انتظر أحمد العودة أن يتكشّف المشهد بشكل جليّ عما بدا توافقاً إقليمياً ودولياً لطي صفحة حكم آل الأسد في سوريا إلى الأبد، فكان أن قرّر الانقلاب على التسويات التي عقدها مع النظام قاطعاً صلاته بأجهزة استخبارات الأسد وحليفه الروسي التي كان قد وطّدها خلال السنوات السابقة، وحاصداً في الوقت نفسه “اللحظة التاريخية” بإقدامه على فتح أسوار دمشق مستبقاً قائد عملية “رد العدوان” أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع).
اختار أحمد العودة تسمية معركة “كسر القيود” بهدف الزحف إلى دمشق في إطار ما أسماها “حالة التحرر الوطني الشامل”؛ أول عبارةٍ متلفزة أعلنت انطلاقة العهد الجديد عبر التلفزيون السوري الرسمي، ودخل مكاتب القيادات الأمنية والعسكرية في اللحظات الأولى لفتح دمشق، حيث احتفظ ببعض الملفات الحساسة وأحرق الكثير من السجلات والوثائق الأخرى، مقتحماً البنك المركزي في ساحة السبع بحرات بدمشق، ليظهر عناصر فيلقه في الصور الشامية الأولى في صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول، مصطحبين رئيس الوزراء السوري محمد الجلالي من مقر إقامته إلى فندق “فورسيزن”؛ هناك حيث أعرب الجولاني عن رغبته في إبقاء الأخير في قيادة الحكومة المؤقتة للمرحلة الانتقالية، وهو ما لم يلقَ تأييداً كاملاً حسب ما جاء في تعليقات صحافيين معارضين، ما دفع بالجولاني لاستقدام محمد البشير من إدلب وتكليفه برئاسة الحكومة الإنتقالية.
***
شهدت الساعات والايام الأولى لعملية “كسر القيود” انتشار عناصر “اللواء الثامن” التابع لـ”الفيلق الخامس” بقيادة أحمد العودة على نحو كثيف في شوارع دمشق وأمام مؤسساتها الرسمية ومرافقها الحيوية، واكتساحهم مشاهد الاحتفال الأولى التي كانت تتوالى عقب فرار الرئيس الأسد؛ انتشارٌ أراد عبره العودة التشويش على صورة “هيئة تحرير الشام” على اعتبارها القوة الأكبر التي قامت بمهمة التخلص من نظام الأسد، وذلك بهدف منافستها أو مشاركتها في الوصول إلى سدة الحكم الحقيقي لسوريا.
أما الجولاني الذي استعجل لقاء العودة بعد ثلاثة أيام من وصوله إلى دمشق، فقد أدرك مبكراً هوية منافسه الشرس على صدارة المشهد في دمشق، ولعل ظهور الأحمدين (الشرع والعودة)، جنباً إلى جنب بزييهما العسكريين في مقر وزارة الدفاع السورية أوحى بمشهد صِدامٍ مؤجل بينهما، يختصر صراع الرجلين الأول والثاني، وهو الصراع المتكرر دائماً داخل الحركات الإسلامية التي ندر أن تتوحد أو تندمج.
وبرغم أن قوات “ردع العداون” بقيادة الجولاني وصلت إلى درعا في اليوم التالي بناءً على مخرجات اللقاء بين الرجلين، والتي نصّت على ضرورة إلغاء الفصائلية وتسليم المؤسسات والمعابر (وبينها معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن) إلى جهة واحدة وصولاً إلى حل الفصائل المسلحة استعداداً لدمجها في الدولة السورية الجديدة، إلا أن نشطاء هناك تحدثوا عن أن إرسال ما باتت تعرف بالقيادة العامة أرتالاً عسكرية إلى درعا بهدف تنسيق العمل العسكري والإداري والمدني والأمني مع فيلق أحمد العودة على الأرض في المحافظة التي انطلقت منها الشرارة الأولى للثورة في سوريا، أي لم يكن هناك إستلام ولا تسليم!
***
العودة الذي يأكل على كافة الموائد سعى برغم ذلك للحفاظ على “اللواء الثامن” كقوةٍ إقليمية مدعومة من عدة أطراف، فالرجل الذي دفعه كرهه الشديد لإيران للتحالف مع الروس، عقد اتفاق تسوية مع نظام الأسد، قابضاً في الوقت عينه على علاقات ممتازة نسجها على مدى سنوات مع كل من الأردن والإمارات عبر زياراته المتكررة إليهما
يختلف أحمد العودة عن باقي قادة الفصائل المسلحة في سوريا، فالرجل لم يمتلك سابقاً أي تاريخ في الأعمال القتالية ولم ينخرط في حركات جهادية. بدأ نشاطه المسلح مع “الجيش الحر” ضمن لواء “شباب السنة”، ليتصدر المشهد جنوباً حين انقلب على أقوى فصيلين مسلحين حينها في المنطقة الجنوبية (حركة المثنى وجبهة النصرة) مطارداً إياهما في بعض مدن وبلدات الجنوب بأوامر من غرفة الموك الأردنية.
اشتهر أحمد العودة منذ ذلك الحين ببيع رفاق سلاحه لمن يشتري مقابل الدعم والتعويم، لكن تنامي دوره داخل غرفة الموك دفع بالأخيرة في وقت لاحق إلى تجفيف كل أقنية الدعم اللوجستي والعسكري ليلحق الرجل على نحو مفاجئ بركب التسويات منضماً إلى “الفيلق الخامس” المُشكّل والمُدار من قبل روسيا.
ويُعتبر “لواء العودة الثامن”، الفصيل الوحيد المسلح الذي رفض التوجه إلى إدلب على غرار باقي الفصائل؛ هو تمردٌ على هيمنة “هيئة تحرير الشام” في الشمال دفع في مقابله العودة ما كان بحوزة لوائه من أسلحة ثقيلة ودبابات ومدرعات وأسلحة كيميائية اتهمته موسكو بحيازتها، ليبدأ التنسيق وبشكل تنظيمي مع مخابرات النظام السوري السابق.
العودة الذي يأكل على كافة الموائد سعى برغم ذلك للحفاظ على “اللواء الثامن” كقوةٍ إقليمية مدعومة من عدة أطراف، فالرجل الذي دفعه كرهه الشديد لإيران للتحالف مع الروس، عقد اتفاق تسوية مع نظام الأسد، قابضاً في الوقت عينه على علاقات ممتازة نسجها على مدى سنوات مع كل من الأردن والإمارات عبر زياراته المتكررة إليهما، حيث وضع اللمسات النهائية على مشروع إقامة جيش حوران الموحد؛ لكن مقبولية العودة لم تقتصر على تلك الأطراف فقط، فالرجل الذي كان يتحكم بسجون عديدة في الجنوب على غرار معتقلات الجولاني في إدلب، لا يجد نفسه مضطراً لتلميع صورته، دولياً واقليمياً، حيث سبق للعودة أن كان شريكاً “محلياً” للقيادة المركزية للجيش الأمريكي خلال عملية تصفية زعيم وقيادات تنظيم “داعش” في الجنوب، وهي العملية التي قُتل فيها القيادي “الداعشي” عبد الرحمن العراقي، المُلقّب بـ”أبو الحسن الهاشمي القرشي”.
وسبق لأحمد العودة أن برز كطرفٍ في نقاش أمريكي إقليمي حول إمكانية العمل على إنشاء منطقة آمنة في الجنوب السوري، بالاستناد إلى فصائل مسلحة معارضة هدفها إبعاد “الميليشيات الإيرانية” عن حدود الأردن وإسرائيل، وهو ما لم يحدث لاحقاً. وهنا تبرز تل أبيب كحليفةٍ غير معلنةٍ كذلك للعودة. فإلى أي حد سيصح قول البعض إن العلاقات مع إسرائيل هي العنصر الحاكم الذي سيُحدّد هوية رجل سوريا الجديدة بعد انتهاء المرحلة الإنتقالية.. وليس الآن؟