هذا التوصيف للمجابهة الراهنة في إقليم المشرق المتوسطي، حظي بتصفيق حماسي من قوى اليمين المتطرف الغربي، فاعتبر الفيلسوف الفرنسي، ميشيل أونفراي، مثلاً، أن الحرب الراهنة “هي حرب حضارات وحرب أديان، أي حربًا بين الحضارتين الشرقية والغربية، وبين المسلمين واليهود. هناك يهود وهناك مسلمون”، مستندًا في حديثه إلى نظرية الباحث الأميركي صامويل هنتنغتون، مؤلّف “صراع الحضارات” الصادر عام 1996.
كما تبنّى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هو الآخر سردية الحرب بين “الحضارة” و”الهمجية” لوصف الصراع الدائر، حين قال “إن الصراع بين إسرائيل وحماس هو معركة بين الحضارة والهمجية، بين الحشمة والفجور، بين الخير والشر”.
بالطبع، مسألة الصراع الديني ثم القومي، ثم المتعولم، بين الغرب والعالم الإسلامي قديمة قدم التاريخ. لكن المفارقة هنا أن هذا الصراع لم يكن يوماً في الحقيقة صراعاً بين اليهود والحضارة الإسلامية. لم يكن بهذا المعنى “صراعاً تاريخياً” بينهما، بل هو مجابهة حديثة من ألفها إلى الياء، اندلعت بسبب قيام الحركة الصهيونية بإعلان الحرب على “البرابرة المسلمين المتخلفين” منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبفعل تحوّلها إلى رأس حربة في الحروب الإفرنجية الحديثة (الاستعمارية والامبريالية ثم المتعولمة) على العالم الإسلامي.
***
في هذه الدراسة القصيرة على حلقتين، سنحاول إثبات أمرين:
الأول، أن الصراع الراهن بين اليهود والمسلمين (كشعوب) ليس البتة “صراعاً تاريخياً” كما تروّج الآن الحركة الصهيونية وأنصار برتراند لويس وصموئيل هانتينغتون الغربيون.
الثاني، أن 1400 سنة من التاريخ تثبت أن العرق اليهودي لم يحافظ على البقاء ولم يزدهر فكرياً وفلسفياً سوى في كنف الحضارة الإسلامية. هذا في مقابل 2000 سنة من العلاقات اليهودية – الغربية التي كانت تعج حتى الثمالة بحالات “هولوكوست” عنصرية غربية لا تنتهي ضد اليهود.
لقد أدارت الصهيونية ظهرها لكل هذا التاريخ، في حالة لم يسبق لها مثيل من إنكار الجميل، وقرّرت إحياء تاريخ الحروب الإفرنجية الأوروبية ضد العالم الإسلامي ولكن هذه المرة في حلّة يهودية.
كما أن الصليبيين ذبحوا 100 ألف طفل وإمرأة ورجل حين اجتاحوا القدس في 7 حزيران/ يونيو 1099 (في مقابل منع صلاح الدين إلحاق أي أذى بأي فرد إفرنجي، عسكرياً كان أم مدنياً، حين حرّر المدينة في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1187)، فيما يقوم الإسرائيليون بذبح وجرح مئات الآلاف في فلسطين ولبنان.
حقاً، هو إنكار جميل مروّع.
***
تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، كان مقتنعاً بأن فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. لكنه، وخلال قيادته للحركة الصهيونية، اكتشف أن هذا الشعار ليس صحيحاً، وراعه بعدها عن مخيّلته. ولذلك، قرّر التوثّق أكثر من الأمر. بعث بإثنين من حاخامات فيينا في مهمة استطلاع. ومن فلسطين، أرسل إليه الإثنان تلغرافاً يقول له بالرموز إن “العروس جميلة، لكن المشكلة أن لها زوجاً”. وقصد الحاخامان بذلك أن أرض فلسطين لها شعب.
وباقي القصة معروف: الحرب لإبعاد الزوج عن العروس، والحروب المتصلة الأخرى لتوثيق هذا الطلاق بالمعاهدات الرسمية. لكن ماهو غير معروف أن الخناقة التاريخية التي تم تدشينها بين العرب واليهود على أرض فلسطين، لم تكن حدثاً عادياً أومتوقعاً. إنها جاءت إلى حد ما استثناء، في تراث تاريخي كانت فيه العلائق بين الطرفين في إطار الحضارة العربية الإسلامية إما تعايشاً في أسوأ الأحوال، أو تفاعلاً حضارياً عظيماً في أحسنها.
بالطبع، هذا التراث لا يعني أن العرب واليهود تمكّنوا خلال تاريخهم الطويل من حل الخلافات الدينية بينهم. هذا على أي حال كان مستحيلاً: فاليهودية لم تعترف بمحمد كنبي من الأنبياء المرسلين من العناية الإلهية، والإسلام اتهم اليهود بتحريف التوراة واعتبر نفسه الحصيلة الجامعة لكل الأديان التوحيدية.
الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر اليهود كانت إما معادية أوهي تتهمهم بمخالفة الله على رغم أنه فضّلهم على الآخرين، ووضعهم في مصاف أهل الكتاب الآخرين جنباً إلى جنب مع المسيحيين. لقد فضّل الله أطفال إسرائيل، لكن بسبب عدم طاعتهم وعنادهم رفَضَهم، فهم في النهاية الأشد عداء للمؤمنين.
ويبدو أن القصص التوراتية التي جاءت في القرآن قد اختيرت بعناية لتركّز على هذا التفضيل ثم على الرفض الإلهيين، بسبب العناد. فسورة البقرة تروي كيف أن اليهود عبدوا العجل المقدّس، وتجاوزوا حرمة السبت، وخرقوا العهد، ورفضوا الأنبياء، وحرّفوا التوراة والنصوص المقدسة، إلى درجة وصفهم بأنهم كحمار يحمل أثقالاً (1).
كان ثمة أسباب عقيدية – مبدئية وأسباب سياسية – تاريخية لهذا الموقف. فالإسلام، كما ذكرنا، يعتبر نفسه التتويج النهائي للأديان التوحيدية التي نزلت من السماء. وهو بهذه الصفة يضم اليهودية والمسيحية ويعترف بهما كأديان سماوية، لكنه يعتبر نفسه النسخة الأصلية غير المشوّهة من هذين الدينين. ولذا، نجد تبجيلاً كبيراً لكل أنبياء اليهود في القرآن، إضافة إلى عيسى بن مريم، واعترافاً بهم بوصفهم سلسلة من خط واحد يبدأ من آدم وينتهي بمحمد مروراً بهم جميعاً.
هذا الاعتراف حدث برغم أن بعض القصص الأسطورية الدينية تأتي معاكسة لمصالح بعض شعوب المنطقة القديمة. وعلى سبيل المثال، ينحاز مصريو القرن الحادي والعشرين إلى النبي موسى ضد ملكهم الفرعون، على الرغم من أن قصة موسى تتضمن إنزال عقوبات مرعبة ضد كل المصريين بلا استثناء لصالح قبيلة من 40 ألف يهودي جاء موسى لينقذهم من فراعنة مصر، وليس من عبودية الشعب المصري المستعبد هو أصلاً.
إضافة، كان الدين الإسلامي في حاجة ماسة إلى تمييز نفسه عن اليهودية. في البداية، لم يكن ذلك ضرورياً لأن معركة الإسلام كانت مع العرب الرافضين للدعوة الجديدة. لكن حين تم الانتصار على الخصوم العرب، برزت الحاجة إلى إثبات الوجود مع كل من الدينين اليهودي والمسيحي. وهنا توقّف المسلمون عن الصلاة ووجههم نحو القدس كما كانوا يفعلون في السابق. باتوا يُممّون وجههم الآن نحو مكة ويديرون الظهر، بالتالي، للقدس. أما أهمية القدس بالنسبة إلى العرب في العصر الحالي، فتعود إلى أن النبي محمد عرّج منها إلى السماء. وهو حدث مجّده الخلفاء الأمويون ببناء مسجد قبة الصخرة الراهن في مدينة القدس.
التغييرات الأخرى التي أدخلها المسلمون على التقاليد اليهودية القديمة كانت عديدة، منها الصلاة خمس مرات في اليوم بدل ثلاث، واعتبار الجمعة يوم العطلة بدل السبت، والصوم شهراً كاملاً بدل يوم واحد في عيد الغفران.
هذا على الصعيد العقائدي. أما على المستوى التاريخي، فإن الاختلافات بين اليهودية والإسلام بدأت خلال حياة النبي محمد نفسه. فحين هاجر النبي إلى المدينة العام 622 م.، كان الوضع معقّداً للغاية هناك. كانت هناك ثلاث قبائل يهودية قوية، هي بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، تسيطر على الزراعة والصناعة الحرفية والتجارة في المدينة. وتتفق معظم المصادر على القول إن النبي طرد قبيلة بني قينقاع من المدينة العام 624 م.، وأن بني النضير طُردوا العام 625. وفي سنة 627، أعدم الذكور من قبيلة بني قريظة. وكان سيصبح أمراً مستغرباً ألا تترك هذه الأحداث بصماتها على السور المدنية القرآنية (2).
لماذا هذه الحملة الإسلامية على القبائل اليهودية؟ حتماً ليس لتنفيذ تطهير عرقي. فالقبائل اليهودية كانت في الأصل مستعربة ولا تختلف في شيء عن القبائل العربية الأخرى سوى بأنماط العبادة. وحتى اليوم، العديد من العرب في شبه الجزيرة يعودون بأصولهم إلى هذه القبائل القديمة. ثم أنه حين وضع النبي دستوره في المدينة، كان اليهود من ضمن الجماعات التي اعترف بها كجزء من التركيبة الاجتماعية للأمة الجديدة.
الأسباب الحقيقية التي دفعت النبي محمد إلى هذه الخطوة كانت استراتيجية في الدرجة الأولى. فهذه القبائل رفضت الاعتراف أو التعايش مع الدين الجديد. لا بل هي بدأت بتمويل القوى المحلية الرافضة، لدفعها إلى شق عصا الطاعة ضده. هذا إضافة إلى أن ثروات اليهود، كانت، وبسبب موقفهم المعارض، تشكّل خطراً على الجالية الإسلامية الجديدة التي كانت تحاول بناء مؤسساتها المستقلة الخاصة.
فوق هذا وذاك، يجب الانتباه إلى أن النبي محمد لم يفعل بالقبائل اليهودية غير ما فعله بالقبائل العربية المتمردة على الدين الجديد. والدليل أنه لم يهاجم يهوداً آخرين خارج المدينة. هو حاول في البداية الحصول على تأييد اليهود بالطرق السلمية، وكان من ضمن ذلك اختياره في البداية القدس كقبلة (وجهة المصلين) للصلاة. لكن حينما فشل في هذا، شكّل ذلك بداية الفراق السياسي الإيديولوجي الكبير الذي توقف فيه موسى على أن يكون مرجعية الإسلام. بات إبراهيم وابنه إسماعيل هما المرجعية الأولى.
يقول ماكوين والشاهي (Maceoin and Al-Shahi) هنا: “يبدو أن الجدل العنيف المناوئ لليهود لدى النصرانيين المكّيين، والصدام بين محمد واليهود في المدينة، تركا بصماتهما في القرآن، إذ لم تعد لدى السور المكية أو المدنية الكثير لتقوله لصالح اليهود واليهودية (3).
في المقابل، الرفض اليهودي السابق والحالي للنبي محمد وللإسلام ككل، لا يقل حدّة. فمحمد يوصف في النصوص التلمودية وغيرها بصفات مبتذلة (ميشوغا). إلا أنها لم تكن صفة سيئة تقريباً بالحد الذي تبدو عليه في لغة اليوم. لكنها تهون على أي حال أمام المصطلحات البذيئة التي تُطلق على السيد المسيح. وعلى نحو مماثل فإن القرآن – وعلى عكس العهد الجديد – ليس محكوماً عليه بالحرق. وعلى رغم أنه ليس مكرّماً مثل تكريم الشريعة الإسلامية للنصوص اليهودية المقدسة، إلا أنه يُعامَل معاملة الكتاب العادي. ويقول الفيلسوف اليهودي الشهير ابن ميمون إن الإسلام ليس عبادة أصنام، ويجب ألا يعامَل المسلمون معاملة أسوأ من معاملة اليهود للأغيار الآخرين (…) (4).
الخلافات الإيديولوجية – الدينية، إذاً، كانت (ولم تزل) موجودة ومستعصية على الحل. وفي الحقيقة كان من المستغرب أصلاً أن يكون هناك حل وسط بين دينين يعتبر كل منهما أنه يمتلك بمفرده الحقيقة المطلقة. كان كل منهما يلغي الآخر إذا ما قَبِلَ بالمبادئ الأساسية لأي منهما. لكن، وعلى رغم هذه الخلافات المبكّرة، استطاع أتباع الدينين أن يتعايشا طيلة قرون طويلة. وعلى رغم أن هذا التعايش لم يكن الحل المثالي لمشكلة الأقليات والمواطَنة التي كانت من اختراع عصور الحداثة، إلا أنه كان مدهشاً بالفعل، بخاصة حين تقارن وضعية اليهود في الإمبراطوريات الإسلامية بوضعهم بين القوى الأوروبية القديم منها والحديث، المسيحية منها والقومية العلمانية.
ما سر هذا التعايش؟
القصة هنا تبدأ وتنتهي بدافع واحد: اعتراف الإسلام منذ نشأته المبكرة بالآخر، وخصوصاً منه الآخر المتعلّق بـ”أهل الكتاب” (اليهود والمسيحيين). فالإسلام يعترف بالاختلافات الدينية والعرقية بوصفها دليلاً على عظمة الله بدل أن تكون بديلاً عن عظمة أو تفوّق لون أو لغة أو أمة من الأمم على الآخرين.
وثمة قول منسوب إلى النبي جاء فيه أن كل من يقاتل أو يموت من أجل العصبية، ليس مسلماً.
هناك، إذاً، تشديد في الإسلام على الأخوّة من داخل التعددية (5). وهذا كان في أساس وجود ممثّلين لكل الأديان والطوائف في المؤسسات الامبرطورية الإسلامية المتعاقبة، سواء أكانت وزارات أومواقع استشارية. فكل “ملّة” يمكن أن تحتفظ بدِينها الخاص ولغتها الخاصة وتقاليدها الخاصة، بشرط، بالطبع، أن تدين بالولاء للدولة الأوتوقراطية (آنذاك) الإسلامية.
بالنسبة إلى العرب واليهود، عنى ذلك تعاوناً وثيقاً شهد عصره الذهبي في ما أُطلق عليه اسم “الفكر العربي – العبري”. هذا كان العصر الذي أنجب عظماء مثل الفيلسوف والطبيب ابن سينا، وأبو عمران موسى بن ميمون بن عبد الله القرطبي الإسرائيلي. لقد اندمجت الثقافتان اليهودية والعربية إلى الدرجة التي لم يعد في الوسع معها معرفة ما هو عربي وما هو يهودي. كان الجميع منهمكين في تشييد صرح موحّد في إطار حضاري موحّد. وهذا لم ينطبق على اليهود وحدهم بل على باقي الأقليات أيضاً، من دون أن يعني ذلك (كما أسلفنا) أن هذه الإنجازات الحضارية عنت منح الأقليات حقوقهم الكاملة كمواطنين. هذا كان تطوراً يفترض أن ينتظر ولادة النهضة والحداثة في أوروبا.
وهكذا، اكتشف باحثون غربيون في القرن التاسع عشر أن “أفيسبرون” (avicebron) الذي كان يُعتقد أنه فيلسوف مسيحي، لم يكن سوى الفيلسوف اليهودي أبو أيوب سليمان بن يحيى بن جبيرول الذي برز في القرن الحادي عشر في الأندلس ونقل الفلسفة الإغريقية – العربية باللغة العربية إلى أوروبا، وأن ابن رشد كان له تأثير على المفكرين اليهود أكثر من تأثيره على المفكرين المسيحيين أو حتى الإسلاميين (6).
النموذج الأوضح للترابط بين الثقافتين اليهودية والعربية كان في العهد الإسلامي في الأندلس.
في أوروبا اعتُبر العام 1492 السنة الذي بدأت فيها العصور الحديثة (وهو نفسه العام الذي عثر (وليس اكتشف) كريستوفر كولومبوس على القارة الأميركية بالصدفة). بيد أن هذا تأريخاً مغلقاً على الذات الأوروبية، لأنه يخدم أهدافاً أوروبية محضة. ففي كانون الثاني/يناير من ذلك العام، هزم الملك فرديناند والملكة إيزابيلا مملكة غرناطة الإسلامية، آخر معقل للإسلام في أوروبا. وقتها قُرعت أجراس الكنائس في كل أنحاء أوروبا احتفاء بذلك. وبعدها بثلاثة أشهر فقط، كان يهود إسبانيا يخيَّرون بين أمرين رهيبين اثنين: إما التحوّل إلى المسيحية أو مغادرة البلاد. العديد من اليهود اختار العمادة، لكن 100 ألف يهودي إسباني بدأوا رحلة منفى جديدة في ما اعتبره يهود أوروبا أكبر كارثة منذ خسارة القدس في العام 70 بعد الميلاد.
اللاتسامح مع العرب واليهود على حد سواء كان يزداد في إسبانيا منذ فترة غير قصيرة. وتقول كارين أرمسترونغ إنه قبل ذلك، ولمدة 800 عام (هي فترة الحكم العربي في إسبانيا) كان في وسع المسيحيين والمسلمين واليهود أن يعيشوا جنباً إلى جنب بسلام في معظم الأحيان. معاً كانوا قادرين على إبداع ثقافة غنية ودينامية. لقد تمتّع اليهود الإسبان ببعث مجيد خلال القرن الثاني عشر. ومن إسبانيا، كان الغرب يستعيد الميراث الثقافي الذي فقده إبان العصور المظلمة. لكن “فيروسة” الحروب الصليبية كانت عصية على أي مقاومة، وإسبانيا ستكون مهتمة أكثر من أي دولة أخرى بالتخلص من أي عناصر أجنبية، خاصة تلك المتعلقة بالتعايش طويل الأمد بين الأديان الثلاثة” .
فاعلية “الفيروسة” استمرت في القرن الرابع عشر في إسبانيا وامتدت لتشمل اليهود الذين قبلوا العمادة والذين أُطلق عليهم اسم “المارانوس” (The Marranos)، والذين أصبحوا على ما يبدو مسيحيين مخلصين. وخلال 12 سنة، كان 13000 شخص، معظمهم يهود، يُقتلون بقرار من محاكم التفتيش. وفي العام 1499، أُعطي المسلمون الخيار نفسه بين العمادة أو الطرد واختار العديد منهم الانتقال إلى المسيحية وأطلق عليهم اسم “الموريسوس” ( Moriscos). وهم تعرّضوا إلى الاضطهاد نفسه الذي تعرّض إليه “المارانوس”.
عشرات آلاف اليهود الذين طُردوا من إسبانيا لجأوا إلى بلدان إسلامية كمصر وفلسطين وبلدان شمال إفريقيا حيث استمر التعايش اليهودي- الإسلامي. وقد تحوّلت مدينة صفد الفلسطينية إلى عاصمة حقيقية لصوفيي اليهودية وأنتجت قدّيسين ومفكرين مثل جوزف كارو وإسحق لوريا.
ويُلخّص ماكوين والشاهي تاريخ العلاقات اليهودية – الإسلامية كالآتي: “بالإجمال، ومن بداية الحقبة العباسية حين أصبحت بغداد عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، إلى القرن العشرين، كان تاريخ العلاقات الإسلامية- اليهودية تعايشاً سلمياً، في الحد الأسوأ، وتلاقحاً متبادلاً عالي الإنتاجية على كل المستويات، في الحد الأفضل” (7).
الكاتب الإسرائيلي إسرائيل شاحاك له وجهة نظر أخرى. فهو يقول إن طرد اليهود لم يكن معروفاً في البلدان الإسلامية لأنه كان مناهضاً للشريعة الإسلامية، فيما القانون الكنسي الكاثوليكي لم يكن يمنع هذا الطرد كما لم يأمر به. والمجتمعات اليهودية شهدت عصراً ذهبياً في العهود الإسلامية، بخاصة خلال عهد الإمبراطورية الفاطمية وعهد صلاح الدين الأيوبي والإمبراطورية العثمانية حيث كان وضع اليهود على أفضل حال. لكن شاحاك يرى، في المقابل، أن التسامح مع اليهود كان مرتبطاً فقط بصعود الأقليات إلى السلطة في هذه الممالك والإمبراطوريات (8).
بيد أن هذا تفسير غير دقيق. إذ لو كان صحيحاً، لشهد تحالف الأقليات – اليهود ردود فعل عنيفة (لاسامية بتعابير هذا العصر) فور إصابة الدول المسيطر عليها من الأقليات بالضعف أو التفكك. لكن هذا لم يحدث، واستمر التعايش الإسلامي – اليهودي بشكل غير منقطع تقريباً منذ العصر العباسي وحتى أوائل القرن العشرين. المسألة لم يكن لها علاقة في ذلك الحين بالديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، بل بعقيدة دينية متسامحة وقابلة بتعدد الأمم والثقافات. وهذه حقيقة معترف بها عالمياً وتاريخياً للحضارة الإسلامية.
(الحلقة التالية: “حساب مفتوح”.. حضاري)
مراجع:
1 – Islam in modern times: Denis Maceoin and Ahmad AL-SHAHI. P. 28
2- المصدر نفسه، ص 30.
3- المصدر نفسه، ص 31.
4- شاحاك، إسرائيل ، الديانة اليهودية وتاريخ اليهود، ص 161.
5- SARDAR, D.D., Science, Technology and development in the Moslem World, Croom Helm, London, 1977: 60.
6- MAC EOIN, D. and AL-SHAHI, A
مرجع سابق ص 31
7- المصدر نفسه، ص 32.
8- إسرائيل شاحاك، ورد في المرجع نفسه، ص 105 – 106.