حلمي التوني: أين شيوخ الفن المصريين لما يحدث في فلسطين؟

Avatar18011/09/2024
أجرت الزميلة مي فهمي من أسرة جريدة "الشروق" المصرية مقابلة مطولة مع الفنان الراحل حلمي التوني في الأسابيع الأولى التي تلت "طوفان الأقصى" وقامت بنشرها في الخامس عشر من كانون الأول/ديسمبر 2023. وهذا نصها الكامل باعتبارها من بين آخر المقابلات مع الفنان الراحل.

“حلمى التونى.. علامة بارزة فى تاريخ الفن المصرى والعربى، صاحب بصمة بالغة التأثير على الحركة التشكيلية المصرية، فنان تشكيلى من طراز خاص، عاشق للتمرد طوال مسيرته، رحلته الفنية مليئة بالتميز والإبداع، دائما ما يعبر عن واقعه بنظرته الخاصة المختلفة دائما والمشحونة طوال الوقت بشعوره للدور المهم الذى يجب على الفنان القيام به ومدى تأثيره على المجتمع.
الفنان حلمى التونى خلال مسيرته التى امتدت لأكثر من 60 عاما كان حاملا لهموم وطنه ومجتمعه ومعبرا عنه وعن أزماته وربما يأتى هذا من شعوره الدائم بالتمرد الذى يحب أن يصف به نفسه وأعماله، وما زال التونى يلجأ لريشته وقلمه للتعبير عن قضايا أمته، رغم مرضه الشديد وهذا ما قام به فى التعبير عن غضبه لما يحدث من قصف إسرائيل لغزة واستشهاد للمدنيين منذ حركة المقاومة فى 7 أكتوبر.
فى السطور التالية يتحدث لجريدة الشروق الفنان القدير حلمى التونى عن رسوماته عن فلسطين منذ حركة مقاومة 7 أكتوبر ومعرضه المقبل «مصريات» ورأيه فى الحراك الفنى الحالى أمام الأوضاع القائمة وتاريخه مع رسم الأغلفة والتى كان له باع طويل فيها.

***

فى البداية.. دائما الفنان حلمى التونى لا ينفصل عن واقعه، فكيف تتأثر به وتؤثر فيه؟
ــ فى الأساس أنا صحفى فنى أقوم برسم لوحات وعمل معارض، كما يوجد شق آخر يختص بى وهى الكتب والنشر والمتمثلة فى رسوماتى لأغلفة لعدد كبير من الكتب أخجل عن ذكره، لكنه فاق 4000 غلاف.
لكن من حيث الأساس سواء صحفى أو فنان تشكيلى فأنا ملتزم بمعنى أنه تشغلنى قضايا الشأن العام والتى تنقسم لدى إلى قسمين وهى قسم الوطنيات والهوية ثم قسم المساواة والعدالة والتى أهتم فيه بحقوق المرأة لأننى أشعر دائما أنها مظلومة ومجنى عليها، بداية من الميراث إلى وجودها فى المجتمع نفسه وما تعانيه، لذلك ينصب عملى فى هذه الفروع.
عبرت عن المقاومة الفلسطينة التى بدأت فى السابع من أكتوبر بشكل مختلف كيف رأيتها ولماذا قررت مشاركتها عبر مواقع التواصل الاجتماعى؟
ــ طرأ فى 7 أكتوبر، حادث مهم جدا والذى شهده العالم بأجمعه وهو أن المقاومة الفلسطينية متمثلة فى حماس وأخواتها قاموا بعملية هجومية على إسرائيل وهذا حق خالص لهم، لأنهم محتلون منذ أكثر من 75 عاما، نتج عن هذه المقاومة، حرب انتقامية من إسرائيل لأنها ليست معتادة على خسارة عشرات الأسرى والقتلى والجرحى، وبالنسبة للغرور الإسرائيلى تعتبر هذه العملية إهانة كبرى، لذلك قرر رئيس الوزراء الإسرائيلى (بنيامين نتنياهو) الانتقام، لكنها ليست حربا بمعنى معركة مقابل معركة ولكنها حملة انتقامية وخلالها ظهرت علامات عن التوجه الإسرائيلى والقيم الإسرائيلية منها نظرتهم الدونية للعرب والمسلمين والفلسطينيين، والتى تمثلت على سبيل المثال فى واقعة تصوير الفلسطينيين دون ملابسهم فى وقت شديد البرودة، بالإضافة إلى فكرة الاعتداء على المدنيين والتى نتج عنها ١٨ ألف شهيد وعدد لا حصر له من الجرحى (صار الرقم حالياً أكثر من أربعين ألف شهيد وأكثر من مئة ألف جريح)، فإحصائية الأمم المتحدة أثبتت أن 70% من هذا العدد من النساء والأطفال، بسبب ضرب إسرائيل لمواقع مدنية من خلال دبابات وطائرات، منها مواقع مدنية فى غزة ومنها مستشفيات ومدارس وبيوت، وهذا هو البعد أو الخلفية السياسية التى دعتنى للتحرك والقيام برسم لوحة يوميا، تعليقا على الأحداث فى غزة ورفقها بنصوص سواء من الشعر القديم أو مقولات معروفة أو من الأخبار أو من تأليفى، وبسبب مرضى منذ 8 أشهر لم تكن لدى القدرة على رسم لوحات كبيرة فرسمت «سكتشات» صغيرة وأنا أجلس فى السرير بالأبيض والأسود ومن هنا جاءت فكرة أننى أقيم معرضا بالأبيض والأسود.
لماذا قررت نشرها على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»؟
ــ قررت وضعها على صفحتى الخاصة بموقع «فيسبوك» لأننى رأيت أن الصحافة المصرية فى مجملها غير مهتمة بإظهار هذا الجانب السلبى الذى يحدث فى فلسطين، وبالتالى لجأت للميديا العامة وهى الفيسبوك ووضعت 17 رسمة مرفقة بنصوص؛ لأنها دون هذه النصوص تفقد قيمتها، فأنا قدمت رسومات موازية للواقعة وليست مطابقة لها.
كيف ترى دور الفنان فى التعبير عن الأحداث وتأثره بها ويكون أكثر من الأشخاص العاديين؟
ــ عبر التاريخ كبار الفنانين كانوا فى حالة تأثر شديد بواقعهم وما يحدث من حولهم فعلى سبيل المثال بيكاسو وجويا، فبيكاسو يملك لوحة باسم «جرنيكا» رسمها عام 1936 هى تمثيل مشابه لأحداث غزة الحالية، «جرنيكا» هى قرية إسبانية مسالمة أثناء الثورة على الديكتاتور فرانكو الإسبانى، والذى لجأ إلى إيطاليا وألمانيا فقاموا بقصفها بالطيران، وذهب نتيجة هذا القصف عشرات الآلاف فقام بيكاسو برسم هذه الوحة الشهيرة جدا والتى عُرضت فى الأمم المتحدة لفترة طويلة ثم وُضعت فى أحد متاحف مدريد.
أما الفنان جويا، عبَّر عن انغماس مجتمعه الإسبانى فى الخرافات والسحر ورسم مجموعة أعمال ضد هذه الظاهرة.
وفى مصر عام 1919 وقت الثورة المصرية تفاعل النحات محمود مختار الذى كان يعيش فى فرنسا وقتها، وقام بنحت تمثال «نهضة مصر» وعند زيارة سعد زغلول لفرنسا، طلب منه أن يضع التمثال فى مصر وسيقوم بتمويله الشعب المصرى وأقام حملة لجمع التبرعات وقتها بدأت من قرش صاغ واحد إلى حسب مقدرة الشخص، وبالفعل تم جمع المال واستطاع محمود مختار نحت التمثال بالحجم الميدانى، ويعتبر هذا نوعا من أنواع التفاعل رغم أن الثورة وقتها لم تكن مسلحة مثل ما يحدث فى فلسطين حاليا.
وهذا ما شعرت تجاهه بالاستغراب؛ لأن التفاعل الحالى مع الأوضاع فى فلسطين قد يكون منعدما، فكنت أتوقع رد فعل واستجابة قوية لما يحدث، ثم اكتشفت عبر بعض الأصدقاء ومنهم الصديقة أميرة أبو المجد أن هناك عددا من شباب رسموا رسومات لما يحدث فى غزة لكن بالأسلوب الذى تعودوا عليه وهو أسلوب «والت ديزنى» شبيه بالكارتون، فلفت نظرى غياب شيوخ الفن فى مصر، ولماذا لم يفكر أحد منهم عمل شىء أو أن يدلى بدلوه واحتجاجه واعتراضه على ما يحدث، لم يرفع أحد منهم فراشة لتقديم اعتراض وكل التفسيرات والأسباب والمبررات مهما كانت ستكون قبيحة، فالفنان خاصة عندما يكون نجما وشيخا من شيوخ الفن فهو مديون للشعب ولأمته وأن يسدد الدين ويبادر لنجدة مجتمعه فالشهرة والمكانة لها مديوينة ودين فى رقبة الفنان.
تحضر لمعرضك الجديد «مصريات»، مما استوحيت رسوماتك فيه، ولماذا اخترت أن يكون بالأبيض والأسود؟
-تشغلنى دائما فكرة العدالة والمساواة وتمثيلها وتجسديها فى قضية المرأة، ويظهر هذا جليا فى كل معارضى منذ عشرات السنين ومشوارى الذى يمتد لأكثر من 40 عاما، أنا كل عام أقيم معرضا وهذه السنة ونظرا لمرضى كما وضحت على مدار 8 أشهر اخترت الرسم بالأبيض والأسود، أما بخصوص معرض «مصريات» فلفت نظرى أن مصر لا تتغير، وأهلها لا يتغيرون على مر العصور منذ أكثر من 7000 عام، فنرى أهل الصعيد حتى الآن وكأنهم من عصر الفراعنة، يمكن لم يظهر ذلك بشدة فى الشمال أو كما يقولون فى «بحرى» نتيجة الغزوات المستمرة على هذه المنطقة فحصل ذوبان للهوية لكن عند النظر للصعيد نرى الهوية كما هى مثل «المش والعسل الأسود».
فقررت عمل معرض عن المصريات زمان والآن لإثبات أن المرأة لا تتغير والتشابه يأتى من الملامح فى عموم المشهد والتجلى الجمالى فهى نفس الجمال على مر العصور.
ويظهر ذلك فى لوحات معظمها فيها ثنائية مكونة من مرأة مصرية قديمة من عصر الفراعنة بالملابس والملامح معها مصرية حديثة، والحديثة هنا بالنسبة لى هى بنت البلد والحوارى والفلاحة وبنات المدن، وليست التى ترتدى «الجينز».
استخدمت فى لوحاتى بعض الإكسسوارات والأدوات التى تؤكد الهوية والانتماء على سبيل المثال المصرية الفلاحة أكثر ما يميزها هى الجلابية المشجرة والبلاص، ثم فى بنت البلد تتميز بالملاية اللف والبرقع والذى كان يستخدم للزينة والدلال وليس للإخفاء، فاستخدمت هذه الإكسسوارات أو الأدوات مثل «البلاص والبرقع والملاية اللف» لتمييز المصرية الحديثة أما المصرية القديمة وقت الفراعنة فكانت لا تحمل «البلاص» لكنها كانت تضع قمعا من العطر يحتوى على زيوت عطرية.
وفى لوحاتى بمعرض «مصريات» لم أقم برسم الأزياء الملكية للمرأة الفرعونية أو الأزياء الألهية لأننى منحاز للبساطة، فرسمت ملابس المرأة العادية وقتها فالفراعنة كانت قطع ملابسهم قليلة كالتى كانت تنتمى للطبقة العامة، كانت ترتدى فستانا من الكتان الأبيض ومع الطبقة المتوسطة كان يزيد على الفستان الكسرات مع الحلى مثل الحلق الكبير.
ومع كل هذه الأدوات والإكسسوارت أصبح لدى مفردات بصرية لهذا المعرض، وعكفت على عمل هذه الثنائيات مراعيا صحة التكوين والتنوع الشديد لأنى لدى تحدٍ دائما، فأنا فى معارضى أقدم تيمة واحدة أو فكرة واحدة فأكون شديد الحرص على عدم الوقوع فى التكرار وتقديم تنويعات على لحن أساسى.
أقيم معرض لرسومات أغلفة الكتب التى قمت برسمها خارج مصر، لماذا لم تتم هذه التجربة هنا، ولماذا لم يفكر الفنان حلمى التونى فى جمع هذا الأرشيف الضخم؟
ــ زوجتى التى توفيت منذ أشهر حاولت بالفعل جمع أغلفة الكتب التى قمت برسمها، وقامت بمجهود كبير وكانت تذهب للأسواق لشراء جميع الكتب التى قمت برسم أغلفتها لكنها لم تنجح فى جمع عدد كبير.
لكن هناك بعض المجهودات الفردية والتى قام بها على سبيل المثال الصديق خالد عبدالمغنى من الكويت وقام بجمع 4000 غلاف من رسوماتى وهذا مجهود عظيم أشكره عليه.
لكن بالنسبة لى أنا لن أقوم بهذه المهمة، فهذه مجهودات جماعية تقوم بها مؤسسات حكومية أو مدنية أو أفراد.

إقرأ على موقع 180  مالطا ممر الشقاقي للقاء القذافي.. ومسرح مقتلته برصاص الموساد (84)

كيف بدأت رسوماتك للأغلفة وكيف ترى هذه التجربة الثرية والتي كان أخرها إعادة رسمك لأغلفة أعمال الأديب نجيب محفوظ من خلال دار الشروق؟

أتميز طول عمري بأنني ثائر و متمرد، وظهر ذلك عند ذهابي للعمل في “دار الهلال” في خمسينيات القرن الماضي، كان وقتها طريقة ونظام العمل غير مرتبة وسيئة والشغل مبني على النقل من الخواجات في جميع المجالات، ووقتها كنت شابا مندفعا ولدي بذرة تغيير، وكنت أرفض النقل فكنت اقرأ النص وارسم رسمة موازية له وبالتالي اختلف إنتاجي عن ما هو سائد، وهنا كانت بداية التمرد والتي أتت بثمارها في النهاية وهي التميز.

لذلك لجأ إلي عدد من الأدباء المتمردين أولهم الكاتبة نوال السعداوي التي مع نشر أول أعمالها كان كتاب باسم “الأنثى هي الأصل” حاولت نشره في مصر لكنها فشلت فذهبت إلى لبنان وأنا كنت هناك وقتها ورسمت لها أول غلاف.

وثم إرتبطت أعمالي بعد ذلك بالكتاب المتمردين والمختلفين منهم جمال الغيطاني، يوسف القعيد، يوسف إدريس، حتى جاءت قمة الهرم عندما طلب المهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق أن أقوم برسم أغلفة جديدة لأعمال نجيب محفوظ، ولأنني بطبعي متمرد وما زلت برغم كبر السن، رفضت أن أقدم رسومات أغلفة نجيب محفوظ في شكل حارة أو مولد، لكنني قررت أن اتبع مدرستي المتعارف عليها وهي تقديم عمل موازي، وبدأت بالإطلاع من جديد على الـ52 كتاب الخاصة بالأديب نجيب محفوظ، ولجأت إلى مخزوني من صور اللوحات وبدأت بعمل بحث في اختيار رسم لوحة من اللوحات أو جزء تفصيلي من لوحة له علاقة بالنص وقمت بإخراج مختلف تماماً للغلاف الخاص بالطبعة الجديدة وكان لإبراهيم المعلم فضل في كتابة اسم نجيب محفوظ بشكل أكبر وواضح عن التفاصيل الأخرى على الغلاف، فكان إخراجي ثابت باختلاف الرسومات واخترت اختيارت اعتقد أنها موفقة من لوحات تم وضعها بشكل متواضع وليس صارخا.
ما الفرق بين رسمك للغلاف واللوحة؟
ــ الغلاف يأتى نتيجة وكرد فعل، بمعنى أن هناك نصا كتبه شخص وطرح فكرة، ثم يأتى الفنان أو الرسام لتقديم عمل موازٍ لهذا النص وليس مطابقا فى رأى ومدرستى فأنا لا أطابق ولا أشابه.
أما اللوحة فتنتج من عقل ووجدان وخيال الفنان فهى أكثر حرية من الغلاف، ولكن مصمم الغلاف الناجح يستطيع أن ينتزع حريته من سيطرة المؤلف ويعمل عملا موازيا له وقد يكون منافسا له فهو إضافة للعمل.
ما رأيك فى استخدام الذكاء الاصطناعى فى الفن التشكيلى؟
ــ من أهم الأشياء فى الفن هى التعدد، وليس فى الفن فقط، حتى فى السياسية هناك ما يسمى بالديموقراطية وهى أن يكون هناك آراء مختلفة متابينة ومتضاربة، وفى الفن نفس الشىء يجب أن يتواجد هذا التنوع، وكل فنان لديه الحرية فى طريقة مخاطبته لجمهوره، وفى النهاية الحكم للجمهور، وهل أنت كفنان خاطبته بالشكل الصحيح أم تعاليت عليه.
وفى هذا المجال لا أنسى قول الصحفى والصديق أحمد بهاء الدين «راعي الرحمة الثقافية» فأنا أوجه رسالة لكل فنان يتعالى ويبتعد عن الجماهير أن يراعي الرحمة الثقافية، وأن كل من دخل فى منطقة تغريبية عن الناس، تركه الجمهور”.

(*) النص وصور الرسومات الأخيرة للفنان حلمي التوني عن موقع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  كرة القدم في قطر.. قصة قبائل وتجارة وسياسة