رهيبةٌ هذه الجملة التي اجترحها الرحّالة العربي الشهير “ابن بطّوطة”، بعدما اجتاز صحراءً شاسعة من بلاد الشام وصولاً إلى “تبوك” في السعوديّة. هناك شرب الماء من عينٍ فيها، بعد ساعاتٍ طويلة من العطش. فقال جملته ليختزل فيها مشقّة اجتياز تلك البيداء، والنجاة منها في نهاية المطاف.
منذ منتصف القرن الماضي، “أحيت” غالبيّة الأنظمة العربيّة عبارة “ابن بطوطة”، كي تُدلّل على ما مارسته (وتمارسه) من قمعٍ وتعذيبٍ للإنسان العربي في سجونها. تلك السجون التي صُمّمت لتكون مقابر للأحياء. فضاءات للجريمة. منظومات جحيميّة من العقاب والعيش الّلاآدمي. فالداخل إليها مفقود، ولا يُعرَف إنْ كان سيخرج. في حين تُكتَب للخارج منها حياةٌ جديدة.
وإذا كانت الحركات الاحتجاجيّة والانتفاضات الشعبيّة والحروب الأهليّة التي عصفت بالعالم العربي (بدءًا من العام 2010) قد أماطت اللثام عن استعمال الأنظمة المفرط والممنهج لتعذيب المعارضين، فإنّ عمليّات التعذيب في سجون سوريا فاقت كلّ التصوّرات. بحيث ارتقت، بوسائلها المروّعة، إلى أن تصبح “استراتيجيّة النظام” الأساسيّة للحُكم. فلقد استخدم نظام الأسد التعذيب (والتلذّذ بالتعذيب؟)، كأداةٍ سياسيّة تمكّنه من السيطرة على مجريات الأحداث. وكلّما شعر بأنّه مهدَّد في سلطته. وهو يُطلق صفة “الأعداء” (الداخليّين أو الخارجيّين) على كلّ معارضيه. كائناً مَن كانوا. ويتفنّن في قمعهم. متناسياً العدوّ الحقيقي والأصيل الذي ضبط معه، منذ الـ 1974، إيقاع العداوة بشكلٍ يثير الريبة! وصارت ردود فعل أركان النظام السوري المخلوع على الاعتداءات الإسرائيليّة مدعاةً للسخرية.
بحسب شهادات مَن خرج إلى الحريّة قبل سنوات من سجون المزّة وتدمر والسويداء وعدرا و..غيرها، فإنّ ذكرياتهم بُنيَت على الأصوات أكثر من الرؤية. وأنّهم لا يستطيعون أن يُخمِدوا في رؤوسهم، صراخ التعذيب المتصاعد، كلّ ليلة تقريباً، من الزنازين الانفراديّة. صراخ، يُحوّل رجالاً مُسنّين إلى أطفال
ونعود إلى السجون والحكايا التي قصّها الخارجون إلى الضوء من أقبيتها. والتي كانت آلاف الصور المسرَّبة لها، في الـ 2013، تُظهِّر وحشيّة النظام. فبعد ساعاتٍ قليلة على سقوط بشار الأسد، استقطبت السجون السوريّة أنظار العالم. بعدما تكشّف للعلن، ما كان يحصل فيها من ويلاتٍ وفظاعاتٍ بحقّ المعتقلين. ولا سيّما، تلك الجرائم ضدّ الإنسانيّة التي كانت تُرتَكَب في سجن صيدنايا العسكري شمال دمشق، والذي يُعَدّ من أكبر السجون السوريّة. فلقد عُرِف هذا السجن، منذ تشييده عام 1987، بأنّه الأسوأ والأكثر قسوةً لكونه يضمّ المعتقلين السياسيّين والمدنيّين المتّهمين بمعارضة النظام. وكان مجرّد التلفّظ باسم صيدنايا، كفيلاً ببثّ الرعب في نفوس السوريّين. كيف لا، وقد وصّفته “منظّمة العفو الدوليّة” قبل سنوات بـ”المسلخ البشري”. بالسجن الذي “تذبح فيه الدولة السوريّة شعبها بهدوء”.
وشعوراً منّا مع ضعاف القلوب، لن نتوسّع بتعداد صنوف التعذيب التي كان يمارسها الجلاّدون في صيدنايا. لكن قد يكون أفظع من السلق بالمياه الساخنة والصعق بالصدمات الكهربائيّة ونزع الأظافر والاحتجاز مع جثث المعتقلين والإعدامات الجماعيّة، هو إجبار السجناء على التصرّف كالحيوانات. نعم. فلقد كانت تُقام، في ذاك السجن، عروضٌ ترفيهيّة يحضرها ضبّاطٌ وبعضٌ من “رجال” الدولة السوريّة. وخلال تلك العروض، كما تروي شهاداتٌ للناجين، يُؤمَر السجين بأن ينبح كالكلب. أو يموء كالقطّة. أو يصيح كالديك. ويا ويله وسواد ليله، إذا فشل في التقليد! ماذا بعد؟
ظهَّرت مقاطع الفيديو التي التقطتها الكاميرات وانتشرت كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعيّة، مشاهد قد لا تتحمّلها أفلام الرعب الهوليوديّة! إذْ يتحدّث السجناء عن دوّامةٍ لا تنتهي من التعذيب. من لحظة القبض عليهم، إلى لحظة ترحليهم بين مراكز الاحتجاز. فالتعذيب يُعتبَر جزءًا من “حفلة الترحيب” بهم. تصوّروا، يا أصدقاء، أنّ بعض الخارجين إلى الضوء، نسي مثلاً لماذا سُجن! وهناك مَن لم يستطع، حتّى، تذكّر اسمه! ويُظهِر أحد الفيديوهات، بضع سجيناتٍ جلسن بعيداً ورفضّن أن يُفكّرن بمغادرة الزنزانة من شدّة الخوف. وفي فيديو آخر، يظهر شبّانٌ محرَّرون مصعوقون لا يصدّقون كيف نجوا في اللحظات الأخيرة. فلقد كانوا سيُعدَمون في اليوم نفسه لإسقاط النظام!
“أنا يا لينا أحمل مقبرة كبيرة في داخلي. فهناك شيءٌ في داخلي يرفض الفرح. يرفض، لأنّه لا يستطيع أن يقفز فوق جدارٍ عالٍ من الحزن المتراكم”. هكذا يُعبّر بطل رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة الذي أمضى 13 سنة في سجن تدمر. وهنا يطرح سؤالٌ كبير نفسه: يا ترى، كيف سيخرج السوريّون من كلّ تلك المقابر في داخلهم؟
بحسب دراستيْن، واحدة أستراليّة والثانية دانماركيّة، قد تمرّ أشهرٌ وسنوات قبل أن تظهر على الناجين من التعذيب الانفعالات والأعراض النفسيّة وحتّى الجسديّة. ولا تبدأ ردود فعلهم في الظهور، إلاّ عندما يتوفّر لهم بعض الاستقرار. إذْ تستنفذهم الطاقة الهائلة التي يبذلونها من أجل تدبّر أمورهم والهرب من بلادهم، فضلاً عن الاهتمام بسلامة عائلاتهم ولمّ شملها. وقد يشعرون بالذنب، لأنّهم يعتبرون أنفسهم مسؤولين عمّا تعرّضت له عائلاتهم لدى اعتقالهم. كما ويلازم الناجي من التعذيب، شعورٌ آخر بالذنب. فهو يسأل نفسه، على الدوام: لماذا نَجوْت أنا، بينما الآخر مات؟ من هنا، تزيد احتمالات الانتحار لدى الخارجين من سجون التعذيب.
ولكن، كيف يتذكّر الناجون عذاباتهم وكيف يروونها؟
بحسب شهادات مَن خرج إلى الحريّة قبل سنوات من سجون المزّة وتدمر والسويداء وعدرا و..غيرها، فإنّ ذكرياتهم بُنيَت على الأصوات أكثر من الرؤية. وأنّهم لا يستطيعون أن يُخمِدوا في رؤوسهم، صراخ التعذيب المتصاعد، كلّ ليلة تقريباً، من الزنازين الانفراديّة. صراخ، يُحوّل رجالاً مُسنّين إلى أطفال. ويتذكّر أحد الناجين ويروي قائلاً: “إنّ أفظع اللحظات كانت لدى سماعنا الصوت الكئيب لدبيب الأقدام الحافية في العنابر المجاورة. أي عندما كان السجّانون يقومون بتفتيشها. كان صوتُ وقْع العصي والجواريش على ظهور زملائنا في تلك العنابر، ونحن في انتظار دورنا، أفظع من الوقت الذي كان يجري فيه تفتيش عنبرنا”!
صحيحٌ أنّ النظام السوري في ولايتيْ الأسد الأب والإبن لم يبتدع أسلوب التعذيب في السجون، كما يسارع مؤيّدو هذا النظام للتأكيد تبريراً لما يسمّونه “تجاوزات”. لكنّ هذا النظام، قد يكون من أكبر المستثمرين في أجهزة القمع ومؤسّساته، والتي تمثّل السجون أبرز مظاهرها.
بحسب كتاب “الناجون من التعذيب”، تمارس أنظمة نصف بلدان العالم، تقريباً، التعذيب في سجونها. بدءًا من دول أميركا اللاتينيّة، مروراً بدول آسيا وأفريقيا، وصولاً إلى بلدان الشرق الأوسط. والمفارقة العظمى، كما تُبيّن الأرقام، أنّ أسوأ السجون سمعةً في العالم توجد في الولايات المتحدة الأميركيّة. فهذه البلاد “الرمز لدول العالم الحرّ”، والتي تتنطّح لنشر الديموقراطيّة وتعميمها في العالم، تُمارَس في سجونها أحدث الأساليب المُبتكَرة في التعذيب! ولكنّ السؤال الذي يقضّ المضاجع هو: لماذا هذا الإصرار على معاملة البشر كالعبيد في العصور الوسطى (بخاصّة في السجون العربيّة)؟
يتذكّر أحد الناجين ويروي قائلاً: “إنّ أفظع اللحظات كانت لدى سماعنا الصوت الكئيب لدبيب الأقدام الحافية في العنابر المجاورة. أي عندما كان السجّانون يقومون بتفتيشها. كان صوتُ وقْع العصي والجواريش على ظهور زملائنا في تلك العنابر، ونحن في انتظار دورنا، أفظع من الوقت الذي كان يجري فيه تفتيش عنبرنا”!
بالتأكيد، ليس هناك من أجوبةٍ على هذا السؤال. فالأمر يتطلّب دراسةً معمَّقة في علم النفس الجنائي. دراسة، تبحث وتحلّل من منظورٍ سيكولوجي في أسباب وخلفيّات السلوك الإجرامي لكلّ طاغيةٍ من الطغاة الذين عرفهم تاريخ البشريّة. فكلّ المعارضات التي استدعاها الحُكم المتعسّف لبعض الأنظمة في العالم، وُجِدَت أساليب للتصدّي لها. وبأكثر من شكلٍ وطريقة. أمّا “التقنيّات” التي يستخدمها جلاّدو أنظمتنا العربيّة لتحطيم ضحاياهم وتشويهها نفسيّاً ومعنويّاً قبل قتلها، فيجب مقاربتها من زاويةٍ مختلفة تماماً.
في كتابه “المراقبة والمعاقبة”، يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو: “القواعد القانونيّة هي إحدى أدوات السلطة الأكثر فعاليّة. وذلك من خلال قيامها بتعريف الجرائم وتثبيت سلّم العقوبات وتحديد المكلّفين من الهرم البيروقراطي بتنفيذ العقوبات. لكن، ومع تغوّل السلطة تدريجيّاً بمرور الزمن، أصبح كلّ ذلك لا يكفي. فجسد المخطئ لا يكفي لردعه وهزيمته بالكامل. بل يجب تحطيمه تحطيماً جسديّاً ونفسيّاً وشعوريّاً. لكي يتحقّق الترابط بين مفهوميْ المراقبة والمعاقبة. فبارتباطهما يثبت، في عقل المخطئ وفي عقل كلّ إنسانٍ، أنّ المراقبة تستلزم العقاب. لأنّ السلطة تعرف كلّ شيء”.
الكلمة الأخيرة هي كلماتٌ للرئيس السوري السابق بشار الأسد. فهو يقول أوّلاً، إنّه “اختار التخصّص في طبّ العيون لأنّه لا يحتمل رؤية الدماء على مبضع الجراحة”! ويؤكّد ثانياً، أنّ “مَن يهرب من بلده هو، عمليّاً، إمّا ضعيف وإمّا سيّء. لأنّ الشخص الوطني والجيّد، برأيه، لا يهرب ولا يفرّ خارج وطنه”. كلامٌ، يبقى أيُّ تعقيبٍ عليه قاصراً عن مستوى فظاعته و.. قرفه. فإقتضى عدم التعليق.