

ما كان افتراضاً نظرياً، انقلب الآن إلى حقيقة واقعة: إدارة دونالد ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو مارستا أعلى درجات "الخداع الاستراتيجي" مع إيران، بهدف إنجاح عامل المفاجأة التامة في الهجوم العسكري والأمني الإسرائيلي الكبير على الداخل الإيراني.. وجاءت النتائج ليس فقط ناجحة، بل مذهلة أيضاً. كيف؟
استشهد قادة القوات المسلحة الإيرانية وهم في أسرتّهم وغرف نومهم، ومعهم أبرز العلماء النوويين. ثمة استباحة تامة لسيادة إيران في الجو، رافقه اختراق أكثر خطورة على الأرض من جانب أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية (وحتماً أيضاً الـ”سي. أي. آي”).. والأخطر أن المواقع النووية والصاروخية الإيرانية بدت مكشوفة تماماً أمام المُسيرات والطائرات الإسرائيلية المتطورة، الأميركية الصنع.
فوق هذا وذلك، سقطت النظرية التي كانت تقول بأن إسرائيل غير قادرة على ضرب إيران بمفردها عسكرياً، ليس لأنها امتلكت التكنولوجيا التي تُخوّلها ذلك، بل حتماً لأن الولايات المتحدة كانت شريكة فيها.
هذا الخداع الاستراتيجي الكبير المستند إلى تواطؤ أميركي – إسرائيلي أكبر، سيدفع حتماً قادة إيران إلى الاستنتاج بأن ما يحدث ليس مجرد خطة محدودة هدفها تقليم أظافر إيران النووية، كما تدّعي الآن تل أبيب، بل هو مخطط متكامل لإسقاط النظام الإسلامي الإيراني نفسه.
في السابق، أي طيلة عهود الرؤساء الأميركيين الأربعة السابقين (جو بايدن، باراك أوباما، جورج دبليو بوش وبيل كلينتون)، كان الهدف الأميركي المعلن والثابت هو العمل على تغيير سلوك النظام الإيراني، وليس تغيير النظام نفسه. وهذا ما حدث بالفعل لأسباب تتعلّق بحاجة واشنطن إلى هذه القوة الإقليمية كنقطة توازن في آسيا الوسطى ومع روسيا، وكمبرر لمواصلة جعل منطقة الخليج المستورد الأول للأسلحة الأميركية في العالم، ناهيك (وهنا ربما الأهم) تعزيز الانشطار الكبير في العالم الإسلامي بين السنّة والشيعة.
إذا اختارت إيران الانسحاب من معاهدة حظر الأسلحة الذرية وإعلان نفسها دولة نووية (كما كوريا الشمالية)، فهذا سيدفع الولايات المتحدة إلى الانضمام إلى إسرائيل علناً في الحرب عليها. وهذا بالتحديد ما تتمناه إسرائيل الآن، بسبب الخلل الفادح المتضمن في موازين قوى مثل هذا السيناريو
الآن، يبدو إن إدارة ترامب بدأت تمحو الخط الفاصل السابق بين تغيير سلوك النظام وبين تغيير النظام، ربما لأنها تريد أن تنجز بناء النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط (الذي بدأت ملامحه مع مشروع الممر الاقتصادي من نيودلهي إلى حيفا وقناة بن غوريون، ثم مع اتفاقات أبراهام)، تمهيداً لنقل ثقلها الاستراتيجي إلى حوض الباسيفيك/ آسيا الذي بات الآن يسيطر على 60 في المئة من التجارة العالمية وعلى العديد من عناصر ومكونات الثورة التكنولوجية الرابعة.
***

الآن، إذا ما كانت هذه الفرضية صحيحة، فهذا يعني أن النظام الإيراني هو حالياً أمام خطر وجودي حقيقي قد يتقرر فيه مصيره برمته.
وهذا رأي يؤيده علي فائز، مدير مشروع إيران في “مجموعة الأزمات الدولية”. يقول فائز: “إذا ما وضعنا بالاعتبار حجم ومدى الهجوم الإسرائيلي، فمن المحتمل أن ترى إيران فيه محاولة لزعزعة النظام وليس فقط للحد من طموحاتها النووية. ولذا، فإن النظام قد يُفسّر ذلك على أنه خطر وجودي، ما قد يدفعه إلى رد عنيف للغاية”.
كذلك، يقول سنام وكيل، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة “تشاتهام هاوس”: “إيران تعتقد أن نتنياهو لا يريد ببساطة اضعافها عسكرياً ورمزياً فقط، بل أولاً وأساساً إثارة أزمة داخلية فيها”، أي عملياً تفجير الوضع الداخلي للدفع إلى تغيير النظام نفسه.
وتضيف إلى ذلك سوزان ميلوني، مديرة برنامج إيران في مؤسسة “بروكينغز” بقولها: “في ضوء الاختراقات الكبرى التي نفّذتها إسرائيل في الداخل الإيراني، سيكون على قادة طهران التساؤل عما تخبئه تل أبيب أيضاً في هذا الداخل”.
***
كل شيء الآن سيعتمد على ما تخطط له تل أبيب – واشنطن في الداخل الإيراني، وبخاصة احتمال تحريك الأقليات الكردية والعربية والأذرية، أو قوى المعارضة الإيرانية، أو حتى تشجيع انشقاقات ما داخل القوات المسلحة الإيرانية. أي تحويل الخطر الوجودي على النظام إلى حقيقة واقعة
الآن، إذا ما كان تغيير النظام هو الهدف الإسرائيلي، وإلى حد ما الأميركي (كما يبدو حتى الآن على الأقل)، فما هي الخيارات أمام قادة طهران؟
يجب الاعتراف بأن أي خيار تتخذه القيادة الإيرانية حالياً سيكون محفوفاً بمخاطر جمّة:
1- إذا اختارت الانسحاب من معاهدة حظر الأسلحة الذرية وإعلان نفسها دولة نووية (كما كوريا الشمالية)، فهذا سيدفع الولايات المتحدة إلى الانضمام إلى إسرائيل علناً في الحرب عليها. وهذا بالتحديد ما تتمناه إسرائيل الآن، بسبب الخلل الفادح المتضمن في موازين قوى مثل هذا السيناريو.
2- الحصيلة نفسها ستحدث إذا قرّرت طهران ضرب القواعد العسكرية أو المصالح النفطية والاقتصادية الأميركية في المنطقة.
3- الخيار الذي تنفذُه إيران الآن هو إلحاق أكبر قدر من الخسائر في الداخل الإسرائيلي كوسيلة للحد من استباحة تل أبيب للداخل الإيراني، بأمل الوصول إلى مرحلة يُمكن معها استئناف الحوار مع واشنطن (ربما عبر وساطة دول الخليج).
بيد أن كل شيء الآن سيعتمد على ما تخطط له تل أبيب – واشنطن في الداخل الإيراني، وبخاصة احتمال تحريك الأقليات الكردية والعربية والأذرية، أو قوى المعارضة الإيرانية، أو حتى تشجيع انشقاقات ما داخل القوات المسلحة الإيرانية.
أي عملياً؛ تحويل الخطر الوجودي على النظام إلى حقيقة واقعة.
وحينها قد يبرز خيار آخر أشار إليه والي نصر، بروفسور الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، وهو أن النظام الإيراني “قد يتغيّر بالفعل، ولكن بأي اتجاه؟ ماذا سيكون بديل الجمهورية الإسلامية؟ إنّه لن يكون نظاماً ديموقراطياً، بل قد يرتقي إلى السلطة قادة أكثر تصلباً”.