين والتجار والمزارعين غير المحميين. تميّز النظام اللبناني باستهتار سلطته في بناء اقتصاد متين ومُنتج ومُتنوّع. واللامبالاة في بناء علاقات تجارية حقيقية تؤمّن مصلحة سكّانه. وعدم اهتمامه بتنويع الأسواق التي يتعامل معها. واليوم يتجدّد النزاع بين الحمائية أو التجارة الحرّة بمعزل عن خطة ورؤية اقتصادية متكاملة، تبدأ من سؤال: أي اقتصاد لأي مُجتمع؟
(*) الرسوم للفنان البرازيلي سيلفانو ميللو