عشتُ أيضاً، طوال هذه السنوات وسنوات عديدة أخرى أعاني من احتقان شديد في الحلق والتهاب في اللوزتين. أذكر طبيباً آخر لازمني حتى أوائل عقد الخمسينيات من القرن الماضي عندما أجبرته الظروف السياسية على الرحيل من مصر إلى أوروبا وربما منها إلى إسرائيل. أذكره رجلاً محبب الوجه وأنيق الملبس يهودي العقيدة ويسكن حي السكاكيني، وكعادة أطباء كثيرين في ذلك الوقت كان متعدد التخصصات ولا يرفض الدعوة لزيارة المرضى من الأطفال في مواقع سكناهم، أذكره يدخل إلى الغرفة التي أرقد فيها، يضع حقيبته على المائدة القريبة من فراشي ويخرج منها كيساً من الحلوى ومعه وعد بأن يتركه لي قبل أن يغادر.
***
استمرت معاناتي نتيجة احتقان اللوزتين تتسبب في تعدد حالات تغيبي عن المدرسة وحتى سنوات الدراسة الجامعية وبعدها خلال سنوات العمل الدبلوماسي. رفض أبي وأنا من بعده إجراء عملية استئصالهما إلى أن هاجمني الاحتقان بعنف غير مألوف وأنا في العاصمة التونسية حين كانت تستضيف جامعة الدول العربية. كانت إحدى المرات التي اضطرت فيها زوجتي إلى نقلي للمستشفى، حيث قرّر الأطباء بحزم ضرورة إجراء عملية استئصال اللوزتين فور عودة حال الجسم إلى طبيعته. وبالفعل جرى الاستئصال عند العودة النهائية إلى القاهرة، أي بعد أن تجاوزت نهاية العقد الرابع من عمري وتحت ضغط عائلتي الصغيرة وبخاصة عندما قرّر الأطباء أن استمرار تفاقم حالات الاحتقان قد يتسبب في تهديد حقيقي لحياتي.
***
لم يكن احتقان اللوزتين المرض الوحيد الذي أقعدني الفراش لمدد ومرات عديدة فقد عانيت من آلام في فقرات الظهر منذ أن أصيبت عندما أخطأت في قذف الكرة الثقيلة أثناء مباراة في لعبة “البولينج”. كنت أقضى إجازة قصيرة في زيارة لفاضل وهيبة القائم بأعمال سفارتنا في مدينة مونتيفيديو عاصمة الأوروجواي وكانت تبعد عن بيونس آيرس، العاصمة التي كنت أعمل فيها، عشرات الأميال البحرية، لا أكثر. دعاني الزميل خلال الزيارة لقضاء نهاية الأسبوع في منتجع لعلّه الأشهر في أمريكا اللاتينية، إذ تؤمه كل صيف العائلات الأكثر ثراء والأرقى مكانة في دول القارة. هناك جمعتنا بفريق من شباب الأوروجواي والبرازيل رحلات وسباقات إحداها كانت مباراة في لعبة “البولينج”. حينها أسأت تقدير قدرة أو مرونة فقرات ظهري فوقع المحظور.
***
قيل في توصيف الحالة أن غضروفاً خرج من مكانه ليهاجم العصب في كل حركة أؤديها أو حتى أنتويها، ليتسبب في آلام لم أتصور يومها ولا في أيامي اللاحقة أن أحداً قبلي يُمكن أن يكون تعرض لها وعاش بعدها. نُقلت من مونتفيديو إلى بيونس آيرس محمولاً وقضيت في المستشفى أسبوعين خرجت بعدهما ومعي نبوءة من الطبيب المعالج. تنبأ الرجل بآلام مريعة حتى نهاية العمر، آلامٌ لن تتوقف، تهدأ بالأقراص والحقن المخدرة لتعود صاخبة وعنيفة فور انتهاء مفعولها. قال إن رمية كرة “البولينج” مزقت عضلات فتغيرت معالم واختلت توازنات وأخرجت غضاريف من مخابئها فاختفت أو كادت تختفي إلى الأبد مرونة جسد من قمة رأسه إلى أصابع قدميه.
***
أشهد بأن الطبيب الشاب كان وزملاؤه كرماء بالمتابعة الشخصية والعائلية إلى أن غادرت الأرجنتين وأجريت في القاهرة الجراحات العديدة التي أوصوا بها. أجريتُ عملية كبرى في أحد أكبر مستشفيات القاهرة وهناك قضيت ما يقارب الشهر. وبعد عامين أو أكثر أجريت لي بعد تردد شديد من العائلة عملية أخرى في شقة بمبنى تجاري في حي الروكسي وأخرى في مستشفى في موقع آخر من مصر الجديدة تملكه جالية أجنبية.
***
الغريب في حكايتي نهايتها. الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على آخر جراحة في ظهري، فجأة وقد اقتربت من التسعين وبدون تهليل أو ابتهاج مبالغ فيه، أشهد باختفاء كل الآلام وعودة العود إلى استقامته والرؤية إلى صفائها بعد عقود، بل عمر، من العذاب.
***
كلما حكيت لأحد عن ضخامة تكلفة العلاج بالمستشفيات الخاصة في مصر، عادت بي الذاكرة إلى الفاتورة “التاريخية” التي وردت لي بالبريد العادي على عنواني بالسفارة المصرية في بكين والصادرة من قسم الحسابات بالمستشفى الكبير في بكين متضمنة تكاليف علاج زوجتي عن فترة حملها وبالتحديد منذ ليلة إصابتها بالإعياء الشديد، نتيجة السفر الطويل وهي في أوائل حملها من نيودلهي إلى بكين، إلى يوم ولادة ابننا سامر، أي على امتداد تسعة شهور من الإشراف الدقيق والزيارات المنزلية وزياراتها المتعددة إلى المستشفي ثم الولادة تحت إشراف مجموعة متميزة من الأطباء والإقامة لمدة أسبوع بعد الولادة، أتذكر انبهاري بالرقم المسجل على الفاتورة محسوباً بالعملة الصينية، وكان يعادل ما يقترب من مبلغ أربعة عشر جنيهاً مصرياً لا غير. رفضت بكل العزيمة أن تتحمل وزارة الخارجية هذا المبلغ وأصر السفير اللواء حسن رجب على تحميله لها وتسجيله في وثائقنا الرسمية باعتباره، حسب رأيه، نموذجاً آخر على ما حقّقته الصين على يد الرئيس ماو تسي تونج من إنجازات اجتماعية.
***
يُحكى أنني، وكنت اقتربت من الستين، استيقظت صباح يوم جمعة على آلام مبرحة في صدري. لحسن حظي وحظ من حولي ووسط ارتباك شديد في منزلي، اتصل فهمي هويدي الزميل في “الأهرام” للدردشة الصحفية التي كنا نمارسها بين حين وآخر، وبالمناسبة عدنا نمارسها الآن وكلانا على أبواب التسعين. المهم في حكايتي أن الأستاذ فهمي توسط لنا لدى الدكتور مصطفى محمود ليرسل لنا سيارة إسعاف ويحجز مكاناً في المستشفى الذي يملكه وينفق عليه. قيل لي في الأيام التالية أن تدخل الزميل فهمي من جهة ثم تدخل آخر من الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد منتصف الليل ليحصل للمستشفى على حقنة نادرة، كل منهما في حينه مدّ في عمري.
***
نسيت أن أذكر أنني نشأت في عائلة لم تنجب قبلنا من صار طبيباً أو طبيبة. قرّرت الأقدار في نهاية الأمر أن ينضم ابني إلى سجلات هذه المهنة ومن بعده انضم آخرون. لدينا الآن سامر وفريد ومحمد وباسل، كلهم أطباء في عائلتي الممتدة قليلاً، وكلهم بدون استثناء منتشرون بين الولايات المتحدة وكندا والإمارات العربية المتحدة، وهم متوزعون على التخصصات التالية: الجراحة وأمراض النساء والسموم والتحاليل الطبية. إن نسيتُ فلن أنسى أنني عشت أفاخر بهم القوم، أغراباً كانوا أم أقارب. أشعر وأنا معهم شعور من سدد ديناً كبيراً لأطباء كثيرين من شتى الجنسيات والثقافات ممن عالجوني وعالجوا من أحببت على امتداد حياتي.