

وُلاةُ الأمرِ في منطقتنا العربية يُذكّروننا بعصر ملوك الطوائف. يتقاتلون ويقتلون الهوية واللغة والتراث والتفكير بالمستقبل، ويُشيحون بأبصارهم عن الواقع من أجل السلطة والثروات. بلادهم يأكلها الاستعمار من قلبها حيث الكيان الصهيوني، ومن أطرافها حيث الأساطيل الحربية الغربية تحاصرها من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي.
أبناء العرب يدفعون الأثمان تخلُفاً وفقراً وتناحراً والآتي أعظم. ها هي سوريا قلب المشرق قد تشقَّقت. باتت نكبةً ثانية بعد فلسطين. الصهيونية والرأسمالية الترامبية الراهنة لا تريدان دولة في سوريا، ولا في أي بلد عربيّ، بل سلطات متناحرة، يسقط ُفي ظلِّها مفهوم الوطن والدولة . مرَّة تحت شعار حماية الأقليات، ومرَّة تحت كذبة بناء دولة فيديرالية بادّعاء الحفاظ على الجماعات الدينية والإثنيّة. ودائماً لخدمة مشروع ترامب الراهن: السلام بالقوة، ولخدمة التوسُّع الإسرائيلي الذي يلتقي فيه الكيان المحتلُّ مع نهج واشنطن منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرنٍ، ولا سيّما منذ ثمانينيّات القرن الماضي، عندما وافق الكونغرس الأميركي عام 1983 على الآلَيّة التطبيقية لمشروع برنارد لويس لتقسيم المنطقة العربية فوق ما قسّمتها سايكس-بيكو. ولقد بات هذا المشروع هو الخلفية الإستراتيجية الثابتة للدولة العميقة في الولايات المتحدة، مهما تنوَّعت اللعبة الشكلانيّة في تبديل الإدارات.
الخوف من الانفجار الداخلي أمرٌ واقعٌ ما لم تَسْعَ الحكومةُ إلى الإقدام على صوْغ مشروع ٍللوحدة الوطنية يتجاوز إنشائيَّات البيان الوزاري، ويعمل على حماية لبنان من وطأة المشروع الأميركي الإسرائيلي الذي يُحاصر المقاومة وفكرة المقاومة بالذات
ليست الترامبية مسألةً جديدة في الولايات المتحدة. لكنَّ ترامب هو الأشدُ فظاظةً في التعبير عن الغليان الاستعماري، في العقل السياسي الأميركي الذي يدور في رؤوس المجمّع الصناعيّ العسكريّ، ودهاليز أرباب منظمة “إيباك” اليهوديَّة، والقوى التجارية والريعية. كلُّهم برغبون في حلِّ مشكلات الاقتصاد الأميركي من خلال السيطرة على ثروات الشعوب التي يستطيعون قهرها. ولهذا يرون أنَّ كلَّ الثروات في أيِّ بقعةٍ من العالم هي بِلا هُويةٍ وطنيةٍ أو قوميّةٍ أو حضارية، أو إنسانية في الحدِّ الأدنى. لا يعترفون بشعوب أميركا اللاتينية ويخططون لنهبها ابتداءً من فنزويلا والبرازيل فضلاً عن كوبا. ويتطلَّعون إلى أوروبا فيسعون إلى الثروات في غرينلاند وأوكرانيا. ويبتزون الاتحاد الأوروبي المصاب بالعمى الاستراتيجي أمام التحولات الدولية، وإزاء عودة أميركا إلى طراز القرن التاسع عشر من الاستعمار المباشر ولكن من دون أوروبا هذه المرة. ولا يُخفي هؤلاء أبداً تطلُّعَهم الأخطر إلى آسيا وإفريقيا، ويندفعون بكل أساليبهم العسكرية والسياسية والإعلامية والثقافية إلى تسريع حركة الاستعمار الحديث انطلاقاً من بلاد العرب المفتوحة على القارتين، على القاعدة الرومانية الإمبراطورية القديمة، وهي أنَّ مَن يحكم الشرق الأوسط يحكم العالم.
يعرفُ كلَّ ذلك الرئيسُ الأميركيُّ دونالد ترامب. ويعرف الحكَّام العربُ الأمر نفسه. لكنَّهم دخلوا في عمليَّة التواطؤ الكبير، وهم اليوم أشدُّ وضاعةً ممَّا كانت عليه الخلافة العباسيّة عندما هاجمها المُغول في القرن الثاني عشر، وأسقطـُوا بغداد ثمَّ راحَ مُغول العصر الحالي يسقطون بغدادات كثيرةً.. لقد فهم الإستراتيجيون الأميركيُوّن جيّداً أنَّ الحكام العرب لن يردُّوا على مخططاتِهم، بل هم شركاء فيها، ولهذا يتصرَّف ترامب معهم بعنجهيّة فاقعة، فيفرض عليهم “الجزية المالية” الأميركية، ويطلب منهم خيانة فلسطين مرة جديدة عبر دعوتهم إلى الموافقة على تهجير أبناء القطاع والضفة. ويستثمر سكوتهم من أجل الاستتباع الكامل الذي يرتكز على ركنين متلازمين: التقسيم والتطبيع فلا يكون أحدُهما من دون الآخر.
إنها مخاطر الساعة، وما أشدَّها في لبنان إذا لم تدرك الحكومة والعهد أهمية إنجاز أيِّ صيغةٍ من الوحدة الوطنية قبل فوات الأوان وتحوُّل ترامب إلى إمبراطور روماني جديد ونتنياهو إلى وكيل الإمبراطور في المشرق
تلك هي الخارطة العربية الآن. وربما تستمرُّ آجَالاً طويلةً قبل أن تتمكَّن الشعوب من النهوض. لكنَّ الخطرَ المتسارعَ يدهمُنا حالياً من بوابةِ المثلَّث السوري- اللبناني- العراقي. وإذا احتسبنا التوقيتات الترامبية مع توراتيّات نتنياهو، مع استناف العدوان الإبادي على غزَّة، مع التهديدات الجديدة للعراق، والحرب على اليمن والتلويح الأميركي بحرب أهلية فيها، والتخاذل العربي، فإنَّ الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون كارثية: الاحتلال الإسرائيلي لن ينسحب من جنوب لبنان قبل أن يضمن التطبيع المعلن أو المقنَّع، وكلُّ ما يُحكى عن معركة دبلوماسية لدفع إسرائيل إلى الانسحاب لا يتجاوز حدود تقطيع الوقت وذرِ الرماد في العيونّ. والخوف من الانفجار الداخلي أمرٌ واقعٌ ما لم تَسْعَ الحكومةُ إلى الإقدام على صوْغ مشروع ٍللوحدة الوطنية يتجاوز إنشائيَّات البيان الوزاري، ويعمل على حماية لبنان من وطأة المشروع الأميركي – الإسرائيلي الذي يُحاصر المقاومة وفكرة المقاومة بالذات..
الخطر داهمٌ. نعم. ونعم. ونعم. وها هي إسرائيل قد أنجزت ما تُسمِّيه “ممر داوود” من رأس الناقورة إلى التلال الخمس إلى جبل الشيخ إلى كل الجنوب السوري مروراً بجبل الدروز وانتهاء بالحدود مع العراق. كما طوَّفت دمشق، فيما حاكمُها الممثِّلُ المعاصر لابن تيميّة يقوم بوظيفته المرسومة فيُطمئن الإسرائيليين ويتجه إلى الحدود اللبنانية مع البقاع الشمالي كي يُعلِّق سنَّارة النار والتقسيم في ما بعد، وكي يتلاقى مع الدور التركي الطامع بتوسيع النفوذ. إنها مخاطر الساعة، وما أشدَّها في لبنان إذا لم تدرك الحكومة والعهد أهمية إنجاز أيِّ صيغةٍ من الوحدة الوطنية قبل فوات الأوان وتحوُّل ترامب إلى إمبراطور روماني جديد ونتنياهو إلى وكيل الإمبراطور في المشرق.. والمعادلة معروفة: لن يبقى شيءٌ لأحدٍ إذا فتك التقسيم بلبنان مثلما بدأ يفتك بسوريا.