دولة قادرة وقوية ومتعافية أولاً.. لامركزية ثانياً

يكثر الحديث في العديد من الدول العربية اليوم عن اللامركزية، وخصوصاً في الدول التي تعاني من صراعات أو تشهد تقهقراً في مؤسساتها. كما يتعمق النقاش في متاهات اللامركزية المنشودة، أهي لا مركزية إدارية أم لا مركزية سياسية؟

إن اللامركزية ليست شيئاً جديداً في المنطقة العربية، حيث هناك تجارب تاريخية خلال عهد الدولة العثمانية وعلاقاتها مع الولايات والمتصرّفيات وغيرها، التي كانت تنطلِق أصلاً من الخصوصيات المحلية وما يدل عليه امتلاكها مجالس محلية، ذات صفة استشارية على الأقل. وبالتأكيد قامت تلك التجارب على إرث المناطق المعنية، انطلاقاً من المركزية التاريخية الشديدة لمصر برغم تنوع السكان وحتى المدن ــ الدول في بلاد الشام ومناطق نفوذ القبائل والعشائر في الجزيرة العربية. هكذا يمكن فهم تطور البلدان العربية في العصور الحديثة وانقسامها إلى دول مختلفة وتوحد مناطق أخرى فى دول نشأت تقسيماتها الإدارية نتيجة لتفاعل الحاجة إلى دولة مركزية قوية مع خلفيات اللامركزية التاريخية.

وحدها دولة قادرة وقوية تستطيع أن تُنجز التحولات نحو لا مركزية ضرورية وناجعة، كما أن مثل هذه الدولة هي الشرط الأساس كي يتم ترسيخ وحماية الحريات العامة والديموقراطية والخصوصيات الاجتماعية

وأيضاً يتعمق ويعلو النقاش حول اللامركزية في الدول العربية القائمة اليوم نتيجة تنامي مشاعر الهويات الإثنية والطائفية والمناطقية ولتداعيات إخفاقات الدولة في إقرار تنمية متوازنة بين المناطق وفئات المواطنين والتعامل مع التطورات الاجتماعية ــ الاقتصادية مثل تعاظم تسارع هجرة الريف إلى المدينة. كما تزداد حدة التطلّعات نحو اللامركزية في الدول التى انشطرت أراضيها نتيجة حروبها الأهلية والتدخلات الخارجية، إلى مناطق تُديرها جهات مختلفة، مثل ليبيا وسوريا ولبنان والسودان وغيرها. وتنشط على هذا الصعيد «منظمات غير حكومية» و«مؤسسات مجتمع مدني» خارجية لإثارة نقاشات محلية لا نهاية لها حول اللامركزية على أنها أساس لحل مختلف الصراعات وإرساء.. «الديموقراطية».

***

لكن بمعزل عن مناكفات الزعامات والهويات المحلية وعن مساعى التقسيم وفرض القوة «الناعمة» الخارجية، أو ربما بسببها، لا بد من وضع التنظيمات الإدارية القائمة في الدول العربية على طاولة البحث والتمحيص لتبين مدى نجاعتها في مواجهة التحديات ووضع رؤية ترمي إلى إصلاحها.

إن الوحدات الإدارية المحلية تُشكّل مؤسّسات دولة كما المؤسسات المركزية. ولتلك الوحدات التزامات تجاه المواطنين كما للمواطنين واجبات تجاهها. وبالتأكيد هذه الإدارات المحلية هي الأقرب للمجتمعات وتبيُّن احتياجاتها. وبالتأكيد أيضاً تحتاج هذه الإدارات إلى فصل سلطات بين ما هو تمثيلي للمواطنين وما هو تنفيذي، وكذلك بالنسبة للمستويات القضائية والرقابية. وأغلب التجارب العربية تُعطي السلطة المحلية الحقيقية لمحافظ أو والٍ يُعيّنه المركز، في حين لا يعتبر هذا الأخير المجالس المنتخبة محلياً سوى مجالس استشارية، كما خلال الحكم العثماني. هذا فضلاً عن أن الكوادر التنفيذية المحلية تفتقد في كثيرٍ من الأحيان إلى التأهيل المؤسساتي لأن تعيينها يقوم على أسس «تنفيعات» و«رشاوى» لفعاليات محلية. هذا الواقع وحده يستحقّ مراجعة حقيقية لخلق الثقة على الأمد البعيد بين المحلي والمركزي.

وتفتقر أدبيات اللامركزية أيضاً لتحليلٍ واقع الإدارة المالية للوحدات المحلية. هذا برغم أن بعض التشريعات ترصُد حصصاً للمحليات في إيرادات الضرائب والرسوم، بخاصّة تلك المتعلّقة بالخدمات المحلية أو بمؤسّسات المنطقة أو بالموارد الطبيعية. إن الإدارات المحلية شخصيات اعتبارية، ومن المفترض أن تكون لها موازنات وإيرادات ونفقات تُعتَمَد من قبل الهيئات المنتخبة وميزانيات يتم إغلاق حساباتها سنوياً حسب أنظمة الرقابة المالية. إلّا أنّه في أكثر الأحيان تتداخل الصلاحيات والميزانيات بين الإدارات المحلية ومؤسّسات المركز بحيث لا يُمكِن رصد جوهر صلاحيات المستوى المحلي. وليس هناك وضوح حول كيفية تغطية الإيرادات المكرّسة للإنفاق الجاري، وما يتاح للاستثمار. ولا معنى لأن تكون توزيعات المركز على المحليات تتم فقط حسب قاعدة النسبة من السكان. إذ أن هذا يُلغي دور الدولة المركزي في إعادة التوزيع الاقتصادي والإنمائي، ليس فقط بين الفئات الاجتماعية، بل أيضاً بين المناطق الثرية والأخرى الفقيرة. كما لا معنى أن تحتفظ منطقة معينة بريوع الثروات الطبيعية أو الموانئ والمعابر الحدودية دون القبول بإعادة التوزيع، كما حدث في تجارب بعض دول أمريكا اللاتينية.

واللافت للانتباه في بعض تجارب الدول العربية اعتماد الأجهزة المالية المحلية على تنظيم وبيع العقارات لتغطية نفقاتها، ما لا يمكن ضمان استدامته. واللافت للنظر أيضاً في بعض الحالات هو الفصل الكامل بين الإدارات المحلية وموارد الريع التي تُقام فى مناطق اقتصادية خاصة يتم عزلها عن الاقتصاد المحلي.

هذا الجانب المالي في عمل الإدارات المحلية وترابطه مع الميزانية العامة لمالية الدولة يحتاج إلى مراجعة حقيقية، كي تتم مناقشة دور هذه الإدارات ليس فقط في تأمين الخدمات محلياً بل أيضاً في تنشيط الواقع الاقتصادي والاستثمار المحليين. وربما الحاجة إلى مراجعة أكبر في البلدان التي تعرّضت لآثار صراعات أهلية وأزمات اقتصادية كبيرة، وجرى تقسيمها بين مناطق نفوذ واقعياً لها تجاربها المالية الخاصّة. هذا لا سيما أن إعادة إنعاش اقتصاداتها يرتبط أولاً بإعادة التواصل وحرية حركة المواطنين والسلع والأموال بين مختلف مناطقها. ومن الهام معرفة أن تمويلات وإعانات دولية باتت تتوجّه للمستوى المحلي دون المركزي.

يبقى أن هناك وهماً قائماً بأن انتخابات على الصعيد المحلي يُمكِن أن تُغني عن طرح الإشكاليات الاجتماعية والسياسية على الصعيد الوطني، أو أن تتجنبها. وهمٌ لأننا أصلاً نعيش اليوم في عالم معولم شديد التواصل، بحيث لا يُمكِن لأي مجتمع محلي أن يعزل نفسه فيه

***

إقرأ على موقع 180  التفكير في الهوية الوطنية السورية.. ما أصعب المهمة؟

في جميع الأحوال، يبقى إنجاز تخطيط إقليمي ووضع تصور للمسار الجغرافي للتطور الاقتصادي في كل بلد ومناقشته مع المجتمعات المحلية ضرورة أساسية. ذلك بفعل تداعيات الفترات السابقة من تغييرات على الصعيدين الديموغرافي والاجتماعي.

يبقى أن هناك وهماً قائماً، اجتماعياً وسياسياً، بأن انتخابات على الصعيد المحلي يُمكِن أن تُغني عن طرح الإشكاليات الاجتماعية والسياسية على الصعيد الوطني، أو أن تتجنبها. وهمٌ لأننا أصلاً نعيش اليوم في عالم معولم شديد التواصل، بحيث لا يُمكِن لأي مجتمع محلي أن يعزل نفسه فيه. إن أي انتخابات محلية تُقلِّص مجال التنافس الاجتماعي على الإدارة بين فعاليات محصورة، تغيب عنها غالباً السياسة بمعنى برامج العمل المتنافسة على مشاريع لبناء أوطان بمعزل عن الهويات الإثنية والطائفية والمناطقية. والذهاب إلى اللامركزية على خلفية هذا الوهم هو مجرد محاولة للخروج من الصراع الأهلي أو الأزمات الكبرى وبالتالي يُشكّل هروباً من الاستحقاق الرئيسي وهو إصلاح الدولة المركزية وتركيبة السلطة فيها، نحو دولة قادرة وقوية ومتعافية. هروبٌ من استحقاق من الصعب الوصول إليه ولكن لا مفرّ منه.

***

كلُّ بناءٍ لما بعد الصراعات والأزمات يقوم دون النهوض بالمركز، لا يُمكِن أن يجري الاستقواء بالخارج على أبناء الوطن الآخرين، ولا يشكل سوى محاولة انعزال لا يُمكن أن تفيد، في منطقة عربية شديدة التنوع السكاني والهوياتي، سوى المشروع الصهيوني القائم. وأنجع مصالحة اجتماعية تُنجز محليا هي تلك التي يتم العمل على إنجاحها على أساس المواطنة المتساوية وتحديداً في المناطق التى تتعدّد فيها الهويات.

وحدها دولة قادرة وقوية تستطيع أن تُنجز التحولات نحو لا مركزية ضرورية وناجعة، كما أن مثل هذه الدولة هي الشرط الأساس كي يتم ترسيخ وحماية الحريات العامة والديموقراطية والخصوصيات الاجتماعية.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أن يجتمع الراعي ونصرالله.. بالحياد الناشط والدولة القوية