استقلالية القضاء في لبنان.. ضرورات وتحديات (1)

يتكثف طرح استقلالية القضاء في لبنان منذ حراك 17 تشرين/أكتوبر 2019 في ظل متغيرين أساسيين: داخلي، يتمثل بحرب بدأت منذ نصف قرن خلخلت الانتظام العام في البلد، ومن ضمنه القضاء؛ وخارجي، يتمثل بسلسلة تحولات أصابت النظام العالمي، اقتصاداً وسياسةً واجتماعاً، منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، لتتعاظم مع الألفية الثالثة فتصيب شظاياها القضاء.

تفرض العدالة نفسها مفتاح استعادة التوازن في مواجهة الأزمات المحلية والدولية. إذ ليس صدفةً أن تتزامن الأزمات المحلية في لبنان مع أزمات عالمية على المستوى القانوني. فقد أثبتت الحرب الاسرائيلية الأخيرة على غزة ولبنان، وما سبقها من أزمات على المستوى اللبناني الداخلي، غياب القيمة الردعية للنصوص القانونية. فإذا كانت القوانين هي القواعد التي قَبِلَ الأطراف الخضوع لها بموجب نظرية العقد الاجتماعي، إلا أنّ تغير موازين القوى انعكس تفلتاً من القانون وضعف قدرة على تفعيله.

الواقع اللبناني

وعلى وقع هذه التحولات التي نُعاصرها عالمياً وإقليمياً ومحلياً، يعيش لبنان مرحلةً انتقاليةً تتقاطع مع تحولات في مفاهيم مثل معنى الديموقراطية وأنظمة التمثيل وأشكالها؛ تحولات في الاقتصاد السياسي ودوره في التأثير على مصادر القاعدة القانونية وتطبيقها وتفعيلها؛ تحولاتٍ في الأبعاد الاجتماعية وأنماط التفاعل في مجتمع يختلط فيه المعاصر بالتقليدي بالديني بالتكنولوجي؛ تحولات في الثقافة، رقمنةً وذكاءً اصطناعياً وتعدد لغات وهويات ومنصات إعلامية واجتماعية؛ تحولات تشمل أيضاً كل تفاصيل حياتنا اليومية لبنانياً وبينها مؤسسات القطاع العام التي فقدت بريقها، لا سيما غداة الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، برغم جهود العديد من الأفراد الفاعلين بجد وإيمان في داخلها.

فقد تراكمت الأزمات بين الحرب الأهلية وما تلاها من قانون عفو عام والأزمات الناتجة عن التحولات العالمية. فالعلاقة بين المجتمع والسلطة في لبنان لم تتأسس على أساس القانون، برغم استقرار هذا النسق عالمياً طوال حقبة الدولة الليبرالية الديموقراطية. وبقيت الدوافع لإصدار القوانين في لبنان، خلال كل تلك الحقبات، تتمثل برغبة السلطات السياسية والتشريعية والتنفيذية باحترام المعايير الدولية، تحت لواء الشرعية الدولية. ولم تواكب التوجهات التشريعية المواكبة للمطالب الدولية برامج اجتماعية عادلة ومتناغمة ومتوازنة. فازدادت حدة الانفصال بين القانون من جهة والمجتمع من جهة ثانية. ولعب القضاء دوراً محدوداً في المحافظة على الثقة مع المجتمع، برغم العديد من الجهود الفردية، إذ برز بشكل واضح التدخل السياسي بالتشكيلات والتعيينات القضائية، وأحياناً بمسار بعض الملفات أمام القضاة أو المحاكم. فعند الخلل في متابعة بعض الملفات، كان التدخل السياسي هو ضمانة الاستقرار عوضاً عن أداءٍ قضائيٍّ فاعلٍ وفق مبادئ المحاكمات العادلة، والتقاضي على درجتين وعلنية المحاكمات، والرقابة الداخلية في تحسين أداء مرفق العدالة. فلا القضاء فرض أداءً استعاد بموجبه بساط الثقة من أيدي السياسيين، ولا الأطراف السياسية، ولا سيما الممسكين بالسلطة التنفيذية، أعطوا ثقتهم لقضاء يستطيع أن يُقدم نموذجاً فاعلاً، ولا المجتمع أمنَ لمسار المحاكمات وحكم القانون.

عكست الأزمات المتتالية خللاً ليس سياسياً فحسب، وإنما اجتماعياً ومؤسساتياً وقانونياً يتمثل بغياب ثقافة القانون وضعف قدرة القضاء على فرض نفسه كسلطة ضامنة مستقلة عن لعبة السياسة بكل مندرجاتها. كما انعكس هذا الخلل في قضايا ذات أبعاد سياسية، فكان إيقاع المحاكمات يعكس محطات سياسية لم تعد خافية على المجتمع، هذا من ناحية. أما من ناحية ثانية، فقد دفع ضعف العمل المؤسساتي المترافق مع شح في مالية الدولة إلى اللجوء إلى منح من المنظمات الدولية غير الحكومية أو ربما الحكومية لتحسين أداء هذا المرفق. وزادت الأزمة المالية والاقتصادية والمصرفية من الاختلال بين القانون والمجتمع والقضاء، وشكّلت المرجعية المصرفية ملاذاً لتيسير الحياة اليومية اللائقة للقضاة وأسرهم.

تحت وطأة هذا الواقع الصعب من الإشكاليات المركبة، عُلِّقَت التحقيقات والملاحقات والمحاكمات الفعلية برغم تقديم دعاوى من العديد من الجهات. وتعطل العمل القضائي إلا عند بروز ضغط دولي في ملف معين غالباً ما تكون له أبعاد غير محلية.

ولعل المطلب الأساس الجامع الذي نادى به المواطنون والمواطنات في شوارع المدن اللبنانية في 17 تشرين/أكتوبر 2019 يتمثل باستقلالية القضاء، ما عكس وعياً لأهمية هذه السلطة كملاذٍ نهائي للمحافظة على المجتمع والدولة.

دور القضاء

والقضاء، كتعبير عن نزوع بشري للعيش بسلام على أساس حد من العدالة، يتيح للمجتمع الاستقرار والسلم ويتيح للأفراد الطمأنينة، وقد وُجِدَ منذ بناء الاجتماع السياسي، وارتبط بوجود سلطة تحميه، وتطور بتطور أطر الاجتماع السياسي منذ القبيلة إلى مشروع الدولة العالمية الراهنة.

أنيط بالقضاء فرض المعايير الضامنة للتوازن بين مختلف القوى وأصحاب المصالح المتصارعة/المتنازعة، ولمواكبة التحولات المختلفة بأبعادها المجتمعية والاقتصادية والسياسية والمؤسساتية والتقنية.

وكان قد ثبّت الحق بالتقاضي والمحاكمات العادلة حقين أساسيين من حقوق الإنسان، والقضاء المستقل ضمانة لتفعيلهما. وهنا بيت القصيد. فوجود القضاء كسلطة فاعلة هو الركن الأساس لتفعيل القانون على أساس العدالة والمساواة، ولانتظام المحاكم وفق أسس النزاهة والاستقلالية، وبذلك فإن هذا الوجود هو الحق وهو ضمانة الحق في آنٍ. وقد ارتكزت هذه الحقوق على مبادئ الشرعية ضمن الدولة ومؤسساتها.

مع تداخل الاقتصادي بالسياسي، وتضارب الاقتصادي والاجتماعي، وضعف الهوامش الفاصلة بين المصالح الخاصة والعامة، وتقاطع الدولي بالعالمي بالمحلي، يصبح التحدي الأبرز أمام القضاء هو المحافظة على استقلاليته التي تتجسد في تفعيل دوره في حكم القانون وفرض موقعه من التحولات العاصفة وضبط التوازن بين كل المصالح الباحثة عن حقوقها، وتبقى هذه الاستقلالية هي مفتاح الحل برغم كل تلك التحديات

القضاء ومتغيرات العناصر المؤثرة

وكانت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان قد وضعت مبادئ أساسية لضمان الشرعية على أساس دولة القانون والمؤسسات وسمو الدساتير ومعايير القضاء الفاعل. وشكلت السلطة القضائية التي تحترم هذه المعايير ضمانة جوهرية لحقوق الإنسان في الدول الديموقراطية، ضمن مرحلة سادت فيها أسس الدولة الليبرالية والقوانين الوضعية. إلا أن مرحلة العولمة وما رافقها من نموذج نيوليبرالي أنتجت أنماطاً جديدة من العلاقات والممارسات، وفرضت قوىً اقتصادية مؤثرة على الدولة ومكوناتها، وأخذت الجرائم الاقتصادية أبعاداً جديدة عابرة للحدود. وتبلورت بعامل الضرورة قوانين حديثة تمثلت بقواعد المنافسة وأنظمة الاستثمار وحماية المستهلك وقوانين البيئة ناهيك عن عنصر التكنولوجيا، ما عكس توجهاً عالمياً مبنياً على الانفتاح الاقتصادي ودور العالم الرقمي الذي ما زال يتسع ويفرض نفسه إلى حد منافسة الوجود الإنساني مع الذكاء الاصطناعي.

تزامنت هذه التحولات مع مفاهيم قانونية جديدة مرتبطة بنظرية حقوق الإنسان الذي دخل جيلاً ثالثاً مع أبعاد البيئة والتنمية المستدامة ثم جيلاً رابعاً مع ولوجنا العالم الرقمي. وعلى أثر كل ذلك، سار العالم نحو مزيد من الحريات والحقوق الفردية، وأخذت مبادئ حقوق الإنسان بعداً فردياً أكثر منه جماعياً، وضَعُف دور الدولة الرعائي، وضَمُرت قدرة الدولة على التدخل وعلى فرض قوانينها على المصالح الخاصة، تاركة بذلك المدى لمصلحة التوافقات والمساومات. ثم أعيد طرح النقاش بين ضوابط هذه الحريات ضمن مجتمع معولم مع ضعف هامش النظام العام، واستعادت المصالح الأقوى قدرتها على التدخل على حساب ما كان يعرف بالنظام العام الاجتماعي.

إقرأ على موقع 180  لو يدري الكاظمي بما بين بلاد الرافدين.. ولبنان

كما ترافقت تلك التحولات مع تحولات عالمية ودولية على مستوى إدارة المجتمعات وتنميتها، وعلى مستوى أدوات الحكم. وأصبحت الحوكمة هي نموذج الحكم الذي يعكس انتظام الديموقراطية بمفهومها المعاصر، لأنها تكرّس في طيّاتها مبادئ أساسيّة تعتبر ضامنة لتحقيق التوازن المرتجى. هذه المبادئ تتلخّص بالأركان التالية: المشاركة في تحديد السياسات ومتابعة تنفيذها، التوافق والوسطية في إدارة المصالح المختلفة، حكم القانون، فعالية المحاسبة والمساءلة، تعزيز الشفافيّة ومكافحة الفساد واحترام حقوق الإنسان، ضمن جوٍّ من الكفاءة والفعالية، وتطبيق مبادئ المسؤولية الاجتماعية بغية تحقيق التنمية المستدامة.

هذا الواقع يعكس التحول في الأدوار السياسية التي كانت تصب تقليدياً في السلطات المعنية بوضع القوانين. فأصبحت “الأطراف المعنية” بطبيعتها المختلفة، المتمثلة بالمجتمع المدني، هي المحرك والفاعل بدلاً من حصر الأدوار بالأحزاب السياسية والنقابات. وهكذا تقدم المجتمع المدني كفاعل سياسي بعد أن كانت النقابات وجمعيات المجتمع الأهلي ركيزة التفاعل الاقتصادي الاجتماعي ضمن أطر دولة الرعاية. تشابكت إذاً العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المحلي والدولي، وفق سياق جديد مبني على الشراكة والتشابك، على أساس منطق توازن المصالح أكثر منه تعاضد وتضامن ضمن مفهوم العقد الاجتماعي التقليدي.

وفي ظل مجتمع يتجه نحو المزيد من الفردية، ظهرت على السطح من جديد المصالح الفردية أكثر منها مصالح اجتماعية، والمصالح المشتركة أكثر منها مصالح جماعية بما تكتنفه من مبادئ للنظام العام على مستوى الجماعة. وأدت الحوكمة بمعاييرها وعناصرها إلى بزوغ مفاهيم كانت العلوم والقانون قد تجاوزتها، ولعل أهمها آلية البحث عن المصالح المشتركة التي ضيّقت هامش تدخل النظام العام. واستعيد البحث حول قدرة المصالح وعلاقتها بالحقوق والحريات على منافسة القواعد القانونية، التي تشكل عنصر الربط بين السياسي والقضائي والاجتماعي.

تغير أبعاد الاستقلالية القضائية

عكست الأزمات المتراكمة في العالم، ولبنان ضمناً، عدم قدرة السلطات السياسية على فرض القواعد الضامنة لحقوق المواطنين، اقتصادياً واجتماعياً، وفق المنطق الذي كان سائداً، الأمر الذي يفرض دوراً جديداً أمام القضاء للمحافظة على التوازن بين مختلف هذه القوى وهذه الحقوق. فأخذت العدالة في تطبيق القوانين أبعاداً جديدة وأصبحت استقلالية القضاء منوطة بمعايير مستجدة.

واستقلالية القضاء هي بالأساس ومنذ البداية استقلالية عن السلطة الحاكمة، لكنها استقلالية بحدود يفرضها توازن القوى المتصارعة على الأمر/السلطة في المجتمع. وقد أتاحت الثورة الصناعية وقيام الأنظمة الراسمألية عبر الصراع الذي أنتجها بين قوى الإقطاع الآفل وقوى الرأسمال الصاعد، ثم الصراع بين الرأسماليين والعمال وبين الرأسماليين أنفسهم، أتاحت تأسيس الدول واعتمادها على نص مكتوب (الدستور) يُنظم العلاقات كافة في المجتمع. وكانت استقلالية القضاء منه كسلطة تحكم الصراعات في المجتمع ويحتكم إليها المتصارعون، ضمن مبادئ دولة القانون والمؤسسات.

استُبدل مفهوم “دولة القانون والمؤسسات” بمفهوم “حكم القانون”، كنموذج معلن مع بداية الألفية الثالثة، إلا أن معنى القانون أخذ أوجهاً متعددة لناحية طبيعة ومصادر القواعد الفاعلة في المجتمع والأطراف الفاعلين ضمنه، إضافة إلى قيمة القوانين الوضعية التي كانت معيار حكم الدولة وسيادتها. تراجعت إذاً الدولة عن الحكم لصالح القانون، وارتبطت السيادة بالدولة شكلياً، علماً أن عناصر التدخل في السيادة المحلية أصبحت متشعبة بتشعب القوى الفاعلة، منها الاقتصادية ومنها التقنية ومنها الأمنية والعسكرية ومنها الاجتماعية.

فإذا كانت القواعد الثابتة تعتبر أن القضاء هو سلطة تفعيل القانون ورقابة حسن تطبيقه ضمن دولة القانون والمؤسسات، إلا أن الدور الحالي يفترض، إضافة إلى النمط التقليدي، حماية أكبر للحقوق والحريات غير المشمولة بالقانون الوضعي المحلي، وحماية الانتظام والتوازن بين مختلف الأطراف المعنية في المجتمع، غير المحصورة بالمكونات التقليدية للدولة. وهذا ما ذهب إليه المجلس الدستوري اللبناني باعتبار القضاء شرطاً لضمان تحقق العدالة، ويعدُّ مرتكزاً أساسياً من مرتكزات دولة القانون والمؤسسات، وحجر الزاوية في استقامة الحياة السياسية والاجتماعية، بل الضمانة التي لا غنى عنها للديموقراطية الحامية للحقوق الدستورية والحريات العامة[1].

أخذت العدالة بموجب التغيرات الواقعية أبعاداً مستجدة، تقع على القضاء مسؤولية تحقيقها. كما أن أبعاد استقلاليته أصبحت منوطة بالمصالح الحاكمة المتعددة، والتي طرأت بموجب تلك التحولات. وشهدت المرحلة الراهنة من تطور النطام العالمي اهتزازاً في هذه الاستقلالية بفعل تفلت الشركات المتعدية من ضبط الدولة وبالتالي ضبط القضاء، وغذى التفلت الوسائل التكنولوجية الحديثة، وبخاصة في مجال الاتصالات، وترافق هذا في لبنان مع تفلت مضاف فرضته الحرب بالعودة إلى الاحتكام العشائري والمذهبي.

التحدي والرهان

ومع تداخل الاقتصادي بالسياسي، وتضارب الاقتصادي والاجتماعي، وضعف الهوامش الفاصلة بين المصالح الخاصة والعامة، وتقاطع الدولي بالعالمي بالمحلي، يصبح التحدي الأبرز أمام القضاء هو المحافظة على استقلاليته التي تتجسد في تفعيل دوره في حكم القانون وفرض موقعه من التحولات العاصفة وضبط التوازن بين كل المصالح الباحثة عن حقوقها، وتبقى هذه الاستقلالية هي مفتاح الحل برغم كل تلك التحديات.

في هذه الدراسة سنحاول أن نتناول ومن خلال سلسلة مقالات متتالية ومترابطة، أبرز المتغيرات التي طالت استقلالية القضاء وآلية تثبيته عبر العناوين الآتية: تحولات المرحلة، استقلالية القضاء أمام التحولات في أنظمة الحكم، أهمية الاستقلالية لتحقيق دور القضاء أمام التحولات في القانون، وأخيراً تحصين استقلالية القضاء ضمن نظام التقاضي.

[1] مجلس دستوري، قرار رقم 2 على 1999، تاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1999، الصادر في الطعن بالقانون رقم 140 تاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر 1999، مجموعة قرارات المجلس الدستوري 1997-2000، ص410.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

باحثان وأكاديميان لبنانيان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لو يدري الكاظمي بما بين بلاد الرافدين.. ولبنان