سمعتُ حوارات جادة حول تسمية ما يحدث، هل هي حرب في غزة أو حرب في فلسطين، أم هي ثورة شعب في مقام وتاريخية ثورة الجزائر، أم هي عواقب فلتان في منظمة التحرير الفلسطينية يدفع ثمنه الشعب في غزة ومخيمات الضفة، أم هي مرحلة جديدة في حرب مستمرة تشنّها الصهيونية العالمية هدفها المعلن بناء دولة إسرائيل التاريخية (!) أم هي مجرد مرحلة الفرصة السانحة؛ فرصة الاستفادة من حال انحدار أمريكا والغرب عموماً ليس فقط كمستودع لقيم معينة ولكن أيضاً كجماعة إمبراطورية سادت ثم تحللت فهي في أزمتها الراهنة تتعرض لانتكاسات ومظاهر ضعف متزايدة ومتكالبة. كثيرة هي الاختلافات، ولكن أكثر منها وأهم مشاعر الغضب والاحتقان و”الدعم الساكت” والتضامن “شبه المستتر” بين مختلف شعوب المنطقة، عربية كانت أم غير عربية.
وببساطة غير مفتعلة أستطيع الزعم بأن الشرق الأوسط، وفي قلبه الإقليم العربي، يدخل الآن مرحلة متقدمة من مراحل تطوره أو انحداره متأثراً بما اصطلح الإعلام الرسمي في النظام العربي على تسميته بالحرب على غزة، وهي التسمية القاصرة عن الإلمام بالأبعاد المترامية للأهداف الإقليمية والدولية المتوخاة من هذه الحرب. كانت الحرب بالفعل والرؤية الأعمق عملاً فاعلاً في الشرق الأوسط كما في النظام الدولي وكانت بالقدر نفسه عملاً كاشفاً. كثيرة بالفعل النتائج أو العواقب المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن هذه الحرب، أعرض عناوين بعض ما اخترت منها ما يلي:
***
أولاً؛ أظن أن الغرب بدأ بسبب هذه الحرب يكتشف أن انحداره سمح لجماعة الضغوط الصهيونية بزيادة التدخل الفعلي في عمليات صنع السياسة وتوجيهها في عدد غير قليل من الدول الغربية. أظن أيضاً أنه صار اليوم قريباً جداً من اكتشاف العلاقة الجديدة والغريبة بين اليمين المتطرف الأوروبي، وكذلك الأمريكي، من ناحية ومنظمات الضغط الصهيوني من ناحية أخرى. الطرفان، كما نلاحظ، لهما اهتمام مشترك بقضية الهجرة عامة ومن الدول الشرق أوسطية بخاصة. واضح تماماً من ردود الفعل لما يسمى بحرب غزة أن الأجيال الجديدة في سلالات الهجرة الشرق أوسطية صارت تشكل في دول الغرب تياراً سياسياً مناوئاً للمصالح الصهيونية.
***
كما أن حرب غزة نشبت في مرحلة انتقالية شديدة الحساسية في الولايات المتحدة وهي مرحلة الانتقال بين رئاستين بما تتضمنه المرحلة من تمويلات صهيونية، فقد تصادف أن تنشب أيضاً في مرحلة هي الأخطر دائماً في تاريخ الأزمات الدولية وأقصد مرحلة الانتقال بين نظامين دوليين، هذه المرة بين النظام الأحادي القطبية والنظام المتعدد الأقطاب
ثانياً؛ تأكد للعقل العربي، ربما للمرة الأولى، أن إسرائيل ليست حدثاً عابراً لأجل قصير. ستظل في العقل العربي ذي الصفات الخاصة حدثاً عابراً ولكن لأجل أطول ولأهداف أوسع وأكثر. اتضح الأمر بمعايشة استعراضات القوة التدميرية للدولة اليهودية وتعمدها مد أذرعها الطويلة لتُهدد بها مواقع بعيدة جغرافياً عن بعضها البعض ومحطمة أعراف القانون الدولي ومستهينة بفكرة العدالة الدولية.
***
ثالثاً؛ تأكد أيضاً اجتماع ثلاثة تطورات دولية وإقليمية عظيمة الأثر. أولها؛ وجرى الحديث عنه من قبل، انكشاف مدى انحدار عناصر قوة الغرب. يتصل بهذا الانحدار تدهور قوة التزام مجلس الأمن ومؤسسات أخرى في الأمم المتحدة وفشلها في وقف القتال وفرض عقوبات على إسرائيل كدولة احتلال. ثانيها؛ ولا شك صرنا في إقليمنا العربي وبفضل حرب غزة وتداعياتها الدولية نشعر بأهميته لنا وعلينا وهو صعود الثورة في عالم الجنوب وبالذات حجم الغضب المكبوت فيه وحساسيته الشديدة للعنصرية بكافة أشكالها. ثالثها؛ عجز جامعة الدول العربية عن أداء واجباتها في حماية الأمن الإقليمي ووقف عملية إبادة شعب عربي على أرض عربية. يرتبط بهذا العجز، ولو جزئياً، حالة أشبه ما تكون لحال الشلل في قيادة المنظمة الإقليمية العربية ربما بسبب بطء إجراءات صنع قيادة جديدة للمنظمة تحظى بالرضاء العام. أعترف بأن الأمانة العامة بقيادتها الراهنة وجهازها الإداري لم تُقصّر، إنما التقصير أو العجز يعود إلى حقيقة أن النظام العربي دخل فعلياً منذ سنوات قليلة، وبخاصة في وقت الأزمة الراهنة، مرحلة تحول جذري سوف تمتد آثارها ربما إلى أسس تشكيل النظام الإقليمي ومنها عقيدته ونمط تفاعلات أعضائه والصعوبات والعقبات التي تواجه إعادة تشكيل قيادة النظام العربي.
***
رابعاً؛ لم تعد الحرب الإقليمية، ولا التعاون الإقليمي، بديلاً مستبعداً. بصريح العبارة وبفضل أخطاء عديدة أو/وخطط مدروسة بإتقان، صارت إيران لاعباً أساسياً في الشرق الأوسط؛ بل وصارت مع تركيا وإسرائيل اللاعبين الأساسيين في منظومة التفاعلات الحادة في الإقليم، وكلهم، كما هو واضح ومثير للاهتمام، من غير العرب، والمسئولون بالدرجة الأولى هم من العرب. أكرّر ما قلت. العمل الإقليمي في الاتجاهين، اتجاه الحل العسكري وفي اتجاه الحل السلمي، لم يعد مستبعداً. الأمل الضعيف معقود على نشأة نظام إقليمي عربي جديد يعتمد على أسس غير متوفر حالياً حدّها الأدنى ويلتزم مضمون إن لم يكن نص منظومة قيم تتناسب وتطلعات الأمة العربية في عصر مختلف.
***
خامساً؛ تطوّع صديقٌ متخصصٌ أو قلْ متبحرٌ في قضايا الأمن الإقليمي وسياسات الحرب والسلم في قضية الصراع العربي الإسرائيلي بتحليل خلاصته الآتي:
“لا شك أن السياسات العربية عاشت زمناً متأثرة في صنعها وممارستها بمظلة دمار شامل وهي القنبلة النووية الإسرائيلية. عاشت متأثرة أيضاً بمظلة دمار شامل ثانية وهي الحماية الأمريكية لإسرائيل وتلقت الدرس بتدخل أمريكا عسكرياً في حرب أكتوبر (1973) بين مصر وإسرائيل وتغيير نتيجتها. ثم باتت تتأثر بمظلة دمار شامل ثالثة اكتشفت مناعتها وقوة ردعها خلال حرب غزة وهي اتفاقات التطبيع المعقودة مع إسرائيل. تسرّب إلى فهم بعض الناس أن التطبيع يعني التحالف ضد الغير وتصرّفوا على أساس هذا الفهم. تصوّر آخرون أن قرار وقف التطبيع اعتراضاً أو احتجاجاً يعني قراراً بإعلان الحرب وفتح الباب أمام العدوان الصهيوني، لكن ينسى هؤلاء الناس جميعاً أن تطبيع الغرب مع ألمانيا النازية لم يمنع هتلر من شنّ الحرب العالمية الثانية.
***
سادساً؛ وكما أن حرب غزة نشبت في مرحلة انتقالية شديدة الحساسية في الولايات المتحدة وهي مرحلة الانتقال بين رئاستين بما تتضمنه المرحلة من تمويلات صهيونية، فقد تصادف أن تنشب أيضاً في مرحلة هي الأخطر دائماً في تاريخ الأزمات الدولية وأقصد مرحلة الانتقال بين نظامين دوليين، هذه المرة بين النظام الأحادي القطبية والنظام المتعدد الأقطاب. نتصوّر أنه في كلتا المرحلتين تصبح بنية النظام المرشح للرحيل عاجزة عجز البطة العرجاء عن اتخاذ القرار السديد والرشيد والمستقل، وهي الصورة التي تطل علينا ساعة كتابة هذه السطور، وهي أيضاً كالصورة الهزلية التي جمعت بين بنيامين نتنياهو ونواب وشيوخ الكونجرس الأمريكي قبل أيام في مقر الكونجرس في واشنطن.
***
حربُ غزة في كثير من جوانبها ونتائجها عملٌ كاشفٌ لنا، إن شئنا واحتجنا، كدول وقيادات وأفكار وأفراد، وهي عملٌ مؤسسٌ لمستقبل يحاول البعض منا استجلاءه بالتعاون مع قراء فناجين الغيب وأوراق اللعب.