كما شدّدنا في الجزء الأول على أنّ القضيّة خطيرةٌ جدّاً: (١) في سبيل فهم “جوهر” Substance لا “عرَض” تفوّق النّموذج الغربي الفردي-اللّيبرالي-الرأسمالي إلى يومنا هذا؛ (٢) بهدف التّمكّن من تجهيز أيّ عملٍ وقائيٍّ جدّيٍّ (محتملٍ) ضدّ تداعيات هذا الصّنف من التّفوّق على المستويات الاستراتيجيّة الكبرى، وعلى مستوى ما يمكن تسميته بالأمن القومي-الحضاري الوقائي.
يصحّ ذلك، طبعاً، إذا كنّا نؤمن حقّاً – أو ندّعي – بأنّنا نريد مواجهة ما نسمّيه “الاستعمار” الغربي الفردي-اللّيبرالي الجديد، أو على الأقل، أن نقاومَ بعض آثار هيمنته السّلبيّة بالاشتراك مع بعض التّيّارات المتنوّرة والمثقّفة ضمن المجتمعات الغربيّة نفسها. أمّا فيما يخصّ رأيي “الحُكمي-القِيَمي” Jugement de Valeur الشّخصي عن ضرورة – أو ربّما عدم ضرورة – هذه المواجهة، فما هذا بموضوع مقالنا الرّئيسيّ، وله بحثٌ آخر وكتاباتٌ أخرى إن شاء الله تعالى.
فيما يلي، وبهدف تعميق فهمنا لهذه الفلسفة-الظّاهرة العامّة، أقترح دراستها من خلال محاولة بناء النّموذج-المثالي للفرد الغربي الذي يعيش تحت تأثير “الفرديّة” أو ما سمّيناه تحديداً بـ”الشّعور الفردي”؛ أي من خلال بناء المعالم الجوهريّة والنّموذجيّة – معاً – لهذا المفهوم[1] قيد البناء والتّصوّر:
عن تصوّر: “الفَرد.. الفَردِيّ”
انطلاقاً من كلّ ما سبق، يمكنُك أن تتصوّرَ النّموذج-المثالي للفرد الغربي المعاصر المقصود، إذن:
١/ على أنّه: يعيشُ تحت تأثير الشّعور ـ شبه الثّابت ـ بأنّه إنسانٌ ذو كرامة، وبأنّه يستحقّ الاحترامَ على هذا الأساس ومن قبل الجميع (أفراداً ونخباً وقادةً ودولاً).
(وذلك بخلاف الفرد ضمن بعض النّماذج الأخرى: حيث يشعر هذا الأخير بأنّه مجرّد رقمٍ زائدٍ على عدد الأفراد المكوّنين للجماعة، أو مجرّد رقمٍ زائد ضمن لائحة قيدٍ هنا ومهرجانٍ شعبيٍّ هنا وهناك.. وما إلى ذلك).
٢/ على أنّ: لديه شعوراً قويّاً نسبيّاً بوجوده وبأهمّيّة وجوده كفرد، ليس فقط كوظيفة أو كماهيّة تعرّفه كمجرّد عضوٍ في جماعة ما.
(وذلك بخلاف شعوره ضمن بعض النّماذج الأخرى: حيث يشعر فيها وكأنّه وظيفة أو ماهيّة بالفعل؛ أو: كأنّ “وجود” الفرد مقموعٌ و/أو مؤجّلٌ دائماً، في أغلب الأحيان إلى آجالٍ وهميّة).
٣/ على أنّه: يعيشُ تحت تأثير الشّعور ـ شبه الثّابت أيضاً ـ بأنّه إنسانٌ فردٌ ذو حقوق ومصالح شخصيّة محترَمة (أقلّه في الحدّ الأدنى).
(وذلك بخلاف الشّعور النّموذجي Typique ضمن سياقات أخرى: أي الشّعور، مثلاً، بأنّ حقوق ومصالح الفرد دائمة التّهميش أو القمع أو التّأجيل من قبل ما يُعتبر أنّه حقوق ومصالح الجماعة).
٤/ على أنّ: لديهِ شعوراً – شديد القوّة نسبيّاً – بأنّه يتمتّع بالحدّ الأدنى من الحرّيّة والعدالة ضمن الجماعة.
(بخلاف شعوره النّموذجي ضمن بعض السّياقات الأخرى: حيث إنّ “الحرّيّة” و”العدالة” مسألتان تقعان – في الأعمّ الأغلب – ضمن صلاحيّات النّخبة القائدة للجماعة، أو ببساطة، ضمن صلاحيّات قائدٍ فردٍ يدّعي أنّه يعرف مصلحة مجموع الأفراد أكثر من أنفسهم. من قال لبعض أعضاء النّخب والقادة أنّهم يعرفون مصالح الأفراد أكثر من أنفسهم؟ هذا سؤال كبير، له بحثٌ آخر إن شاء الله تعالى).
٥/ على أنّه: يعيش تحت تأثير شعور – قويّ إلى حدّ بعيدٍ نسبيّاً – بأنّه يشارك، كفردٍ مُعتبَرٍ، في السّلطة (ضمن باب ما يمكن تسميته بالشّعور الدّيموقراطي إن جاز التّعبير).
(طبعاً، بخلاف شعوره النّموذجي ضمن سياقات أخرى ولا حاجة للتّفصيل في هذه النّقطة..).
٦/ نُفضّل أن نضيفَ هنا: مسألةَ شعور فردنا النّموذجي بأنّ قضيّةَ سعادته الشّخصيّة والعائليّة هي قضيّةٌ مهمّة جدّاً أيضاً، لا مسألة تجريديّة-خياليّة لا يجوز البحث فيها صراحةً لتجنّب إزعاج “سعادة” الجماعة كما يُحدّدُها قائدها-الفرد أو كما تُحدّدها نُخبتها القائدة.
لا يعني ذلك تأييداً كاملاً للفرديّة كفلسفة أو كأيديولوجيّة، بل هو محاولة لتوصيف الواقع كما نراه: بين نموذج عام نجح نسبيّاً – برأيي – في “إراحة” الفرد ضمنه، وبين نماذج ما فتئت – في الأعمّ الأغلب – تضربُ الفردَ ووجودَه وكرامتَه وسعادَته ومستقبَله ليلَ نهار، بحجّة إعلاء وضعيّة ومصلحة ومستقبل الجماعة
هل السّمات-المواضيع النّموذجيّة المذكورة آنفاً هي مجرّد سمات ومواضيع ثانويّة، تكادُ تكون بلا أهمّيّة إستراتيجيّة، أو بلا أهمّيّة سياسيّة واقتصاديّة.. بل: وبلا أهمّيّة من باب الأمن القومي ـ الحقيقي والباطني ـ إن جاز التّعبير؟
لا أعتقدُ بذلك. بل إنّني أكاد أجزم، كما رأينا، بأنّ مسألة “الشّعور الفردي” هي:
(أ) من أهمّ الاكتشافات أو الأبنية الفلسفيّة التي عرفتها الحضارة الغربيّة عموماً؛
(ب) العنصر الأهمّ الذي وضع هذه الأخيرة في موقع التّفوق والسّيطرة على الحضارات الأخرى حول العالم؛
(ج) العامل الأهمّ الذي يجعلني أعتقدُ بأنّ هذه الحضارة الغربيّة ما زالت متفوّقة بأشواط على غيرها من الحضارات؛ وأنّ هيمَنتها وسيطَرَتها لا تُعانيان بتاتاً – في الجوهر – من وجود أيّ نموذج كُلّيّ، جدّي ومنافس لها.
لا يعني ذلك تأييداً كاملاً للفرديّة كفلسفة أو كأيديولوجيّة – بتاتاً – كما سبق وشرحنا. بل هو محاولة لتوصيف الواقع كما نراه: بين نموذج عام نجح نسبيّاً – برأيي – في “إراحة” الفرد ضمنه، وبين نماذج ما فتئت – في الأعمّ الأغلب – تضربُ الفردَ ووجودَه وكرامتَه وسعادَته ومستقبَله ليلَ نهار، بحجّة إعلاء وضعيّة ومصلحة ومستقبل الجماعة.
بين قوسين: في الجانب العقائدي (لا العلمي)، يمكن القول إنّني – وبالتّأكيد – رافضٌ للتّطرّف في كلا الاتّجاهَين (الفردي والجماعي)، ومن يعرفني يعرف أنّي لست أبداً من أنصار الفرديّة-اللّيبراليّة-الرّأسماليّة (التّقنيّة وشبه المادّيّة) الطّاغية اليوم. ولكن، بناءً على ما سبق، وبانتظار فرصة تسمح بتوسيع البحث حول هذه المواضيع، لا بدّ برأيي من نداء عاجل لمناهضي “الغرب” دوليّاً وإقليميّاً – خصوصاً أنّنا نعيش في بيئات مشتركة أو واحدة معهم في أحيان كثيرة:
نداءٌ إلى “مناهضي” الحضارة الغربيّة: ناهضوا، لكن لا تقتلوا “الفرد-الإنسان” ضمن نماذجكم!
في زمان الضّجّة السّنيمائيّة والإعلاميّة حول تصنيع القنبلة النّوويّة الغربيّة “الظّاهريّة”.. لا بدّ من البحث عن القنبلة النّوويّة الغربيّة “الباطنيّة” الكُبرى. إنّها بالتّأكيد، وبرأيي: الفلسفة أو العقيدة الفرديّة، التي حاولتُ في هذا المقال إعادة توصيفها وبنائها من خلال مفهوم “الشّعور الفردي (ضمن الحضارة الغربيّة ذات الهيمنة الأميركيّة)”.
لستُ مقتنعاً – إلى الآن – بأنّ الصّين تطرحُ نموذجاً – بديلاً – كلّيّاً وجدّيّاً للفرد-الإنسان المستقبلي. بل يبدو لي أنّنا لا نزال، في الأعمّ الأغلب، ضمن عقليّة: نموذج “الجماعة الرّائعة”، أو نموذج “الحزب الذي لا حزب مثله”، أو نموذج “القائد العظيم” والمعلّم الأبدي والأزلي.. وما إلى ذلك من صُور وتصوّرات. لم يُقنعني النّموذج الصّيني من هذه الزّاوية الجوهريّة، وإلى اليوم. ولا أعتقد بأنّ هنالك نموذجاً روسيّاً أو هنديّاً (أو..) جدّيّاً بديلاً على المستوى الدّولي.
أمّا على مستوانا الإقليمي، فأعتقد أنّ أبناءَ أعلامٍ كالأمير عبد القادر الجزائري (الأكبَري[2] الهوى والعقيدة)، وكالسّيّد الإمام روح الله الخميني: لا يُمكن إلّا وأن يُعطوا الأهميّة المقدّسة اللّازمة للفرد-الإنسان، دون خذلانٍ وأذيّةٍ للجماعة طبعاً. لأنّ الإنسان عند هؤلاء وأمثالهم “ما هُو” في باطنه: إلّا أحد المظاهر الأتمّ لظهور الذّات الأقدَسيّة بنفسِها – إلى نفسِها – على نفسِها.
الإنسانُ موجودٌ شديد القدسيّة وعظيم المقام عند أهل العرفان الإسلامي: لذلك، أشعر بالقلق عندما ألاحظ أنّ مواجهة المستعمر الغربي في بلادنا توقعُنا، ربّما، في نوعٍ من التّأجيل الدّائم لأمور الفرد (إرضاءً لقضايا الجماعة في الغالب).
القلق هذا إيجابيٌّ ومشروعٌ برأيي المتواضع. وعلينا أن نتأمّل جيّداً فيما سبق: هل يوقعنا صراعنا مع المستعمر في فخّ نسيان أو إغفال أو خذلان “الفرد” دائماً؟ هل نحنُ في مرحلة خطر حقيقي أم لا، أمام التّفوّق الغربي البيّن في هذا المجال؟ هل نحن متأكّدون بأنّنا محَصّنون من هذه الزّاوية؟ هل الفرد عندنا مرتاح (ما فوق المسائل المادّيّة البحتة طبعاً، وكما رأينا).. أم أنّ النّموذج الغربي هو الذي لا يزال يُغري ويُقنع أكثر أفرادنا وشبابنا؟
هل علينا أن نبدأ بإطلاق موجة فكريّة وثقافيّة جديدة في هذا المجال، أم أنّ التّأجيل – في الأغلب – هو القرار الصّائب الوحيد؟
فلنتأمّلْ سوّياً، بمحبّة وباحترام وضمن عقليّة إيجابيّة: جميعَ المواضيع والملاحظات والأسئلة السّابقة.. ولنحاولْ تقييم وضعيّتنا الحقيقيّة ونسبة المخاطر الواقعيّة المحدقة بنا في هذا الإطار. هل نحن، فعلاً، بمنأى عن خطر أمني-ثقافي-اجتماعي من الصّنف الاستراتيجي.. فيما يخصّ “الفرد”؟
وإلى الله ـ وحدَه ـ تُرجعُ الأمور.
[1] فيما يخصّ هذه المنهجيّة، راجع كتاباتنا الفلسفيّة والاقتصاديّة-الاجتماعيّة المفصَّلة حول طريقة “النّموذج-المثالي” في العلوم الاجتماعيّة والانسانيّة.. وحتّى الإسلاميّة.
[2] نسبةً إلى الشّيخ الأكبر محيي الدّين، والأمير عبد القادر يُعتبر عادةً من أتباعه المخلِصين.
(*) راجع الجزء الأول من هذه المقالة: حقيقة “القنبلة النّوويّة” الغربيّة العُظمى (1)