ووجه الفرادة في ما سبق أنّ الاطلاع على العمل، من حيث كونه ليس خصيصة نادرة في صفوف الناشرين، بل هي صفة باتت دارجة ومنتشرة على سبيل الواقع أو الادّعاء؛ وإنّما تحوّل المبدع إلى ناشر بحكم الشعور بالمسؤوليّة الأخلاقيّة الصرفة حيال جودة الأعمال الأدبيّة والفكريّة والنقديّة؛ هي إسنادٌ إضافي للمبدع في طريقه ليصبح الاستثناء الشحيح، ولا يكون ناجزاً إلا إذا كنّا بإزاء هذه الانتقالة الآمنة والمشروطة. ثمّة كتّاب عديدون تحوّلوا إلى ناشرين مدفوعين بذكرياتِ بيروقراطيّة، وهذا مفهومٌ وحقّ أصيل يُمارس أو يُترك على سبيل الخيار، لكن النجاح في الوصول إلى تحقيق المعادلة الذهبيّة في الجمع بين الجودة في الاختيار والاعتصام بالمبدأ في الممارسة والتحرّر من الماضي في التعامل، يبقى الهدف الضخم الذي تبلغهُ القلّة وتدّعيه الأغلبية.
***
راهنت آسيا علي موسى، مديرة “دار ميم للنشر والتوزيع“، على الترويج الثقافي لبلدها الجزائر، فقدّمت أعمالاً كثيرة تُعرّف من خلالها الكتّاب العرب على المبدعين الجزائريين بخاصة الكتّاب الشباب. وظفرت الجزائر لقاء جهدها الشخصي بجوائز عدّة، منها الجائزة العالمية للرواية العربيّة (الامارات) وجائزة كتارا (قطر) وجائزة الطيب صالح (السودان) للرواية وجائزة الشارقة، فضلاً عن جوائز وطنية وإقليميّة عديدة. وإلى الآن تتفرّد “دار ميم” في الجزائر بهذا الترويج الثقافي للكادر البشري الوطني من خلال المشاركات الاستثنائيّة سواءً كان ذلك على مستوى النصوص أو عبر المساهمات المختلفة لكتّابها في المواسم الثقافيّة العربيّة.
***
ما الخلل بالضبط؟
تعاني “دار ميم” في شخص مديرتها التي تعمل بجهدٍ شخصي خالص دون إعاناتٍ أو مساعدة من الدولة أو من الجمعيّات من دون ذكرٍ للمساهمين، لأنّ عادة المساهمات من المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي بالإضافة إلى الأفراد الوازنين مادياً، تكاد تكون منعدمة في بلادنا العربيّة وبالأخص في الجزائر(…) قلت: تعاني السيدة آسيا مديرة الدار المذكورة آنفاً من جحودٍ حقيقي يظهر في عدم اتّساق التعامل معها مع حجم ما قدّمتهُ لبلدها، ومؤخراً صارت محاولات تحييدها عن المشهد الثقافي، إثر الضجة الكبيرة التي أحدثتها رواية “هواريّة” للكاتبة إنعام بيوض، أمراً بارزاً إنْ لم يكن مُنظمّاً، لا سيما أنّ الكثير من المثقفين تحوّلوا فجأةً وبحكم الانتخاب البيئي إلى حرس أخلاقي وأحياناً إلى أرثوذكس ديني!
وبلمحِ البصر تناسى القوم كل الأفضال التي كانت، وتنادوا إلى حالةٍ عميمة من النكران الجماعي باستثناء القلّة القليلة والبقية الباقية، فبعضهم ساهم بالصمت والآخر استفاد من العاصفة وأطّر اسمهُ في وسائط التوصل الاجتماعي وقاد حملة شعواء كشفت عن ضحالة كبيرة وتصيّد ساذج للساحرات في النصوص والفصوص.
صار النشر في بلادٍ عربيّة ـ بطولها وعرضها تشكّل فيها القراءة الدرك الأخير من الوهم ـ يُعدّ مغامرةً كبيرة، لا سيما إذا كان هذا الناشر أخلاقياً جداً وتقودهُ أحلامٌ كبيرة، لسان حاله في ذلك ما قالهُ أدونيس: “متدثّراً بدميّ أسير/ تقودني حممٌ ويهديني ركامُ”
نحن ندفع ثمن تريّف المثقفين بأضعاف ما دفعتهُ المدن، أو ربما نتجَ عن ترييف المدن تحوّل مثقفيّ هذه المدن إلى أدواتٍ بدائيّة تكرّس من خلال عصابها إلى حلول القرية مكان المدينة. فلنفهم جيداً؛ هنالك إدراكٌ مشوّه في فهم هذه المسألة بالذات: كانت المدن عبارة عن أرياف تطوّرت فصارت قرى ثم تحدّثت فأصبحت مدناً. الريف ليس جغرافيا بلّ تفكير، لذلك يتأسّس الريف على التماثل والتكرار وانعدام الجوار وتقليص الفرد وتكريس الجماعة، فضلاً عن الثقافة الواحدة التي تستمر بشرط الاستقرار وطرد الاختلاف. المدنيّة مذهبٌ فردي يحترم الجماعة ولكنّه يشترط في الجماعة حماية حقّ الفرد في التفرّد والتفكير الخاص. المدنية هي انعدام اليقين في وجود خيار مطلق الصحّة؛ هي التغيّر والتغيير والتقبّل والاختلاف والتعاقد والقانون.. لذلك قد تجدُ مدنياً في وسط المدينة بتفكير قرويّ في أدغال الريف؛ وريفيّ في تلال السهول وأغوار الجبال بتفكيرٍ مدنيّ في تماس الاحتمالات المتوقّعة!
***
جاءت السيد آسيا علي موسى من الابداع والترجمة رأساً إلى النشر: ففي عام 2001 نشرت عن منشورات اتحاد الكتّاب الجزائريين مجموعة قصصيّة بعنوان “عفواً.. إنه القدر”، ثم أتبعتها في سنة 2003 بـ “أحلام مصادرة” (اتحاد الكتاب العرب)، ثم تلتها بـ”رسائل اللحظة الأخيرة” في سنة 2005، فـ”ورسائل إلى آدم” عام 2013. وعملت على ترجمة روايتيْ “باب القنطرة” للكاتبة الجزائريّة نجية عبير و”عيد ميلاد” للكاتب الجزائري مولود فرعون عام 2007 من الفرنسيّة إلى العربيّة.
***
قدِمت آسيا علي موسى من الحقل الأكاديمي وتحديداً من العلوم الدقيقة (قسم الرياضيّات) إلى الكتابة والتصوّر، فكان هذا الزواج الثقافي متميّزاً للغاية، ذلك أنّ الرياضيّات كعلمٍ يقوم على البرهان بأشكالهِ، لا سيما القسم المتعلّق بالوجه المناسب لحياة الكاتبة وخياراتها المفتوحة على المغلقات الممكنة، وأقصد البرهان بالعكس النقيض، حيث يمكن استئناف العلاقة مع المتعرّج بالقليل من الاستقامة، وإعادة تعريف الخطأ بأشكالهِ القابلة للتعدّد بالكثير من التصحيح والتعديل. هو أيضاً، أيّ علم الرياضيّات، يُمثّل نقاط البدء الكثيرة على شرط اختلاف الحيز والمسافة، كما كان أرسطو يُفلّسف هذا العلم ويمنحهُ أبعاداً أشمل من الاعتبارات التقليديّة لدقّة الرقم واكتفائه بشكله البرهاني، لذلك كانت مراحل آسيا ليست غريبة البتة عن هذه المروحة الواسعة من الحسابات والتكهنات والبراهين والتناقضات والمزيد المتكاثر من الشيّء ذاته واستحالة العثور على نهاية حاسمة للمعطيات الرخوة..
لا يمكن الفصل البتة بين المعارف التي نتلقاها في شكلها المنهجي (الدراسة الأكاديميّة) والمسارات التي نختارها أو بالأحرى تختارنا في حياتنا، لذلك بدا أنّ النشر والابداع والرهان على المختلف في المساحات المتشابهة صعباً وعويصاً، ويُدفع بجهد الجسم ومزاج النفس وضرائب الأعصاب. ومن أجل ذلك تراءى للسيدة آسيا أن تخوض هذه المهمة وتستمرّ فيها برغم ما تُكلّفه هذه المهمة من مشاقّ وعواقب لمن يتجاوز طموحه الشخصي ثنائيّة الربح والخسارة.
***
صار النشر في بلادٍ عربيّة ـ بطولها وعرضها تشكّل فيها القراءة الدرك الأخير من الوهم ـ يُعدّ مغامرةً كبيرة، لا سيما إذا كان هذا الناشر أخلاقياً جداً وتقودهُ أحلامٌ كبيرة، لسان حاله في ذلك ما قالهُ أدونيس: “متدثّراً بدميّ أسير/ تقودني حممٌ ويهديني ركامُ“.
يبقى أن أستدرك في نهاية هذه المقالة درءاً لتعارض الحكم مع الهوى: لا علاقة مهنيّة تربطني بالسيدة آسيا، فقد نشرتُ ستّة كتب في الفكر والسياسة والقانون في دور نشر أخرى، وليست لديّ مشكلة في النشر، وإنّما علاقتيّ بها مبنيّة على صداقة عميقة واحترام كبير وتقدير جليل وثقة متأصّلة في كونها تُمثل استثناءً شحيحاً في زمن القواعد الدارجة، فقد خبرتُ ضميرها اليقظ أكثر من مرة، فألفيتهُ ضميراً يُمثل الأمل الذي أرجوه من النشر والكتابة والابداع والنقد.. وذلك كلهُ يُحفّز على الإضاءة والكشف والبيان لهذا النوع من المخلوقات المُهدّدة بالانقراض من أجل حثّ الدولة على حمايتها. فعسى أن نكون على صواب، وكما قال أوسكار وايلد واصفاً حالنا جميعا: “عندما أكون على صواب لا أحد يتذكّر، وحينما أكون على خطأ لا أحد ينسى”.