بعد وصول هؤلاء الفنانين إلى المكان المحدد، دخل عليهم الرئيس حافظ الأسد وعقد لقاء اتخذ طابعاً ودياً معهم لما يقارب الساعة، تنفيذاً لما يعتقد أنها أفضل وسيلة لاستقطاب الفنانين السوريين ومثلهم باقي “القوى الناعمة” في المجتمع السوري، وقد حرص الأسد الأب على اجراء هذا اللقاء بالفنانين قُبيل اجتماعه بالقادة الأمنيين وقادة الفرق العسكرية في الجيش السوري.
وبالفعل، تكرّست سردية ثقافية وفنية مطلقة في البلاد، واستطاع النظام الصاعد استخدام الفنانين والمثقفين في دعايته السياسية، لتنبثق مع الوقت ظاهرة “فناني السلطة”، لتضم شريحة من الرواد الذين واكبوا نهضة الدراما التلفزيونية والإنتاج السينمائي السوري وكذلك الحركة المسرحية السورية، ومن أبرز هؤلاء الفنان دريد لحّام وفرقته الفنية.
وقد تلقت تلك الشريحة دعماً غير محدود من القيادة السياسية، وتمتعت بنفوذ واسع في مؤسسات الدولة كما في المجتمع، كما شكّلت واجهة تجميلية لسياسات وممارسات الدولة ولا سيما في أكثر المراحل التاريخية قسوة إبّان حقبة الأسد الأب. وما كان يسري على سوريا انسحب على لبنان ودول أخرى حيث أعطت الدولة امتيازات لفنانين لبنانيين مثل الرحابنة وكذلك لفنانين وشعراء عراقيين قرّروا أن يلجأوا إلى دمشق هرباً من بطش صدام حسين، مثل الشاعر محمد مهدي الجواهري والشاعر مظفر النواب وغيرهم..
وإذا كان البعض من الفنانيين السوريين اعتقد أنه وفّر مظلة حماية وشبكة أمان شخصية، إلا أن الحقيقة هي أن الفنانين السوريين تراجع دورهم التاريخي الحيوي في الاشتباك وممارسة مهامهم بالتعبير عن مخاوف الناس وآلامهم وصاروا مع الوقت عاجزين عن تجاوز قيود السياسة التي ارتضوا أن تتحكم بهم. وزاد الطين بلة العنف الشديد للسلطة من جهة والافتقاد لأي حالة تنظيمية أو منصة أو رافعة سياسية ثقافية داعمة لأي بديل سياسي ـ ثقافي من جهة أخرى، وفي النهاية أصبحوا ضحايا الضغط الأخلاقي والمعيشي والمهني وباتت مهمتهم محصورة بالترفيه والنقد الناعم في المواسم الرمضانية والترويج لأجندة السلطة، وبالتالي ساهموا في تكريس مفهوم “فصل الفن عن السياسة” الخاطىء؛ تلك الخرافة التي ترسخت في أذهان معظم السوريين حتى يومنا هذا.
***
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، برزت أسماء شكّلت برغم ندرتها علامة فارقة في المشهد الفني والثقافي السوري مثل محمد الماغوط وسعدالله ونوس وممدوح عدوان بالإضافة إلى تلك المحسوبة على اليسار السوري في ذلك الوقت مثل فواز الساجر ونائلة الأطرش؛ تلك الأسماء التي طالما استمر النظام السوري بمغازلتها ومحاولة استقطابها لغاية هذا التاريخ طبعاً لمن بقي منها على قيد الحياة.
وفي حالات قليلة ومضبوطة كانت الدولة السورية تتغاضى عن بعض المواضيع والطروحات “الجريئة” وتسمح بدرجة معقولة من الحرية في الإنتاج الفني، وذلك ضمن استراتيجية مرسومة تصوّر نفسها من خلالها بأنها على قدر كبير من الانفتاح والتسامح، ساعيةً إلى تحسين صورتها السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي وتفريغ وتنفيس التوترات الاجتماعية والسياسية الداخلية وبالتالي قياس نبض الشارع وفهم ذهنية التفاعل وذلك من دون أن تفقد أجهزة الدولة الأمنية ورقابتها المتمرسة زمام ما يسمى “الخط الأحمر”.
وأهم تلك الإنتاجات العالية الجودة التي سمحت المخابرات السورية بتمريرها ضمن إطار “الدراما التنفيسية”، كانت سلسلة “مرايا” للفنان ياسر العظمة (برغم أنها لم تتجه للنقد السياسي بشكل واضح) و”لوحات بقعة الضوء” وسبقها “مسرح الشوك”، تلك الأعمال التي أثارت الكثير من التساؤلات والدهشة حيث تميزت حقاً بمستوى فني عالٍ وبسقف إنتقادي مقبول وبتناولها الجريء للكثير من الموضوعات الحسّاسة في تلك المرحلة.
***
لم تعرف الدراما السورية في مراحل مبكرة من تاريخها سوى إنتاج الدولة والقطاع العام والذي تميز فعلياً بالجودة والعمق والغنى وسلامة المنهج العلمي، وتمكنت الدولة بفعل هيمنتها على تلك الساحة من الاستمرار بالتعبئة الايديولوجية وتكريس الخطاب القومي للحزب الواحد، كما تخللت تلك المرحلة ذروة الاشتباك العسكري السوري الإسرائيلي حيث تم زج الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني في المعركة الإعلامية لأجل التعبئة ضد العدو وتقديم صورة إيجابية للموقف “التاريخي” للقيادة السياسية، ولا يمكن إنكار التأثير الإيجابي لذلك على الساحة الداخلية، ويبقى الفنان صلاح قصّاص خالداً في ذاكرة السوريين في عملية “العريس” و”عواء الذئاب”.
***
دخلت شركات الإنتاج الخاصة على خط الدراما في مطلع التسعينيات الماضية وكانت بمثابة المنتج المنفذ للقنوات الخليجية والفضائيات التي انتشرت حينها كالنار في الهشيم في معرض بحثها عن محتوى درامي ذي جودة عالية وبتكلفة إنتاجية منخفضة وكان الإنتاج الدرامي السوري يلبي هذه الاحتياجات، وببراعتها المعهودة تمكنت الدولة السورية من توظيف رأس المال الخليجي لأجل تمويل انتاج اتسم أيضاً بتعبئة سياسية وشعبية من نوع آخر.
كانت دمشق آنذاك، تتعرض لضغوط من نوع مختلف، أولها التوتر السوري التركي في حقبة التسعينيات مروراً بالتحالف مع إيران، فكان إنتاج مسلسلات مثل “أخوة التراب” و”صلاح الدين الأيوبي” و”التغريبة الفلسطينية” بمثابة جبهة إعلامية وفنية رديفة، وأهم تلك الشركات الخاصة كانت “الشام الدولية” و”سوريا الدولية”.
وبالطبع، ظهرت شركات ورؤوس أموال لمنتجين مهنيين حقيقيين تركوا بصمتهم في عالم الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والمشهد السوري الثقافي عموماً إلا أنهم مرّوا مرور الكرام ضمن زخم الإنتاج السوري والسياسة، مثل هيثم حقي وتحسين قوادري وصبحي فرحات ونادر الأتاسي.
***
مع وصول الرئيس بشار الأسد إلى سدة السلطة في العام 2000، انتهجت السلطة السورية نهجاً إنفتاحياً غير مسبوق وضمن تكتيك مغازلة الغرب الأميركي والأوروبي، وسرعان ما بدأت الورش والمحترفات الفنية بالتوالد بموافقات حكومية ودعم مباشر من القصر الجمهوري والفعاليات المحسوبة على الرئاسة، وكان أبرزها محترف مي سكاف الفني والمسرحي بالشراكة مع رحاب نصر في حي القنوات بدمشق.
استثمر بشار الأسد ما يسمى “مناخ التغيير” في القطاع الفني، وأعاد للواجهة سلاحه الناعم، من خلال استخدام الإنتاج الفني كأداة للحرب وتطوير الصراع بدلاً من توظيف الفن والفنانين ضمن سياسة جديّة تهدف إلى علاج وتعافي المجتمع والبلاد، وكان مطلوباً من الفنانين والفنانات في سوريا تبني سردية الدولة السياسية والثقافية في مواجهة الخصوم، بالإضافة إلى تكثيف الإنتاجات التلفزيونية والسينمائية التي تهدف إلى خلق سرديات تخلط بين الضحية والجلاد وتلوي عنق الحقيقة وتكتب السلطة من خلالها ما تعتقد أنه يُناسب النمطية التي تشتهيها ولو كانت مزيفة حيناً، وفي هذا السياق، جاءت أفلام المخرج عبد اللطيف عبد الحميد نموذجاً للسينما السورية في بداية عهد الأسد الإبن.
***
منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة السورية في آذار/مارس 2011، سرعان ما تواجد الفنانون السوريون على طرفي نقيض الانقسام الوطني، وذلك انطلاقاً من تفاوت وعيهم السياسي ووجود قراءات مختلفة للمشهد وموازين القوى، وكانوا حالة نموذجية تعكس المآلات الكارثية العميقة التي أصابت المجتمع والبلاد.
وقبل تفجر تلك الأحداث، لم تعرف سوريا وسطاً فنياً مناهضاً للنظام السياسي، وإنما كانت هناك اعتراضات خجولة لم تبلغ حد صياغة تجربة تاريخية راسخة عند الفنانين، ولا ينفي ذلك وجود حالات حاول أصحابها من فنانين ومثقفين تسليط الضوء على المشكلة السياسية في البلاد من خلال أساليب واشتغالات عديدة لعل أبرزها التوقيع على بيان الـ 99 وتلاه بيان الـ 1000 في مطلع حكم الأسد الإبن، ومن أبرز المبادرين فارس الحلو وعمر أميرالاي وحيدر حيدر وممدوح عدوان وغيرهم، وسوى ذلك رصدت محاولات فنية وكتابية سعت إلى تسليط الضوء على المشكلات الاجتماعية والسياسية من خلال استخدام العمل الفني كوسيلة تعبير وانتقاد وكانت تواجه بالقيود الصارمة للرقابة.
***
بالمقابل، عملت الأجندات المتصارعة مع النظام السوري على محاولة استقطاب أكبر قدر من الفنانين السوريين ولا سيما نجوم الصف الأول، إلا أن ذلك لم يحقق نتائج مهمة، إذ لم ينخرط في مواجهة النظام السوري سوى قلة من الممثلين والممثلات من أصل كل جيش الفنانين السوريين.
ولم تفلح المعارضة السورية وأجنداتها الخارجية في خلق حركة فنية ثقافية مستقلة ولم يسجل في رصيدها الإنتاجي حتى يومنا هذا أي عمل يرقى إلى حجم المشروع “الثوري” وسرعان ما تم تهميش هؤلاء حين بدأت تظهر ملامح العسكرة والتدويل ومشاريع التقسيم باستثناء بضعة أسماء ظلت متواجدة ضمن الأجندة القطرية لمصلحة المشروع الإخواني المستتر ومآلات الحل العسكري الطائفي.
***
علينا الاعتراف هنا، أن مظاهرة المثقفين السوريين الشهيرة بدمشق في بداية الحراك قبل 13 عاماً، لا دور لها ولا تأثير بتحريك الشارع التظاهري في سوريا. من حرّك الجماهير وخلق فضاء تجمعهم الأول هي المساجد والرموز الدينية والوجاهات العشائرية والمناطقية وبعض الشخصيات المحسوبة على الحراك المدني. وفي المقابل، لم يكن لمسيرات نجوم الموالاة وتصريحاتهم أي دور في تمكين السلطة ولا بالحسم العسكري على الأرض وإنما من قام بالحسم هي آلة النظام العسكرية بمواكبة حثيثة من حليفين إقليمي (إيران) ودولي (روسيا).
إن الأسباب الجذرية للمأساة السورية تتجاوز بكثير النخب السياسية والثقافية، وتحديد المسؤولية يجب أن يأخذ في الاعتبار كافة اللاعبين والعوامل بما في ذلك السياسات الدولية والإقليمية والجماعات المسلحة والقوى الخارجية على أرض الصراع وطبعاً السلطة الحاكمة في البلاد، بالإضافة إلى الديناميات الداخلية من مجتمعات دينية وإثنية وعشائرية إلخ..
إن الوصول إلى تفاهم شامل بين السوريين يتطلب نظرة موضوعية وتحليلية تتناول بشكل شجاع ونزيه كل تعقيدات الوضع السوري دون تهرب أو تبسيط أو البحث عن كبش فداء.
وسوف نصل بذلك إلى نتيجة تلقائية مفادها أن دور الفنان السوري في أزمة بلاده لا يتعدى اللاعب الثانوي ولم يرتق حتى إلى توصيف “القوة الناعمة” قياساً بحجم المصالح وعنف المتصارعين وفداحة النتائج، ولطالما غابت عن الفنانين السوريين الثقافة السياسية الموضوعية فحرمهم ذلك من إمكانية القراءة الصحيحة وفهم طبيعة الأزمة والقدرة على امتلاك آليات الاشتباك والتأثير والتغيير، فتحولوا منذ اللحظة الأولى إلى أدوات مجانية ضمن أجندات أطراف الصراع وضحايا علاقات مع الدجّالين السياسيين ومصادر تمويل الأزمات وأوكار المخابرات المحلية والعالمية.
ومن نافل القول أن الفنان السوري غير معفى من سلطة القانون أو النقد الفني والأخلاقي، لما صدر عنه خلال أزمة بلاده من ممارسات ومواقف وارتهان، ذلك أن اللعب على حبائل السياسة والصراع، وخصوصاً بين “الكبار” ليس كالوقوف على خشبة المسرح!