حنين الصّايغ تخطّ ميثاقًا جديدًا للنّساء

"ميثاق النساء" هي الرواية الأولى للكاتبة اللّبنانية حنين الصّايغ؛ صادرة عن دار الآداب (2023) وقد احتلّت قائمة الروايات الأكثر مبيعًا في الدّار لأكثر من شهرين، لتصبح واحدة من الروايات التّي يتجاوز انتشارها حجم التقديرات، وها هي تولد مؤخراً بنسختها الألمانية بقلم المترجم المصري حامد عبد الصمد.

“ميثاق النساء” رواية متألّقة وفريدة، تبدأها ظانًّا أنّك على دراية بموضوعها والآفاق التي يفتحها، فتتفاجأ بنصّ أخّاذ، فأنتَ لستَ أمام رحلة حياة فتاة تتحرّر فحسب، بل أمام نصّ متين وريادي، وحوار جاد حول الفلسفة والنقد الدّيني ومتاهات علم النفس والاجتماع.

تُدهشك قدرة الكاتبة في روايتها الأولى على الإحاطة بعملها بكلّ هذا الإتقان؛ النصّ مكتوب بحنكة واجتهاد وحرفية عالية، وخيط السّرد محاك ببراعة واللّغة تنساب بسلاسة، والجانب التّوثيقي فيه جهدٌ بحثي حثيث، ومن الفصل الأوّل تُدرك أنّك أمام قلم واعد وأنّ وجوده إثراء للرواية العربية المعاصرة.

عنوان الكتاب تم اختياره بذكاء، فـ”ميثاق النساء” هو عنوان استعارته الكاتبة من إحدى رسائل الحكمة الموجّهة للنّساء الموحّدات، ورسائل الحكمة هي دستور الطائفة الذي كتب على يد حكماء الدّروز الأوائل. الرواية مستوحاة من تجربة الكاتبة وسيرتها الذّاتيّة، برغم تصريح الصايغ أكثر من مرّة أنّها ليست أمل بو نمر بطلة الرّواية بل نسخة شبيهة عنها.

حنين الصايغ هنا تكتب لتمنح المكتبة العربيّة صوتًا نسويًّا فذًّا؛ تحكي عن لاوعي النساء الجمعي الذي كرّس فيهنّ مشاعر تتناقل عبر الأجيال، وعن الثقل الرازح فوق صدورهنّ والآلام التي تقض مضاجعهن، وعن فتيل معاناتهنّ الذّي تناوب على إشعاله الفقه الدّيني والسلطة الأبوية والنظام الاقتصادي وقبل كلّ شيء الأمومة المقدّسة والجريحة.

يحكي الكتاب قصّة أمل بو نمر المراهقة، التي تنتمي إلى أسرة درزيّة متدينّة ومحافظة تقطن إحدى قرى الشوف في جبل لبنان، تُبرم صفقة مع عريس تقدّم لخطبتها، مشترطة قبوله بإكمالها علمها والتحاقها بالجامعة مقابل الزواج منه، وهي فتاة هادئة تعلّمت بحكم التّحربة مع والد قاسٍ ومجتمع مغلق أن تصير بلا صوت، “أن تتظاهر بالموت لتتفادى الألم”.

وعيها وأيضاً تقديرها لذاتها كان وبالًا عليها، فقد كرهت نفسها في وقت مبكر لأنّها لم تحصل على الحبّ غير المشروط، إلى أن وصلت إلى الاكتئاب المرضي، وبرغم ما منحه لها زوجها من قدرٍ عالٍ من الحريّة، مقارنة بفتيات مجتمعها، لم تستطع التّأقلم، وكانت ترى أنّ خلاصها الرّوحي وتحررها من القيود سيتحقّق من خلال اجتهادها الأكاديمي وتحصيلها شهادات جامعيّة مرموقة.

نعيش من خلال النص تخبّطات أمل النّفسيّة ورحلتها نحو اكتشافها لذاتها، وغوصها في الفقه الدّيني، ونسمع أنين روحها أثناء رحلتها المضنية مع محاولات أمومة لم تطلبها؛ نتعرّف على الألم الذّي يرافق رحلة التلقيح الصناعي والحقن الهرموني، تقول أمل “كان من المفترض أن أنجب طفل الأنبوب، فصرت أنا امرأة الأنبوب”.

نغوص معها في مطبّات رحلة الأمومة التّي تحقّقت لاحقًا وحدها دون تدخلات خارجيّة، فنُعاين اكتئاب ما بعد الولادة، ونشهد تحرّرها من قيدها ووقوعها في الحب، ونبلغ نهاية خطّ السرد مع انفجار مرفأ بيروت عام 2020، والفترة التّي تلته وأدّت إلى هجرتها من لبنان إلى ألمانيا.

استطاعت أن تُعبّر عن مشاعر أبناء الأرياف عند تذوّقهم لملح هواء المدن وإحساسهم بالافتقار إلى العفويّة والثّقة بالنفس حين نقلت تجربتها بعد أوّل أيّامها في الجامعة في بيروت، كما استطاعت أن تعالج مشاعر معظم النّساء تجاه الأمومة وأدوارهن المنوطة بهن نمطيًّا دون أن تكون لهن القدرة على الاختيار أو التّنصّل حين حكت عن مشاعرها تجاه علاج الخصوبة

تشبه الرواية معظم النساء؛ معاناتهن ومشاعرهّن المتراكمة والألم الذي يتعرّضن له. تحكي الكاتبة عن علاقتها المرضيّة بوالدتها ورغبتها في حمل بعض آلامها وكيف تكون الداء والدواء وركن الراحة النهائي، وتقصّ فصول علاقتها بأبيها الموسومة بالخوف والبعد معظم الوقت، وكيف تغيّرت نظرتها إليه عند طلب النّجدة والعون. تضعنا الكاتبة أمام نظام بطريركي معقّد التركيب، بحيث يبدو شديد الصّلابة والقسوة، لكنّه في حقيقته هشّ وضعيف، يتحكّم في علاقات البشر ويرسم أطرافها وحدودها لكنّه برغم ذلك يبقى غير قادر على سبر أغوار هذه العلاقات.

يتحكّم الذكور بمصائر النساء وخياراتهن وطرق عيشهن ولكنّ هل يجعلهم كلّ ذلك سعداء؟ هل القوّة التي يكتسبونها تُضفي على حياتهم المعنى وتُحسّن صورتهم عن أنفسهم؟

نموذجان من الذّكور يظهران في حياة أمل؛ والدها وزوجها وجدّها يمثّلان النّموذج الأوّل الشّائع والأكثر رواجًا: الوالد الذي حكم محيطه وطائفته علاقته ببناته فرفض إكمال أمل تعليمها امتثالًا لرغبة المجتمع وزوّجها قاصّراً؛ زوجها الذي ابتزّها برغبتها بالتعليم، وأجبرها على خوض رحلة الإخصاب الصناعي وعاملها في فراش الزّوجيّة كإحدى ممتلكاته، وقرّر تطليقها لأنّها رفضت تلبية رغباته الجنسيّة؛ جدّها الذي طلّق زوجته ووضع حائطًا يفصله عنها طيلة حياته. الثلاثة لم يكونوا سعداء.

وعلى الضفة الأخرى لدينا النّموذج الأقلّ انتشارًا، يُمثّله زوج أخت أمل وحامد شريكها وزوجها، وهما يعكسان نموذجًا صحّيًّا لرجل يبني علاقته مع المرأة، علاقة قائمة على التفهم والقبول والمشاركة والاحتواء دون تسلط أو ابتزاز أو استقواء وتعالٍ. دون الرغبة في الامتلاك، ليس بالضرورة أن يكون النموذج الثاني سعيدًا، لكنّه يبدو متصالحًا مع ذاته وأكثر مع مجتمع لا يكون فيه نوع اجتماعي سببًا في قهر نوع اجتماعي آخر، ولا تكون لنوع اجتماعيّ القدرة على التحكم بخيارات النوع الاجتماعي الآخر وتقليصها.

إقرأ على موقع 180  دروس كورونا لبنانياً: لامركزية، لا خصخصة، لا بديل للدولة

خلال إطلالتنا على المجتمع الدرزي نتعرّف على مركّباته المتعدّدة وطبقاته الأكثر عمقًا؛ نرى ما تحت الزيّ الدّيني؛ المشايخ؛ فكرة التقمّص؛ ليالي العشور؛ المتّة الحاضرة كركن أصيل في نمط حياة الدروز؛ نشعر بهواجسهم كمجتمع ضيق، ومخاوفهم التي تضاعفت عبر الزّمن كونهم أقليّة دينيّة، ونفهم حبّهم للعيش بين الجبال التي تعمل كحائط يفصل بينهم وبين الآخر، وانغلاقهم على ذواتهم الأمر الذي يُحصّنهم من اختراق الآخر لعالمهم وهزّ إيمانهم وتقاليدهم.

تخوض الكاتبة في المحظورات حين تحكي عن دهاليز دين الموحديّن الدروز، فتُطلعنا على الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي المبهم الدور بالنسبة للكثير من الناس في أهميّته في بناء هذا الدين، وعن الفرق في المطلوب بين الجسماني والروحاني لدى الطائفة.

استطاعت الكاتبة أن تسحبنا معها إلى أصول المشكلة وفروعها؛ عرّفتنا بتمهّل كيف تتكون ركائز “السيستم”. كيف تحاول النساء مفاوضة المجتمع بكثير من الجهد والتنازل لتربح بعض الظروف التي تحاول من خلالها تحسين نوعيّة السجن، وكيف يحاول المجتمع إقناع النّساء أنّهن بعد تحسين شروط العبوديّة يصبحن أحرارًا، ويحاول إسكاتهن ويروّضهن على فضيلة القبول والرضا بالممكن، كأن القهر والذل والتسلط وضعيّة أولى وأساسية.

بدت الكاتبة مخضرمة ومفعمة بخلاصات التجارب الإنسانيّة؛ تأخذ قارئها في رحلة نحو مكنونات النفس، وتقوّي وعيه بذاته، ومحاولة فهمه لتناقضاته، فمثلًا في علاقة البطلة مع المدينة، استطاعت أن تُعبّر عن مشاعر أبناء الأرياف عند تذوّقهم لملح هواء المدن وإحساسهم بالافتقار إلى العفويّة والثّقة بالنفس حين نقلت تجربتها بعد أوّل أيّامها في الجامعة في بيروت، كما استطاعت أن تعالج مشاعر معظم النّساء تجاه الأمومة وأدوارهن المنوطة بهن نمطيًّا دون أن تكون لهن القدرة على الاختيار أو التّنصّل حين حكت عن مشاعرها تجاه علاج الخصوبة وعن تخبّطها بعد محاولات التّلقيح الاصطناعي واكتئاب ما بعد الولادة وإحساسها بالذنب تجاه ابنتها.. ومن دون وعظٍ، أشارت إلى الميثاق الحقيقي للنّساء، المتمثّل بالتضامن والتعاطف مع جراح الأخريات؛ التعاطف الذي يبدأ بالرفق بالنفس واحتضان الآلام ولعق الجراح.

العمل شفّاف جدًّا وعميق في الوقت عينه، وقد استطاع تقديم تجربة فرديّة شديدة الخصوصيّة يكون لصوتها صدى نسوياً تسمعه أي امرأة في العالم على اختلاف دينها وتجربتها وجنسيتها فتتماهى مع صاحبته من الصّفحات الأولى لهذه الرواية الشيّقة.

في الفصل الذي عنونته الكاتبة بالشرنقة، يقول جاد زوج نيرمين لأمل إنّ خلاص المرء وتحرّره مسؤوليّته وحده، مستعيرًا قصّة الرجل الذي قرّر مساعدة فراشة لتخرج من شرنقتها فقضى عليها، أمّا حامد فيقول في فصل آخر أثناء حديثه عن ورطة المرأة العربيّة أنّ تحرّر المرأة من غير أضرار نفسيّة واجتماعيّة ومعنويّة أمر شبه مستحيل. فهل التّحرر جهد نسوي فردي؟ وهل على المرأة أن تخوض وحدها في وحول الأضرار والخسائر لتنعتق من الشّرنقة؟ وهل الكثير من النساء قادرات على اجتياز المخاطر ودفع التضحيات؟ أم أنّ تحرّر المرأة نتاج حضاري مجتمعي لن يُنال إلّا بحراك أمميّ واسع النّطاق، تقوده روحٌ نسويّة تؤسّس لميثاق جديد ومنصف للنساء؟

(*) خاضت حنين الصايغ غمار الشعر فكان لها على التوالي: “فليكن” (2016)، “روح قديمة” (2018)، “منارات لتضليل الوقت” (2021).

Print Friendly, PDF & Email
حوراء دهيني

كاتبة لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عن مأزق العروبة: الدين السياسي=السلطة والمال VS الناس