هكذا استهلّيتُ مداخلتي، في المؤتمر الدولي الذي انعقد في مدينة فاس المغربيّة يوميْ 4 و5 كانون الأوّل/ ديسمبر الجاري، تحت عنوان “الصحافة الاستقصائيّة ومنهجيّة البحث العلمي في تغطية الحروب والنزاعات”. وبتنظيمٍ مشترك للمؤتمر بين “جامعة سيدي محمد بن عبد الله” و”مركز الجزيرة للدراسات”، حضر اثنان وعشرون باحثاً، من أكاديميّين وصحافيّين وخبراء، من تسع دولٍ عربيّة هي (عدا المغرب): تونس، مصر، السودان، اليمن، العراق، الأردن، فلسطين ولبنان. فعرضوا وناقشوا، على مدى يوميْن، القضايا المحوريّة المتعلّقة بالصحافة الاستقصائيّة.
لقد ركّزت المداخلات على دور هذا النوع الصحفي في كشف الحقائق وتوثيقها، في ظلّ الحالة الإعلاميّة الدوليّة المُسْتَقْطَبَة وما تفرضه من تحدّياتٍ على وسائل الإعلام. ولا سيّما، لجهة قدرة الصحافيّين على الالتزام بالمبادئ المهنيّة في استقصاء الحقائق في أجواء التنافس الحادّ للأجندات الدوليّة وتعارُض مصالح المؤسّسات الإعلاميّة.
طرح المؤتمِرون الأسئلة الكبيرة حول قضايا جوهريّة تتعلّق بالصحافة الاستقصائيّة، وحدود دورها في تسليط الضوء على النزاعات وتوثيق الجرائم والانتهاكات، فضلاً عن الوظيفة التي تقوم بها في ظلّ التغيّرات والصراعات التي يشهدها العالم، بعامّة، والمنطقة العربيّة، بخاصّة. وهم شدّدوا على إسهام هذه الصحافة (غير المتّفَق بعد على هويّتها للإشارة) في تعزيز العدالة الدوليّة من خلال تبنّي منهجيّاتٍ علميّة مبتكرة.
إذْ تؤكّد الدراسات الحديثة، على أنّ الصحافة الاستقصائيّة باتت تُمثّل تيّاراً ومدرسة مستقلّة. لها مناهجها وأدوات العمل الخاصّة بها. وهناك اتفاقٌ (يكاد يكون عامّاً بين الباحثين)، حول ضرورتها وأهميّتها وصعوبتها ومتطلّباتها الاستثنائيّة. وبأنّها تُعَدّ النمط الصحفي المميّز لكشف الفساد والتعسّف والانحرافات والارتكابات ومواجهتها. فالصحافيّون الاستقصائيّون، يُكرّسون حياتهم للتنقيب عن مُخبرين ومصادر لمعلوماتهم، في حقول الألغام المزروعة بالمجرمين والقَتَلة والمافيات وتجّار الأسلحة والممنوعات ومُبيّضي الأموال والفاسدين على أنواعهم …إلخ. ولهذا، ربّما، عبّر أحد المنظّرين الفرنسيّين في علوم الإعلام قائلاً: “إنّما تمثّل الصحافة الاستقصائيّة نُبْل المهنة”. فالتجارب أثبتت، لا بدّ من الاعتراف، أنّ الأنواع الصحفيّة الأخرى لا تلتزم بالضوابط والمعايير والأخلاقيّات التي تفرض نفسها على الصحافة الاستقصائيّة.
وعندما نتكلّم، في وقتنا الحاضر، عن “صحافة الاستقصاء والتحرّي”، نكون نعني بها، بحسب أهل الاختصاص، صحافةً تحتلّ أعلى مراتب المهنيّة الإعلاميّة وأخطرها على الإطلاق (أخطر من الصحافة الحربيّة حتّى). وتتحدّد مع هذه الصحافة، بدرجةٍ كبيرة، قوّة وسائل الإعلام ومكانتها ومهامّها كـ”سلطة رابعة” في المجتمعات. تتجسّد رسالتها في تحقيق المصلحة العامّة وحماية حقوق الناس وحراسة مصالحهم. ومن المهمّ التوضيح، في هذا الصدد، أنّه مع مطلع الألفيّة الثالثة، وارتباطاً بالحديث عن الفساد واستخدامه في العُدّة المفاهيميّة الجديدة التي روّجت لها النيوليبراليّة، تعاظمت الحاجة إلى العمل الصحفي الاستقصائي بهدف خدمة التغيّرات الهيكليّة التي طرأت على بنية المجتمع. واستدعت هذه الحاجة، حالةُ الفوضى، غير المسبوقة، التي رافقت (وترافق) التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاتصاليّة (الرقميّة) في المنظومات الإعلاميّة، هذا فضلاً عن اهتزاز أخلاقيّات المهنة التي أضحت محكومةً بتنافسٍ محموم لاستمالة الرأي العامّ، بأيّ ثمن.
توزّعت محاور مؤتمر فاس على خمس جلسات. واستُهلّت المناقشات، بتسليط الضوء على بعض التجارب العربيّة للصحافة الاستقصائيّة من خلال مداخلتيْن من مصر وتونس، البلدين اللذيْن يُعتبران سبّاقيْن في هذا المجال. وأجمع معظم المتداخلين، على تأخّر الصحافة الاستقصائيّة في الدول العربيّة لأسبابٍ وعوامل عديدة. بحيث لا يمكن لهكذا صحافة أن تنشأ، إلاّ في ظلّ قدْرٍ كافٍ من الحريّة والديمقراطيّة اللتيْن توفّران الحماية للصحافيّين ومصادرهم والمؤسّسات التي يعملون فيها.
ومعلومٌ، أنّ غالبيّة الأنظمة العربيّة تعاني من “ضعف المنسوب” في الديموقراطيّة والحريّة، في السياسة كما في التشريع والقضاء، ولا سيّما ما يتّصل بحريّات التعبير والنشر والحصول على المعلومات.
وتمحورت المداخلات (التي ارتكزت إلى أوراقٍ بحثيّة قدّمها المشاركون قبل انعقاد المؤتمر)، حول عناوين رئيسيّة عديدة، أبرزها:
– المسؤوليّة الاجتماعيّة للصحافة وضرورة إعادة صياغة دورها لتعزيز قدرتها على كشف الفساد والانحرافات، مع بناء خطابٍ إعلامي يخدم المصلحة العامّة بعيداً عن الإثارة السطحيّة.
– أهميّة البيئة التشريعيّة في دعم الصحافة الاستقصائيّة، والحاجة إلى أطر قانونيّة تضمن حريّة التعبير وتحمي الصحافيّين، مع تحقيق التوازن بين دور الإعلام الرقابي والحفاظ على المصلحة العامّة.
– اعتبار الصحافة الاستقصائيّة حجر الزاوية في تحقيق العدالة الاجتماعيّة والسياسيّة، لما توفّره من أدواتٍ دقيقة لكشف الحقائق والإضاءة على القضايا التي تهمّ الناس.
– أولويّة تعزيز الحوار العلمي حول مستقبل الصحافة الاستقصائيّة على وقْع التحوّلات الرقميّة المتسارعة، والعمل على مواجهة التحدّيات، في هذا الصدد، واستثمار الفرص المتاحة لبناء مجتمعاتٍ أكثر شفافيّة وإنصافاً.
– التأكيد على ضرورة توفير تدريبات متخصّصة للصحافيّين الاستقصائيّين، بهدف تزويدهم بمهاراتٍ تمكّنهم من استثمار القدرات الهائلة للتقنيّات الرقميّة بطريقةٍ أخلاقيّة ومسؤولة، وتعزّز كفاياتهم في الاستقصاء وتوثيقه.
كلمة أخيرة. لفتتني، كثيراً، حفاوة المغاربة وعاطفتهم ودماثتهم حيال الضيوف الذين حلّوا في ديارهم. وبخاصّة حيالي، كلبنانيّةٍ وحيدة شاركت في هذا المؤتمر في فاس، المدينة التي يعتبرونها عاصمة المغرب الثقافيّة والعلميّة. أمّا أنا، فلقد رافقني الوجع اللبناني طوال الأربعة آلاف ميل التي قطعتها إلى هناك. وكان وجعي يتضاعف، كلّما ألحّ عليّ الصحافيّون المغاربة وهم يسألونني عن أحوال البلد التعيسة (في مقابلاتهم على هامش المؤتمر): “كِيفْ دَايْر الوضع في لبنان”؟ إقتضى أن يُدفَن هذا السؤال عنّا وعن أحوالنا في الحروب تحت سابع أرض و.. إلى الأبد.
(*) لقد أرجأنا نشر هذه المقالة، التي أُعِدَّت غداة اختتام المؤتمر في فاس المغربيّة، بسبب احتلال التطوّرات في سوريا صدارة المشهد الإعلامي منذ مطلع الشهر الجاري.