إذا عُدنا إلى الوراء، كان الحدث الأبرز الذي قلب الكفة لمصلحة بن غوريون هو قصف سفينة “التلينا” التي كانت تحمل أسلحة لميليشيا “إيتسل”، ما أدّى إلى مقتل تسعة عشر شخصاً. وكان هذا الحدث فارقًا بإنهاء حالة الميليشيا لمصلحة حالة الدولة. لكن ما تعيشه إسرائيل اليوم يمكن اعتباره عودة لمنطق الميليشيا وانقلابًا على إرث بن غوريون يُهدّد “شرعية” الكيان بأعين مستوطنيه وكتل مصالحهم، فيُهدد بقاء الكيان نفسه.
حرس وطني لبن غفير
شكّل منح بنيامين نتنياهو إذن تشكيل “حرس وطني” لايتمار بن غفير عودة صريحة لزمن عصابة “إيتسل” فأثار تخوفًا في صفوف أصحاب منطق “الدولة”. وبرغم تأكيد نتنياهو أنها لن تتحول إلى “ميليشيا شخصية لبن غفير” إلا أنها فعليًا خارج هيكليات شرطة وجيش الاحتلال في آن معًا. وهذا ما دفع عضو الكنيست جلعاد كاريف للإصرار على حاجة انضمام هذا الحرس لمؤسسة الشرطة خشية أن يصبح ميليشيا “حرة”. في حين اعتبر رئيس شرطة الاحتلال السابق موشي كارادي أن تشكيل بن غفير لميليشيا “يُفكّك الديموقراطية الإسرائيلية” و”يُحوّل إسرائيل إلى ديكتاتورية”. من ناحية أخرى، عمل بن غفير على وضع اليد على الشرطة بغية إضعافها. وكان قد مهّد نتنياهو الطريق لذلك من خلال التهرب من المحاكمة بتهمة الفساد والبقاء في رئاسة الوزراء على مدى 15 عامًا، في تجاهل تام لمبادئ ديموقراطية مثل فصل السلطات وتداول السلطة، الأمر الذي زعّزع ثقة المستوطنين في “ديموقراطية” الكيان!
“دكاكين” في الجيش
امتنع جيش الاحتلال منذ ثمانينيات القرن الماضي من المصارحة بكامل قواعد الاشتباك الخاصة به، برغم إصرار المحكمة العليا المُكرّر. كما أنه لم يسلّم جنودَه قواعد اشتباك مكتوبة منذ الانتفاضة الثانية (2000). ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بلغ سلوك جيش الإبادة في غزة مستويات جديدة من الاستقلال عن دولته، وبات إطلاق النار شبه عشوائي، مما يساهم في إدانة إسرائيل في محكمة العدل الدولية وفي مقتل قرابة 30 جنديًا بنيران “صديقة”. كما سعى الجيش للتحرك بمعزل عن أوامر الحكومة، وهذا ما دفع نتنياهو (الضائع بين المنطقين، فقاعدته الشعبية متمسكة بمنطق “الدولة” في حين يُشكّل حلفاؤه المعتوهون رأس حربة عودة الميليشيات) إلى التصريح أن “نحن دولة لها جيش، لا جيش له دولة”، في إشارة وتذكير وتبنٍ واضحين لإرث بن غوريون.
كتيبة دينية شاذة
إن كتيبة “نتساح يهودا” الخاضعة رسميًا لهيكلية الجيش الإسرائيلي هي في واقع الحال كتيبة دينية: فشعارها اقتباس من التوراة، ويُمنع دخول النساء من غير زوجات الجنود إلى معسكراتها، وطعام جنودها متوافق مع التوراة ونظام “الهالاخا” اليهودي. بل إن جنودها ليسوا مجنّدين بل متطوّعين متعصّبين ذات مرجعيات “روحية” خاصة ولا تأبه لقوانين دولة الاحتلال. وهذا ما أدّى إلى عدد من المحاكمات لجنودها حتى تمّ إبعاد هذه الكتيبة في العام 2022 من الضفة الغربية إلى هضبة الجولان السورية المحتلة تلافيًا للاحتكاك مع الفلسطينيين. كما كان لتهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات عليها ولطلب رئيس حزب العمل المعارض بحلّها، أثرهما في الحلبة السياسية، إلّا أن التهديدات الأمريكية لم تُنفّذ والكتيبة لم تُحلّ بل أُعيد إرسالها إلى قطاع غزة، في دليل واضح على تغلّب خيار “الميليشيا” على خيار “الدولة”.
لا بد لكل قوى وحركات التحرر أن تبدأ العمل، في الميدان وخارجه، لأجل استغلال التناقض بين منطق “الدولة” ومنطق “الميليشيا” وزيادة الشرخ بين قبائل المستوطنين والدفع قدمًا برؤية تحررية على نقيض تام مع جوهر الصهيونية الهوياتي
رفض “الحريديم” للتجنيد
برغم أن أعداداً “غفيرة” من “الحريديم” يُشكّلون أساسًا ميليشيات مسلحة تنشط في الضفة الغربية. إلا أن امتناع “الحريديم” عن الخدمة العسكرية كان جزءًا من “العقد الاجتماعي” (“توراته أمانته“) بين المستوطنين عقب النكبة (1948) والذي كان يهدف لإرساء “شرعية” الدولة الحديثة. أما اليوم، فبات أصحاب منطق “الدولة” يخدمون في الجيش، ويموتون فيه، عوضًا عن الميليشيات. ويضاف إلى ذلك تزايد نسبة “الحريديم” إلى 17% من المستوطنين. وهذا ما وضع علامة استفهام على هذا البند من عقد الكيان التأسيسي وخلخل بالتالي “شرعية” الدولة. وهذا ما دفع أيضًا عددًا من الحاخامات (ومنهم حاخامات حزب “شاس” الموالي للحكومة) لأمر متابعيهم بعدم الامتثال للخدمة في جيش الاحتلال وحتى للتهديد بترك فلسطين. والحجة المقدّمة من هؤلاء هي “مخالفة تجنيد الحريديم لقوانين التوراة”، وبالتالي تظهر على نحو لافت للانتباه تلك الخصومة بين “شرعية الدولة” و”شرعية التوراة”. من ناحية أخرى، لا يجب أن يغيب عن بالنا، إشعال مسألة التجنيد فتيل مواجهة جديدة مع “الحريديم” الرافضين الخدمة في جيش الاحتلال على أساس مناهضتهم لوجود دولة إسرائيل، تحت عنوان “نحيا يهود ولا نموت صهاينة”.
أين يتموضع رئيس الكيان؟
يمنح نظام الحكم الإسرائيلي مسؤولية إدارة الكيان لرئيس الوزراء. لكن إدارة أي كيان تعني حسم خيارات وبالتالي فرض قرارات على رافضيها أو المتضررين منها. وهذا ما يُشكّل خطرًا مضاعفًا على تلاحم كيان استيطاني كالكيان الصهيوني؛ كيان يعمل على اصطناع مجتمع وليس كيانًا ناتجًا عن مجتمع. لذا، يمنح نظام الحكم مسؤولية المحافظة على وحدة التجمع اليهودي في فلسطين إلى رئيس الجمهورية، فيضفي “شرعية” للدولة بعيون مستوطنيها إذ يُمثّل ثباتها ووحدتهم. ولذا يمتنع عن أن يكون طرفًا بين الحكومة والمعارضة. لكن الملفت للانتباه أن الرئيس الحالي اسحاق هرتزوغ ضمّ صوته إلى صوت المعارضة بالمطالبة بإبرام صفقة تبادل أسرى سريعًا، مشيرًا إلى أن “الأمر أساسي لصمودنا ووحدتنا”. أي أنه اعتبر أن الخروج من دوره الجامع وتحوله طرفًا إلى جانب أصحاب منطق “الدولة”، هو أقل خسارةً على وحدة المستوطنين من لعب دوره.
“شرعية” اغتصاب الفلسطينيين!
أثار اعتقال جنود إسرائيليين بتهمة اغتصاب أسير فلسطيني حالة تمرد بلغت حد اقتحام مجموعات مسلحة من المستوطنين معسكرات الجيش. كما أثار الأمر نقاشات بشأن “شرعية” اغتصاب الأسرى سواء في أوساط أعضاء الكنيست أو بين المستوطنين. فأصحاب منطق الميليشيا يتبنون منطقًا قبليًا قائمًا على التعاضد بوجه الآخر ويعتبرون أن اعتقال يهود بتهمة الإساءة إلى “الأعداء” يُمثّل خيانة للقبيلة، فيقفون بوجه مؤسسات الدولة (القضاء والجيش). في حين لا يمانع أصحاب منطق “الدولة” انتهاك أجساد أصحاب الأرض بل انتهاك “شرعية” هذه المؤسسات. وهذا ما دفع زعيم المعارضة يائير لابيد إلى اعتبار هذا الانتهاك “رسالة إلى دولة إسرائيل: لقد انتهوا من الديموقراطية. لقد انتهوا من سيادة القانون”. كما اعتبرت بعض النخب من الطرفين أن التناقض دليل تفتت وحتى إشارة إلى بداية نهاية دولة إسرائيل.
وعلى نحو ملفت للانتباه، حذّر أخصائيان حكوميان إسرائيليان هما يوجين كاندل ورون تزور من واقع انقسام المستوطنين الإسرائيليين إلى قبيلتين: الأولى، المتمسكة بمبدأ “الدولة اليهودية الليبرالية الديموقراطية” بحسب النموذج “الغربي”؛ الثانية، المتمسكة بـ”الدولة التوراتية”. وأضافا أن العديد من الإسرائيليين يأملون في أن تتوقف حرب الهويات هذه، إلا أن الفجوات بين هذه الأطراف واسعة للغاية. كما يتوقعان استئناف الصراع القبلي بكامل قوته بمجرد انتهاء حرب غزة، ويضيفان أن “الأمر لا يحتمل أية تسوية. كل هذا من شأنه أن يُغذي تفكك المجتمع، وسوف يؤدي حتماً إلى التخلي الجماعي عن الدولة وإلى التهجير الجماعي للنخبة المنتجة في إسرائيل في غضون عقد أو عقدين من الزمن”. وهذا ما لا يفاجئ الممعنين في سياسة توظيف الهويات: ففي حين تبدو الهويات أداةً سهلةً للتّجييش، لا ينتهي الأمر عند شدّ عصب “قوم” لمواجهة آخر، بل يعود ليفتّت “القوم” نفسهم على أساس الاختلافات الهوياتيّة الضّمنيّة.
طبعًا، لا تعني هذه الاختلافات أن أياً من هذين الطرفين “أقل احتلالًا” من الآخر. إلا أن مخاصمة قبيلة “الميليشيا” لشرعية دولة الاحتلال، وتخوف بل ذعر قبيلة “الدولة” من الحكم التوراتي، وتزعزع الكتلة التاريخية والعقد الاجتماعي المصطنعين بين قبائل المستوطنين، كُلُّ ذلك يخدم هدف تفكيك الكيان (بكل ما للكلمة من معنى) وبالتالي تحرير فلسطين. وعليه، لا بد لكل قوى وحركات التحرر أن تبدأ العمل، في الميدان وخارجه، لأجل استغلال التناقض بين منطق “الدولة” ومنطق “الميليشيا” وزيادة الشرخ بين قبائل المستوطنين والدفع قدمًا برؤية تحررية على نقيض تام مع جوهر الصهيونية الهوياتي.