منذ ذلك الحين، أقام الإحتلال مستوطنة المطلة على أراضٍ فلسطينية وأخرى لبنانية لأهالي كفركلا، وأنشأ على تلة رياق الملاصقة لها موقعاً عسكرياً منيعاً فوق الأرض وتحتها، ونصب كاميرات مراقبة تكشف العمق اللبناني بمسافة 25 كلم، لكنه كان قادراً على رؤية أهالي كفركلا، فيها أو من دونها بالعين المجردة، حتى وهُم في غرف نومهم، وهذا ما كان يجعلهم مكشوفين له ليل نهار كما المقاومين في كل حركة وصوت حتى، ولهذا كان أول ما فعلته المقاومة مع بدئها جبهة إسناد غزة هو فقأ تلك العيون الإسرائيلية على طول المواقع الحدودية، وهو ما استهزأ به ضعاف النفوس ممن لا يفقهون من الأمر شيئاً.
خسر الجنوبيون الحدوديون أرضاً لهم في شمالي فلسطين، وبقي للوارثين ثأر جغرافي مع المحتلين، وحق تاريخي دفين، استرجاعه وتحريره واجب في ذمّتهم ودَينٌ، ولو بعد حين، مثله في ذلك مثل سائر كل فلسطين، لكنهم أيضاً ورثوا أباً عن جدّ، قصة ذلك الرجل الذي كان وحده يملك بندقية في القرية كلها، لا أحد يعرف ما هي وكيف ومن أين حازها، ولكنهم يُجمعون على أن العصابات الصهيونية حاولت الدخول إلى القرية من عدة جهات لاحتلالها والفتك بأهلها، لتهجيرهم عبر المجازر، على غرار مجزرة قرية حولا المجاورة عام 1948 (90 شهيداً مدنياً) لكن ذلك الرجل صدّهم لوحده، وأجبرهم على التراجع بمفرده، عندما لجأ إلى خطة فطرية، وراح يطلق النار من حارة إلى حارة، متنقلاً ما بين حاراتها الصغيرات، فظنت العصابات الصهيونية أن في القرية قوة مقاومة لا يستهان بها، وتراجعت عن مهاجمتها، دون أن يلغي ذلك تكرار محاولاتها لاحقاً، وإن فشلت أيضاً، ولاحقاً مع تشكيلات متواضعة من المقاومة الفلسطينية والأحزاب اللبنانية من أبناء القرى الحدودية محاولين حراستها من تسللات العصابات الصهيونية الدورية في ما عُرفَ آنذاك بـ”لجان الدفاع الذاتي” التي قادها إبن كفركلا الشهيد القائد عبد الأمير حلاوي (أبو علي) واستشهد أمام منزله خلال إحدى مواجهاتها بالتصدي لتوغل هذه العصابات من مدخل البلدة الشمالي إلى حارتها الشمالية في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1975.
أذكر يومها، وكنت في التاسعة من عمري، أننا استيقظنا منتصف الليل على إطلاق نار كثيف عند بوابة فاطمة الحدودية التي تبعد عن بيتنا مئات الأمتار، وسمعت أبي يقول “إجوا اليهود” واستمر ذلك طوال ساعات الليل ونحن لا نعرف ماذا يحصل ولا مخلوق يجرؤ على أن يطل من نافذة؛ لم أعرف كيف طلع الضوء حتى ركضت مع الذاهبين إلى الحارة الشمالية على بعد 300 متر من بيتنا للتفرج على ما جرى، وما جرى كان بقع دماء وبقايا قطعٍ من أشلاء، لجنودٍ قُتلوا ونُقلوا، وهنا وهناك تناثرت قطعٌ من قماش طبي وشاش وأدوية عبرية لجنود أصيبوا وأسعفوا، وتحت “الجل” مكان استشهاد (أبو علي). يومها رأيت بأم العين وأدركت عن كثب، سقوط خطيئة أهلنا التربوية عندما كانوا يستخدموا ـ وعن غير وعي عالأرجح ـ فزّاعة “اليهودي”، فكلما عصيناهم قالوا “تعا إجالك اليهودي” حتى باتت العبارة كابوساً يقتحم نومنا ويؤرق أحلامنا وبات اليهودي بعبعاً ملازماً لطفولتنا الحدودية، لكن على قاعدة “الخبر ما ترون لا ما تسمعون” كانت تلك الدماء، دماء الشهيد حلاوي ودماء الجنود، بمثابة الممحاة الأولى لهذا الكابوس، التي غسلت عقولنا من وهم الخوف، وأيقنتنا أن العدو يمكن أن يُقتل إذا ما غزا الأرض، ولو بمقاومة توفرت بما تيسّر، فكيف بمقاومة بحجم مقاومة اليوم؟
توالت محاولات العصابات الصهيونية للتوغل تحت جنح الظلام، وتتالت معها عمليات التصدي لها بما أمكن من شباب ونوبات حراسة ليلية وبنادق ومتاريس بأكياس من رمل على مداخل الجهات الأربع، دون أن ينجح الغزاة في ولو في واحدة منها، ولم تمضِ ثلاث سنوات حتى كان الاجتياح الإسرائيلي عام 1978 باسم “عملية الليطاني” الذي أزاح الأحزاب الوطنية اللبنانية عن الحدود، وأخرجها الى ما بعد مجرى نهر الليطاني مقيماً “حزاماً أمنياً” عبر ضابط لبناني متقاعد برتبة رائد عميل يدعى سعد حداد، ومن بعده ضابط مماثل هو العميل أنطوان لحد، ومن بعدهما اجتياح 1982 الذي بلغ العاصمة بيروت باسم “سلامة الجليل”، وهي اللازمة التاريخية المتكررة لاجتياحاته، وها هو التاريخ يُعيد نفسه ما بين الأمس واليوم.
كان اجتياح “عملية الليطاني” 1978 تأسيساً لاجتياح “عملية سلامة الجليل” 1982، فالأول بذريعة إبعاد العمليات عن الحدود احتل فيه المرتفعات الحدودية المحاذية المشرفة على الشمال الفلسطيني شرقاً، وعلى الجنوب اللبناني غرباً وشمالاً، لتحرس حزامه الأمني بعملائه الذين اتخذهم درعاً بشرياً لجنوده. أما الثاني فكان بذريعة إبعاد صواريخ الكاتيوشا الفلسطينية واللبنانية 40 كلم عن الحدود والمستوطنات الشمالية إلى نهر الأولي على مدخل مدينة صيدا الشمالي، فإذا به يكمل الى العاصمة، ليبدأ بالتقهقر لاحقاً وتبدأ معه مرحلة المقاومة بعنوان صحيفة “السفير”: “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء” بالرغم من ارتكاب العدو وعملائه مجزرة صبرا وشاتيلا (3000 شهيد مدني فلسطيني ولبناني) ليوظف ذلك كله لبنانياً، رئاسة للجمهورية بالتعيين واتفاقية ذل بعنوان “17 أيار”، واحتلالاً استولد مقاومة وطنية- إسلامية طردت آخر جنوده منها عام 2000، لتختصر “السفير” ثلاثية الاحتلال والمقاومة والتحرير بعنوان “الجنوب يُحرّر الوطن”.
وبعد ست سنوات، حلت حرب تموز 2006، وعلى مدى 33 يوماً، لم يستطع العدو احتلال كفركلا مثلما عجز في جاراتها وأخواتها، بل صمد فيها 150 من سكانها ما بين رجال ونساء ممن ظلوا مع المقاومين يخبزون لهم “المرقوق” ويزودونهم من مؤونة بيوتهم، ويجمعون لهم الفواكه والخضار من حدائقهم، وهذا ديدن سائر القرى الحدودية والجنوبية التي وفرت بيئة حاضنة للمقاومة الى ما بعد انتهاء الحرب كان لها دورها في النصر وعودة مئات آلاف النازحين مرفوعي الرأس؛ عودة اختصرها عنوان “السفير” في اليوم التالي “النازحون يعودون إلى ديارهم مقاومين”. هكذا كانت نتائج الاجتياحات، وهكذا ستكون نتائج اجتياح اليوم إن لم يكن أكثر.
بعد 46 عاماً على اجتياح العدو المسمى “عملية الليطاني” (1978)، وبعد نحو أسبوعين من بدء عدوانه البري بالذريعة نفسها: “إبعاد حزب الله عن الحدود الى شمالي الليطاني”، تعلن الدولة اللبنانية عبر مؤسسة “مصلحة الليطاني” الرسمية أنّ الاحتلال الإسرائيلي “قد أخرج نهر الليطاني عن الاستثمار في الجنوب بعد غارةٍ استهدفت الناقل الرئيس الذي يجرّ أكثر من ٢٦٠ ألف متر مكعب من المياه في اليوم لري حوالي ٦٠٠٠ هكتار من الأراضي الزراعية على طول الساحل الجنوبي”، ما يكشف جانباً مهماً من أهداف العدوان الحالي الأبعد من كفركلا وأخواتها.
وما بين الاجتياحين، وتحرير عام ألفين، ثمة جيل جديد لم يعايش ما سلف، وثمة من ينسى الانتصارات وقد لا يُسقط النتائج على اجتياح اليوم، إذ تبلغ القلوب الحناجر. لكن على الأرض ثمة من يقاوم ويقاتل. اليوم، وبعد 49 عاماً على مرثية خالد الهبر المغناة إلى (أبو علي حلاوي) عام 1975، تقاتل كفركلا وأخواتها بلسان حالها:
“كفركلا قرية جنوبية
تجابه الموت بقبضة وحدتها
لتحيا وتحييك معها
كفركلا تغرس في الأرض بندقية
لتبقى القضية”.