الثوّرةُ المُتَعثِّرة (1)

لم تعرف مصر في تاريخها الحديث أية ثورة، وإنما موجات غضب بين حين وآخر تتخلص من رأس نظام، أو من النظام في أحسن الأحوال، وسرعان ما ترتد إلى نفس النظام الذي ثارت ضده. فهل يعني هذا أننا عاجزون عن الثورة؟ أم أن الثورة ليست بالضرورة أنجع الحلول، ولربما أدت إلى تعميق المشاكل أكثر منها إلى حلها!

لو تدبرنا الثورة بمعناها الحقيقي كتغيير جذري للمجتمع بكل روافده، بانتقاله من طور إلى آخر، وتطوير لعقوده الإجتماعية لأدركنا أننا بالفعل نحياها منذ قرنين على الأقل. بهذا المعنى لا تكون الثورة قد نضجت بعد، وما يحدث هو هبّات ثورية بشكل متقطع تحرز بعض المكاسب وتنتهي برِدّةٍ إلى ما كان سائداً قبل تلك الهبّة الثورية.

يُمكننا هنا التمييز بين الثورة والإثارة، فالثورة هي الحالة التي تؤدي إلى تحرير المجتمع وكسر كامل قيوده، بينما الإثارة هي حالة هياج مؤقت قد تنجح في إحراز بعض المكاسب ولكنها تفشل في تحرير المجتمع. مثالنا في ذلك ما درسناه في فيزياء الذرة من أن الإلكترون قد يثار بفعل طاقة خارجية تدفعه إلى الانتقال إلى مدار أعلى ولكن سرعان ما يفقد تلك الطاقة ويعود إلى نفس مداره. أما تحرره من كل المدارات فيتوقف على أن تكون الطاقة التي امتصها أكبر من كل القيود التي تربطه بالنواة.

فشل الإثارة إذاً حتمي ما دامت توقفت عند التغيير السياسي ولم تتسرب إلى الفرد والمجتمع. لأن النظام الإجتماعي هو ما يفرز قياداته السياسية، وما دام ذلك النظام الاجتماعي جامداً لا يتغير سوف يجد النظام القديم طريقه إلى قمة السلطة من جديد. في هذا المقال سوف أتناول الإثارات التي مرّت بها مصر على امتداد القرون الثلاثة الماضية كمراحل متدرجة لثورة واحدة نحياها إلى الآن. وما ينطبق على مصر ينطبق على باقي الوطن العربي بطبيعة الحال.

الأمن وإجهاض الإثارات

 شهدت نهاية القرن الثامن عشر بدايات مقاومة المصريين للمماليك. سوف أشير إلى تلك المقاومات بلفظ “الثورة” تماشياً مع المألوف في تاريخنا منعاً للبس، على أن أعود إلى المعنى الدقيق للثورة بنهاية ذلك الجزء. فقد شهدت مصر في تلك الفترة ثورة الصعيد ضد المماليك بقيادة شيخ العرب همام وانتهت بموته عام 1769م. ثم جاءت ثورة يوليو 1795م التي يحكي لنا الجبرتي أن فلاحي قرى بلبيس أشعلوها رداً على الظلم الواقع عليهم من أتباع محمد بك الألفي. وسرعان ما انتقلت إلى القاهرة وتزعمها كبار شيوخ الأزهر أمثال الشيخ الشرقاوي والشيخ السادات والشيخ البكري والسيد عمر مكرم. ويمكننا القول إنها ظلّت نشطة إلى أن تقلّد محمد علي باشا السلطة عام 1805م. ثم توالت الثورات التي تحفظها الذاكرة الحديثة بداية من الثورة العرابية في أيلول/سبتمبر1881م بزعامة أحمد عرابي، ثم ثورة آذار/مارس 1919م بزعامة سعد زغلول، فثورة يوليو 1952م بزعامة جمال عبدالناصر وانتهاءً بثورة يناير اليتيمة عام 2011م. تلك التواريخ ذات دلالة وتكشف نمطاً مهماً قد يساعدنا في فهم ديناميكية الثورة.

والملاحظ أنه ثمة ثورة لكل جيل مصري، إذا أخذنا عمر الجيل بين 25 إلى 40 عاماً. وتزيد تلك المدة لتصل إلى جيلين في حالة إنشاء نظامٍ جديد. هذه الفجوة ذات الجيل أو الجيلين حتمية لأنه عندما تجهض الحالة الثورية تسود الجيل الذي فجرها حالة من اليأس تحول بينه وبين محاولة تصحيحها. لذا تتأخر الثورة جيلاً حتي ينشط جيلٌ شابٌ، وهو إن كان قد ورث إخفاقات سابقة فإنه لن يرث يأسه بفعل التنافس الطبيعي بين الجيلين. يساعده في ذلك عدم إلمامه بكافة التفاصيل، فأحياناً قدر من الجهل والتهور قد يدفعان إلى العمل بينما تُعيق الحركةَ دقةُ المعرفة. وبتفحص النماذج الثورية السابقة يتضح لنا نمطٌ آخر قد يساعدنا في تحديد ما إذا كانت الفجوة الثورية ستكون جيلاً أو جيلين. إذ يكشف لنا “الإنقطاع الثوري” الذي دام ستة وسبعين عاماً بين محمد علي والثورة العرابية، وتسعة وخمسين عاماً بين ثورة جمال عبدالناصر وثورة يناير 2011 عن وجود معيارين وراء طول الفجوة الثورية، هما مقدار النجاح الذي أحرزته والقلق الذي خلّفته. النجاح يتمثل في القضاء التام على النظام القديم وإحياءِ نظامٍ جديد قادر على بعث بعض عوامل النهضة التي تمس شريحة كبيرة من الجماهير. والقلق يتمثل في الفُرقة والفوضي التي تعقب الحالة الثورية والتي قد تستمر شهوراً وربما سنين.

لكل حزب جناحه العسكري!

في أعقاب ثورة 1795، اجتاح الفرنسيون مصر وأذاقوا شعبها مرّ العذاب والإهانة، وعندما رحلوا عنها عام 1801 تركوها تعج بالفوضي والقتل والنهب. فكان من الطبيعي أن يقايض الناس بعض حريتهم مقابل الأمن والنظام اللذين لا يستطيع فرضهما إلا رجلٌ قويٌ. غالباً ما يقوم ذلك الرجل القوي بإحياء نفس الممارسات التي ثار الناس ضدها، ولكنهم يقبلوها منه كما لم يقبلوها من غيره هرباً من أعراض الثورة التي عانوا منها حديثاً، ولأنه كرجل قوي قادر على تأسيس نظام به الحد الأدني للحياة. يصف الإمام محمد عبده لنا ما فعله محمد علي عقب استتباب الأمر له فيقول :”لم يبق في البلاد رأساً يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. وأخذ يرفع الأسافل ويُعلّيهم في البلاد والقرى، كأنه كان يَحِنُ لشبهٍ فيه ورثه عن أصله الكريم، حتي انحطّ الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه.. فمحق بذلك جميع عناصر الحياةِ الطيبةِ من رأيٍ وعزيمةٍ واستقلالٍ نفسي ليصير جميعها إقطاعاً واحداً له ولأولاده”.

برغم كل ذلك، إذا كان عهد ذلك الرجل القوي مصحوباً ببعض مظاهر النهضة التي تُفيد حياة الناس فإن أسباب الثورة عندهم تتراجع إلى أن ينشأ جيل لم يعش الفوضى ولم يبق له من آثار النهضة شيء فيعاود الثورة. مثل ذلك حدث مع جمال عبدالناصر، مع الفارق الكبير بينه وبين محمد علي. فقد كان الشارع المصري يَعّجُ بالإغتيالات والفوضى السياسية التي بلغت أوجها في حريق القاهرة عام 1952. فلم تكن البلاد واحة للحرية والديموقراطية كما يُدّعى باطلاً. فقد كان لكل حزب جناحه العسكري الذي يُرهب به خصومه. كان للإخوان المسلمين جناحهم العسكري الذي اغتالوا من خلاله عدداً من الشخصيات السياسية والقضائية. وكان لحزب الوفد جناح شبه عسكري هو “أصحاب القمصان الزرق” الذي تمادى عناصره لدرجة اقتحام فيلا رئيس وزراء مصر محمد محمود باشا والتعدي عليه شخصياً. كذلك كان لحزب مصر الفتاة جناحها شبه العسكري المسمى بــ”أصحاب القمصان الخضر”، الذين اشتبكوا مع “أصحاب القمصان الزرق” وانتهى الأمر بمقتل شخصين. وأنشأ الملك قوة عسكرية خاصة به هي “الحرس الحديدي” التي أصبحت عينه على خصومه السياسين وأداته لإغتيال من يشاء منهم.

إقرأ على موقع 180  عرض قوة للأتراك في المتوسط.. وخلاصات إسرائيلية

لجوء الأحزاب السياسية المصرية إلى خلق قوى عسكرية تابعة لها يؤكد على جمود الحياة السياسية لا الحريات والليبرالية كما يهوى كثيرون أن يُصوّروا. لاحقاً جُرّمت كل تلك التشكيلات العسكرية ولكن لم تُحل أسبابها، إذ اتصلت الإغتيالات. فكان من الطبيعي أن يرحب الشعب بالجيش لتولي مقاليد الأمور بعد أن فسدت الحياة السياسية على أيدي الأحزاب والملك وأصبحت البلاد قاب قوسين أو أدنى من الحرب الأهلية.

الخروج من السلطة للعودة إليها!

وبعد نجاح ثورة 1952 كان يُمكن أن تسلك مساراً أكثر مدنية لولا تعجل الإخوان المسلمين صدامهم مع الجيش من خلال تأجيج الشارع المصري واقتحام الجامعة وضرب طلابها ومحاولة تفجير بعض المراكز الحيوية للبلاد ومحاولة إغتيال جمال عبدالناصر، ما جعل الثورة حكراً على الجيش ورجاله. مثل ذلك حدث عام 1981 بعد مقتل أنور السادات. إذ كانت في عهد السادات ثورةٌ آخذةٌ في التشكل بانت بعض ملامحها في أحداث يناير 1977 ولكنها أُجهضت بعد تفشي التنظيمات الدينية المتشددة والتي انتهى بها الأمر إلى اغتيال رأس الدولة، فآثر الشعب الأمن على الحرية، وقايض الإستقرار بالنهضة. وكان يمكن لتلك الثورة أن تتجدد مرة أخرى في تسعينيات القرن الماضي، خصوصا مع تأزم اقتصاد البلاد، ولكن عنف الجماعات الدينية أجهضها للمرة الثالثة. وأخيراً الصراعات الحزبية والإنفلات الأمني والصدامات التي أشعلتها جماعة الأخوان المسلمين مع غالبية التيارات، بل الشعب نفسه، دفعت الشعب مرة أخرى لمقايضة ثورته مع الجيش، راضياً، تخليصه من حكم الإخوان المسلمين. من ذلك يتضح لنا أن العامل الأساسي وراء إجهاض ثورة 1977 هو غياب الأمن: مرتان بفعل الإحتلال (1795 و1881) والمرات الباقية بفعل الصراعات الحزبية وخصوصاً الجماعات الدينية.

ومع إجهاض أي ثورة تطفو إلى السطح كل الأمراض الإجتماعية التي خلّفتها النظم الفاسدة، فتَعُم الفوضى والإستغلال ويكثر الفقر والقتل، ما يدفع الناس إلى الحنين للنظام الذي ثاروا ضده بالأمس ويتغير موقفهم من الثورة تدريجياً إلى أن ينتهي بإتهامهم لها وإحتقارهم إياها. ومع سيادة هذا الشعور يسهل على النظام القديم أن يُمهّد لنفسه الطريق إلى السلطة من جديد.

الثورة المقبلة.. شاملة

في الخلاصة، يُمكننا القول إنه إذا نجحت الحالة الثورية في تغيير النظام كله مع إحداث قدر من النهضة يستشعره جموع الناس، فإن الثورة التالية سوف تتأخر نحو جيلين. أما إذا لم تستطع سوى تغيير رأس النظام فثَمّة ثورة لاحقة في غضون جيل واحد مهما حاولت النظم تشويه الثورة وتجريمها. هناك إذاً حالةٌ ثوريةٌ دائمة على إمتداد القرون الثلاثة الأخيرة من تاريخ مصر، وإذا صح ذلك الرصد فهناك حالة ثورية مرتقبة خلال العقد المقبل.. وربما أقرب من ذلك.

ولنعد الآن إلى المعنى الدقيق للثورة. فما سبق وصفه ليس إلا هبّاتٍ ثورية مرحلية داخل الثورة الكبرى التي تتشكل منذ نحو ثلاثة قرون. تماماً كالضوء الذي يضم في جنباته ألوان الطيف المختلفة. على الرغم من تلك الرِدّات الإجتماعية لما قبل الإثارة أو الهبّة الثورية، فإن تلك الإثارات نجحت في ترسيخ بعض المفاهيم الضرورية لإكتمال الثورة بمعناها الشامل. فالإثارة العرابية أحيت روح المشاركة الإجتماعية التي كان محمد علي قد وأدها، وأدرك الشعب أنه ليس تراثاً ولا عقاراً بل مالكاً للبلاد له حق السيادة فيها. طُمِست تلك الإثارة بفعل الإحتلال الإنجليزي ولكن لم يغب ذلك المعنى. ثم حاول الإحتلال تمزيق وحدة الصف المصري بزرع الفرقة بين عنصري الأمة: المسلمون والمسيحيون، فجاءت إثارة 1919 لتؤكد على وحدتهم. وجاءت إثارة 1952 لترسخ أهم عنصرين من عناصر الثورة: هوية مصر وتعزيز الطبقة الوسطى الحامية للثورة والدافعة للنهضة. ثم جاءت الإثارة الأخيرة في 2011 لتؤكد أن كل إثارة في المنطقة العربية مُهددةً بالفشل ما لم تكن الثورةُ شاملةً المنطقة بأسرها، فالثورة العربية لن تكتمل إلا إذا صارت عامة من المحيط إلى الخليج. ولكن تلك المبادئ تكاد تكون منفصلة عن بعضها لتتطور في فُقاعاتها المستقلة، ولن يحدث الإنتقال من الإثارة إلى الثورة إلا بتصادم تلك الفقاعات حتى تتحد كل مبادئها، تماماً كما حدث في الكون الأول الذي لم يستقر تحوله إلا بتصادم فقاعاته وإندماجها. داخل تلك الفقاعات ازدهرت مشاريع فكرية وفلسفية بعضها يُحلّل الثورة وأسباب تعثرها وآخر يصلنا بحضارة العصر ويُحدّد موقفنا منها، وآخر يُجدّد التراث ويحاول بعث روحه القوية. فقام عباس العقاد وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وزكي نجيب محمود ببعث التراث وتجديده واعادة الثقة بالشخصية العربية. وقام الشيخ مصطفى عبدالرازق وطه حسين وعبدالرحمن بدوي وفؤاد زكريا ولطفي السيد بمد جذور الصلة مع الغرب وثقافته. تطور ذلك لاحقاً بمشاريع شبه مكتملة هضمت المحاولات السابقة واستطاعت بناء رؤية كاملة عما يجب أن يكون وبالأخص أعمال جمال حمدان وعبد الوهاب المسيري وحسن حنفي. هذه الأعمال لم يهضمها العقل العربي بعد، فهي ما زالت في طور الإمتصاص. وبذلك يكون قد اكتمل بفعل تلك الإثارات للثورة مبادئها وأفكارها ومشاريعها، وإن كان ينقصها علمها الذي يستطيع أن يظفر بمواردها ويحمي إستقلالها. والأمل أن تكون أحداث 2011 قد عزّزت العنصر الأخير أيضاً. وثمة رهان على أن تقوم غزة بهدم أركان النظام العربي المتهاوي وفضح كل الأيديولوجيات الدينية والسياسية. وذلك ما يُبشّر بأن تكون الثورة المقبلة شاملة إذا تحصّنت من مُثَبِطّاتها التي سنتناولها في المقال القادم إن شاء الله.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  عن يوم المرأة.. سياسةً وكتابةً