لا المخاوف من حرب إقليميّة شاملة ولا قرارات محكمتي العدل والجنائيّة الدوليّتين ومجلس الأمن ولا الآمال بهدنةٍ بالحدّ الأدنى لإيصال مساعدات الطعام والمعالجة إلى غزّة قادرة على وقف ما عزمت القيادة الإسرائيليّة عليه. كذلك لم تردَع الضربات المستمرّة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلّة وتهجير المستوطنات الشماليّة، ولا تراجع الملاحة في باب المندب وقناة السويس بشكلٍ كبير، ولا تراجع الاقتصاد الإسرائيلي وتوقّف كثيرٍ من شركات الطيران عن رحلاتها إلى مطار بن غوريون. لا شيء يبدو قادراً على الوقوف أمام حرب الإبادة المستمرة حتّى النهاية. ولكن أيّة نهاية؟
عندما يتقصّد أحد أطراف حربٍ ما تصعيدَ حربِه عبر اغتيال من يُمكن أن يتفاوض معهم، وبخاصّةً الجناح السياسي لخصمه، فهذا يعني أنّه بكلّ بساطةٍ ووضوح لا يريد وقف الحرب ولا حلاًّ سياسياً. وعندما يُفلِتُ الطرف المعني وزراءه ومستوطنيه لتهديد مقدّسات من يختلف معه، أي قبّة الصخرة والمسجد الأقصى، وحرق القرى في الضفّة الغربيّة، فهذا يعني أيضاً أنّه ذاهبٌ إلى أقصى الاستفزاز في تصعيد الحرب. وعندما يقوم بتدمير البنى التحتيّة بشكلٍ منهجي، ليس فقط في غزّة بل في بلدات الضفّة، فهذا يعني أيضاً أنّ هدفه هو قطع سبل الحياة عن شعب الطرف الآخر وتهجيره. وعندما يأخذ برلمانه “الديموقراطي” للتصويت بقصد منع الاعتراف بدولة فلسطينيّة، فهذا يعني أيضاً أنّ لا سلام يلوح في الأفق.
بالمقابل، تسمح متابعة وسائل الإعلام “الغربيّة” لمعاينة كيفيّة استيعاب موجة الاحتجاجات الشبابيّة والاجتماعيّة على الإبادة المستمرّة، تارةً عبر التشديد على أنّ ما حدث في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 يماثل المحرقة النازيّة، وتارةً عبر إبراز أنّ حرب إسرائيل كدفاعٍ عن قيم “الغرب”. هذا دون الحديث عن الإلهاء بالألعاب الأولمبيّة ومشاهدها.
إن انتهى الأمر بصفقة لوقف الحرب أم بحربٍ إقليميّة كبرى، وحدها هزيمة جنون القادة الإسرائيليّين، ولو معنوّياً ونسبيّاً، كي يرحلوا عن الحكم، كفيلةٌ بألاّ تشبه الأيام القادمة “نكبة 1948” و”نكسة 1967″، ليس في فلسطين وحدها، بل في كلّ المشرق العربي
إنّ صفقة إطلاق سراح الرهائن مقابل المساجين الفلسطينيين ووقف إطلاق النار مؤقَّتاً لن تحلّ “إشكاليّة” قطاع غزّة المستدامة منذ عقود الاحتلال. فلا القيادة الإسرائيليّة ولا “السلطة الفلسطينيّة”، التي لا حول لها ولا قوّة، ولا الدول العربيّة الفاعلة أو تلك الوسيطة لديها تصوّر لمستقبل غزّة وأهلها.
إنّ أيّ مستقبلٍ حقيقيّ لغزّة لا يُمكِن عزله عن تاريخها. فغزّة كانت منذ القدم صلة الوصل بين مصر، الأقرب إليها، وبلاد الشام. ولها رمزيّتها. ففي رفح جرى زواج كليوباترا الأولى، ابنة انطيوخوس الثالث السلوقي بالملك بطليموس الخامس، ورثة الإسكندر الأكبر والمتنازعين آنذاك. لقد لقّبها المصريوّن حينذاك بالسورية قبل أن تصبح وصيّةً على عرش مصر. وطوال التاريخ، عُرٍفت غزّة بأنّها مرفأ ومركز للتجارة، وفيها توفي ودفن جدّ النبيّ هاشم بن عبد مناف أثناء رحلاته التجاريّة. وبين آثارها معابد رومانية وكنائس ومساجد وكنيسٍ يهوديّ وآخر سامريّ، حيث كانت دوماً رمزاً للتعايش الدينيّ، بفضل تجارتها. فلا معنى أن تبقى غزّة سجناً كبيراً معزولاً، ليس فقط عن الضفّة الغربيّة، بل أيضاً عن مصر وبلاد الشام. كما لا معنى لضمّ غزّة إلى دولةٍ “يهوديّة”، إذ لم تتبَع يوماً مملكتي يهودا أو السامرا التوراتيتين. هذا إلاّ إذا كان الهدف هو تحقيق الحلم الأسطوري “من الفرات إلى النيل”.
وغزّة لها رمزيّتها “الثوريّة” في العصور الحديثة، إذ زارها تشي غيفارا أثناء الإدارة المصريّة قبل “نكسة 1967” ووقوعها مع سيناء تحت نير الاحتلال.
بالمقابل ماذا إذا وقعت الحرب الإقليميّة المتوقّعة؟
بالطبع سيكون هناك دمار كبير يحلّ بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا.. ولكن أيضاً في إسرائيل. لن تكون إسرائيل وحدها في هذه الحرب بل ستكون الولايات المتحدة طرفاً فيها وعلى الأغلب بعض الدول الأوروبيّة. وستحاول إسرائيل بفضل مناخ حربٍ كبيرة التضييق أكثر على الفلسطينيين وطردهم من قطاع غزّة والضفّة الغربيّة نحو مصر والأردن. كما ستحاول، أبعد من ذلك، احتلال أراضٍ عربيّة جديدة في جنوب لبنان، بحجّة تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، بل أيضاً في حوران، جنوب سوريا، – الذي اشترت الوكالة اليهوديّة أراضٍ فيه في القرن التاسع عشر – تحت حجّة طرد النفوذ الإيراني. وإذا لم يأتِ الاحتلال صريحاً لهذه الأراضي، فلتكُن “قوّات دوليّة” من الدول نفسها التي تؤيّد إسرائيل، بعد اتفاقيّة “هدنة” الحرب الشاملة.
هذه ليست رؤية تهويليّة. فمن الذي يمكنه منع إسرائيل من فعل ذلك، إذا لم يستطع أحد بعد أحد عشر شهراً من حرب الإبادة والتجويع والتدمير.. أن يوقفها؟
لندع التصريحات الإعلاميّة المُطمئِنة والمُضلّلة بقرب الصفقة وحلّ الدولتين جانباً. إذ لا يُمكِن التعويل على الولايات المتحدة، التي يحتفي مجلس الكونغرس فيها، في خضمّ الإبادة، بمجرم حربٍ تلاحقه مذكرة اعتقال دوليّة، ويزداد توريد الأسلحة منها لاستمرار الحرب. ولا يُمكِن التعويل على أوروبا، التي انخرطت في الصراع الروسي-الأوكراني، ولا تقوم دولها الكبرى سوى بتوصيل رسائل التهديد. ولا يُمكِن التعويل على أنصار السلام وصفقة عودة الرهائن في المجتمع الإسرائيلي، فالغلبة اليوم للمستوطنين وأحلام يقظتهم.
كذلك لا يُمكِن التعويل على كثيرٍ من الدول العربيّة وبعض فئات مجتمعاتها، حتّى لممارسة ضغطٍ حقيقيّ لوقف الحرب، بخاصّةً بعد أن أخذها التضليل الإعلامي الإسرائيلي الممنهَج (“الهسبرة” الإسرائيليّة) إلى قناعات مفادها أنّ مقاومة الاحتلال إرهاب، ونصرة الفلسطينيين مغامرة طائشة، وأنّ الصراع الأساسيّ في المنطقة ما زال بين المسلمين السنّة والشيعة، بل يذهب البعض إلى القول إنّه بين الإسلام و”الحضارة المسيحيّة-اليهوديّة”. هذا عدا انشغال البلدان العربيّة بصراعاتها الداخليّة وبين بعضها البعض كما بديونها السيادية ومشاكلها الاقتصاديّة.
إن انتهى الأمر بصفقة لوقف الحرب أم بحربٍ إقليميّة كبرى، وحدها هزيمة جنون القادة الإسرائيليّين، ولو معنوّياً ونسبيّاً، كي يرحلوا عن الحكم، كفيلةٌ بألاّ تشبه الأيام القادمة “نكبة 1948” و”نكسة 1967″، ليس في فلسطين وحدها، بل في كلّ المشرق العربي. إذ لا يُمكِن للسلام أن يأتي دون هزيمة التطرُّف. ليس فقط تطرّف “داعش” وأخواتها بل أيضاً التطرّف الصهيوني.