هادئٌ جداً وصاحب صوت خفيض. يتكلم بثقة استثنائية نابعة من قناعة راسخة لديه فيما يعتقد ويُردّد. يمكن تلخيص ما يجمعنا من قواسم مشتركة بأمرين: الأول؛ قناعة مشتركة بأن الكيان الصهيوني هو كيان غاصب. الثاني؛ لا بديل عن المقاومة بكل أشكالها وبخاصة المسلحة منها في مواجهة هذا الكيان. من خلال التوافق على هذين الأمرين، اكتشف كلٌ منا أن الأمور الأخرى في حياتنا اليومية، برغم أهميتها، هي أمور ثانوية، فالوطن الذي نحلم به يحتاج عيوناً ساهرة وعقولاً نيرة في مواجهة التحدي الحدودي وسواعد قوية تعرف كيف تستخدم ما يصل اليها من سلاح، فساحات الجنوب هي البداية في كل شيء. ولأنها كذلك اختلفنا في الشؤون الداخلية من انتخابات بلدية ونيابية وتحالفات سياسية، رأيتُ فيها ضرراً على المقاومة ورأى فيها ضرورات تبيحها المحظورات. اختلافنا في هذه المواضيع لم يُفسد في الود قضية.
هو من المسؤولين عن السهر على أمن المقاومة في منطقة الجنوب اللبناني، ولذلك فقد التقيت به مرات عدة في مكتبه الرسمي منذ بدء معركة “طوفان الأقصى” في السابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. أما المرة الأخيرة فقد كانت أكثر ما حرّك مشاعري، ليس نحوه فقط، بل نحو كل أولئك المقاومين المجهولين الذين نتعرف عليهم فقط عند استشهادهم (مع تمنياتي له بطول العمر طبعاً).
هذه المرة كان اللقاء مميزاً. لماذا؟ لأننا لم نلتق في مكتبه الحزبي الرسمي، بل في مكان اقامته الخاص، والفرق بين المكانين شاسع جداً. الأول؛ عبارة عن صالون أنيق يُزيّنه علم المقاومة والعلم اللبناني وصور قائد المقاومة السيد حسن نصرالله والمرشد الأعلى في إيران السيد علي الخامنئي. الثاني؛ عبارة عن غرفة متواضعة جداً، أشبه ما تكون بصومعة ناسك؛ فيها سرير وطاولة مكتب يحتل القرآن الكريم مركزاً بارزاً عليها إضافة إلى علم المقاومة، وطاولة عليها أجهزة اتصال مدنية وعسكرية لا تصمت أبداً، تُقدّم المعطيات عن وضع الجبهة على امتدادها البالغ 105 كيلومترات وبعمقها الذي يمتد على امتداد وجود المقاومة، وأيضاً ثمة طاولة صغيرة تُستخدم للطعام، وهناك سجادة متهالكة جداً تقيه برودة البلاط الأرضي.
“برغم تقديرنا العالي بعدم قدرة العدو على توسيع الحرب لتصبح شاملة على لبنان، فأننا على جهوزية تامة لمواجهة هكذا احتمال، وإن فعلها العدو فإنه يكون كمن ينفذ عملية انتحارية لأن لا أفق له في أي حرب شاملة”
قد يكون إدخالي إلى هذه الغرفة جرى لأسباب إدارية في المكتب أو لأسباب أخرى لا أعرفها ولم أسأله عنها، ولكن الهدف المعلن كان تناول الفطور الصباحي معه وهو عبارة عن مناقيش زعتر بعجين “جريش” المحبب جداً في جنوب لبنان، مع صحن بندورة مقطعة و”كاسة” شاي والقليل من حبات الزيتون. في حضرة هذا المكان وهذا الشخص يتولد عند المرء شعور بأنه في حضرة ناسك، وكي لا يطول الإفطار كثيراً تحولت الجلسة سريعاً إلى السياسة والميدان. سألته عن المقاومة في غزة وكان جوابه واثقاً وثابتاً بأن المقاومة هناك وضعها جيد ولا خوف عليها لا بل زاد على ذلك بالقول إن ما يصنعه المقاومون الفلسطينيون من كل الفصائل، وبالأخص حركة حماس، “اعجازٌ بكل معنى الكلمة، فما يفعلونه يتجاوز ما يمكن لأي انسان أن يصل إليه في أقصى تخيلاته”. وبطبيعة الحال سألته كيف ذلك، فأجاب “إنهم اليوم وبعد تسعة اشهر من حرب الإبادة والمواجهات الاسطورية ما زالوا يصنعون الأسلحة والذخائر وهم تحت الحصار الشديد”. وعند سؤاله عن مصدر المواد الأولية للتصنيع قال “المصدر الأول هو آليات العدو المدمرة والذخائر غير المنفجرة التي يقصف بها العدو كل انحاء قطاع غزة، وحديد الأبنية السكنية التي دمّرها العدو بغاراته..”، بالإضافة إلى ثلاثة مصادر أخرى لا أستطيع التطرق إليها علناً حرصاً على أمن المقاومة في قطاع غزة. ويختم الحديث عن المقاومة الفلسطينية بالقول “إننا على تواصل دائم معهم ونحن مطمئنون جداً جداً لأوضاعهم”.
من فلسطين إلى جبهة الإسناد في جنوب لبنان، وهنا لا تقل نبرة الثقة في كلام هذا المقاوم عن تلك التي تحدث بها عن أوضاع المقاومة في قطاع غزة. يقول: “تقديرنا بنسبة 90 في المئة أن العدو منهك وغير قادر ولن يشن حرباً شاملة على لبنان”، مفنداً الأسباب التي يمكن تلخيصها بالفارق في المساحة الجغرافية بين لبنان (مساحته 10452 كيلومتر مربع) وقطاع غزة (مساحته 364 كيلومتر مربع) وهذا ما يتيح للمقاومة اللبنانية مجالاً واسعاً للمناورة العسكرية أكبر بما لا يقاس مع المجال الذي تتمتع به المقاومة في غزة، والفارق التسليحي بين المقاومة في قطاع غزة والمقاومة في لبنان بالإضافة إلى أن المقاومة في لبنان لديها طريق امداد مفتوح بالرغم من مخاطر الملاحقة الصهيونية التي لم تتمكن من اقفال هذا الطريق على امتداد عمر الحرب على سوريا (المعركة ضمن الحروب) منذ العام 2011 فيما المقاومة في القطاع محاصرة من جميع الجهات. ومع ذلك، يضيف في شرحه للوضع على الجبهة الجنوبية قائلاً إن الخسائر المادية بالإمكان تعويضها أما الخسائر البشرية في صفوف المقاومة وعلى الرغم من أهميتها “لأن كل شهيد له قيمة عالية لدينا فإن تدابيرنا تحفظ عدم شغور أي موقع في أي لحظة وقد جاء رد المقاومة على كل اغتيال ليؤكد صحة هذا القول، وبالمحصلة نحن في حالة حرب على مساحة جغرافية واسعة ومن الطبيعي أن يكون لدينا خسائر بشرية، ولكنها في الحسابات العسكرية البحتة تعتبر خسائر مقبولة”. ويضيف “ومع ذلك وبرغم تقديرنا العالي بعدم قدرة العدو على توسيع الحرب لتصبح شاملة على لبنان فأننا على جهوزية تامة لمواجهة هكذا احتمال، وإن فعلها العدو فإنه يكون كمن ينفذ عملية انتحارية لأن لا أفق له في أي حرب شاملة”.
من لبنان الى جبهة اليمن، يتحدث بلغة اعجاب كبيرة جداً بأنصار الله قائلاً: “نحن لم نفاجأ بأداء إخوتنا في اليمن، وننظر بإعجاب وتقدير كبيرين لما يقومون به، فهذا الشعب الفقير الا من الكرامة والنخوة والذي بالكاد يستطيع أن يؤمن لقمة عيشه أذلّ القوة العالمية الأولى في العالم. إن مجرد أن يخوض الإخوة في اليمن حرباً ضد الولايات المتحدة هو إهانة لهذه الدولة والاهانة الأكبر أتت بعد أن انطلق انصار الله بشن هجماتهم على السفن الامريكية وحاملة طائراتهم ليزيدوا في اذلال هذه الدولة المستكبرة ومعها بريطانيا، والفارق العسكري بين انصار الله والتحالف الأمريكي البريطاني هو ان الأخير ليس لديه أي بنك للأهداف، أما انصار الله فان بنك أهدافهم واضح من السفن التي تتحرك باتجاه الموانئ التي يحتلها العدو في فلسطين إلى السفن الحربية الأمريكية والبريطانية. وليس هناك من أفق لدى هذا التحالف لإيقاف أنصار الله عن دعمهم واسنادهم للمقاومة في غزة”.
انتهت جلسة المناقيش بجريش وانتهت “كاسة” الشاي. وقف صديقي المقاوم ليُودّعني بعناق حار حمله كل مشاعر الود والمحبة إضافة الى زرعه غرس وفير من الطمأنينة بداخلي على وضع المقاومين في كل جبهات القتال.