ما هي أولويات “سوريا الجديدة”.. إقتصادياً وإجتماعياً؟

تستحق بعض الإجراءات الإقتصادية، التي أطلقتها حكومة تيسير الأعمال الحالية في سوريا سريعاً، بعض النقاش، لا سيما وأنّ الأحوال المعيشيّة في شتّى أنحاء البلاد متدهوِرة منذ زمنٍ طويل والنشاطات الاقتصادية متدنيّة إلى أقصى الحدود. نقاشٌ برغم ضرورة تفهّم أنّه لا يُمكِن الحكم على سياسات مضى عليها أقلّ من شهر مقابل تركة ثقيلة لسنينٍ وعقود. كما لا معنى لرسم طموحات كبيرة دون تبيان الاستراتيجيّات للوصول إليها والأولويّات التي تجب معالجتها.

لقد خلقت التصريحات حول أنّ الاقتصاد في سوريا سيكون اقتصاداً حرّاً وأنّه سيتمّ ضمان تأمين الكهرباء والمحروقات للمعامل سريعاً الكثير من الارتياح. ارتياحٌ ترافق مع الإعلان عن إلغاء رسوم جمارك الاستيراد وانفلات بضائع البلدان المجاورة، وبخاصّةً تركيا، في الأسواق بأسعارٍ أكثر تنافسيّة بكثير من البضائع المحليّة الذي ما زال إنتاجها يعاني من صعوبات المرحلة السابقة.

في هذا السياق، برز السؤال عمّا هو المقصود بـ”الاقتصاد الحرّ”؟ أهو الانفتاح الكامل على الأسواق العالميّة (الذي تتراجع عنه حتّى الولايات المتحدة اليوم) أم أنّ الاقتصاد السوري سيكون خالياً من الاحتكارات على الصعيد الداخليّ؟

لقد تراجعت حكومة تيسير الأعمال عن إلغاء الرسوم الجمركيّة لكنّها سهّلت المعاملات. وفعلاً من الصعب تحقيق الانفتاح التجاري على الخارج في ظلّ العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي تمّ تمديدها لخمس سنوات (حتى العام 2029). وفي الواقع سيؤدّي مثل هذا الانفتاح إلى تقوية اقتصاد شبكات الالتفاف على العقوبات انطلاقاً من تركيا بعد أن ضَعُفت شبكات لبنان. وما تعني ترجمته الاتجاه المعاكس لحرية وعدالة التبادلات مع الخارج.

تكمُن الأولويّة الكبرى اقتصادياً في تأمين الكهرباء والطاقة في ظلّ استمرار العقوبات. وهنا يُمكِن التعاون مع لبنان ومصر لتفعيل عقد البنك الدولي لاستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن، بالإضافة إلى الجهود الحالية مع تركيا وقطر. وبالتأكيد يجب تسخير موارد النفط والغاز السوريّ لخدمة جميع السوريين، مع أنّه واضحٌ أنّها لن تكون كافية على المدى المتوسّط

وفي إطار الحريّة الاقتصادية الداخليّة، ليس واضحاً وضع الشركات الاحتكاريّة والريعيّة الكبرى. إذ أشارت الحكومة لشركة الهاتف الخلوي “سيرياتيل” التي كان يهيمن رامي مخلوف على إدارتها، ومن ثم أسماء الأسد وأزلامها، وكذلك لشركة MTN الموضوعة تحت الحراسة القضائيّة، بالاستمرار بالعمل وأنّ أرباح الإيرادات ستذهب من الآن فصاعداً إلى ميزانيّة الدولة. هكذا دون توضيح ما إذا كان هذا الإجراء تأميماً أم استحواذاً للدولة على حصص مهيمنة على رأسمالهما، علماً أنّ جزءاً هامّاً من أسهم الشركتين أتى من اكتتاب عام للمواطنين. والأمر ذاته بالنسبة لشركة “وفاتيل” التي كانت قد مُنِحَت مؤخّراً ترخيص مشغّلٍ ثالث للهاتف الخليوي والتي يُعرَف أنّ أغلبيّة أسهمها عبارة عن استثمار إيرانيّ تحت غطاء ماليزيّ. كما أنّ هناك في سوريا “هيئة ناظمة للاتصالات والبريد” تضبط هذا القطاع، وما زال من غير الواضح كيف سيتمّ وضع شركات الاتصالات التي كانت تعمل في المناطق المسمّاة “محرّرة” سابقاً (إدلب)، مثل شركة “سيريافون”، ضمن الإطار الناظم السوريّ وكيف ستتفاعل مع الشركات الأخرى القائمة في مناطق “النظام” سابقاً؟ وكيف أيضاً سيتمّ تدريجياً ضبط التعامل في مجال الاتصالات مع الدول المجاورة؟

قطاع الاتصالات ليس القطاع الاحتكاري الريعي الوحيد. ووضوح التعامل مع هذه القطاعات هو الذي سيُعطي حقّاً المصداقيّة حول حريّة الاقتصاد وعدالة نشاطاته.

من ناحية أخرى، تمّ منع تحريك أموال الشركات في المصارف السورية حتّى يتمّ توثيق حقيقة هذه الشركات وألاّ تكون وهميّة. مثل هذا الإجراء يُمكِن اتخاذه ضمن آليّة لحماية المصارف السوريّة العاملة وأموالها، وبخاصّةً تبيان إن كانت القروض الممنوحة في فترة الصراع وما رافقها من فسادٍ كبير قد أدّت إلى اختلال ميزانيّات المصارف وضياع مدخّرات المواطنين فيها. وبالطبع يتعلّق الأمر أكثر بالمصارف الحكوميّة التي كانت تخضع مباشرةً لتدخّلات السلطة، لا سيما وأنّ الميزانيّة الإجماليّة للمصارف السوريّة قد انخفضت قيمتها الحقيقيّة إلى أقلّ من 15% من قيمتها عام 2010، علماً أنّ عودة النشاط المصرفي على صعيد المدخّرات والقروض على السواء ضروريٌّ للنهوض بالاقتصاد.

تجدر الإشارة إلى أنّ خبراء أوروبيين كانوا قد ساعدوا مصرف سوريا المركزي في وضعٍ أطرٍ ناظمة محدثة للمصارف السورية تعدّ من الأفضل في المنطقة. وبالتأكيد سيساهم تطبيقها بشكلٍ فعّال وشفّاف في استعادة صحّة هذا القطاع والاقتصاد، بما في ذلك مصارف القروض المنتهية الصغر التي كانت “الأمانة العامّة للتنمية” بإدارة أسماء الأسد تهيمِن على أحدها (مصرف “الوطنيّة”) والتي ينبغي أن تلعب دوراً رئيسيّاً فيما يسمّى “الإنعاش المبكِّر” وتنشيط الأعمال الصغيرة والمتوسّطة. والمفترض أن تشمل تراخيص ورقابة المصرف المركزي “بنك الشام” الذي يعمل في إدلب (وتطبيق “شام كاش” للدفع والتحويلات)، في حين تتضارب التسمية مع “بنك الشام الإسلاميّ” المُرخّص حالياً.

بالتوازي، ترافق التغيير في سوريا مع فتح التعامل بالعملات الخارجيّة، وبخاصّةً الدولار الأمريكي والليرة التركية. وقد رخّصت حكومة تيسير الأعمال رسميّاً بذلك، على غرار لبنان عدا أغلب البلدان العربيّة والعالميّة. هذا الأمر يخلق مخاطر على المدى المتوسّط من تحوّل سوريا إلى اقتصاد “كاش”، لا يُمكِن ضبط آليّاته وأسعاره. صحيحٌ أنّ سعر صرف الليرة السورية قد تحسّن نسبيّاً، لكن بفعل ضخامة حجم العملات الخارجيّة المتداولة ونقص السيولة بالليرة السوريّة. صحيحٌ أنّ الأسعار انخفضت نسبيّاً برغم تحرير أسعار البنزين وغيره من المحروقات، مع السماح بدخول البضائع الأجنبيّة حتّى الغذائيّة بشكلٍ كبير.. إلاّ أنّ شبح التضخّم قائمٌ بقوّة مع ضعف مداخيل الفئات الشعبيّة.

تكمُن الأولويّة الكبرى الأخرى في تثبيت مناخ الثقة في السياسات والمؤسسات بترسيخ التعامل بمنطق الدولة المسؤولة عن جميع المواطنين وجميع المناطق من دون تمييز، بدايةً بمناطق إدلب التي أتت من سياقها حكومة تيسير الأعمال الحاليّة

وقد دفع نقص السيولة بالعملة السوريّة الحكومة إلى إجراءات تدقيق في العمالة الزائفة في القطاع العام بغية صرف الأجور محسّنة (+400%؟) بسرعة للموظّفين “الحقيقيين” الذين يبذلون جهوداً كبيرة في المرحلة الحالية. لأنّ هناك تبايناً كبيراً في الأجور بين مناطق “النظام” سابقاً وبين أجور “حكومة الإنقاذ” في إدلب وأجور المنظّمات غير الحكوميّة المموّلة من الخارج (كمؤسسات SAMS وUSSOM الطبيّة، أو “القبّعات البيض” الإغاثيّة). وهذا أيضاً تحدٍّ حقيقي لتوحيد الأوضاع بين مختلف المناطق السوريّة والعمل على تأمين الحياة الكريمة والطبابة والإغاثة لشعبٍ يرزح أكثر من 80% منه تحت خطّ الفقر. وفي هذا السياق، لا بدّ من الشروع سريعاً في تأسيس نظام تأمينٍ صحيّ عام يضمن الخدمات الصحيّة للأكثر فقراً في ظلّ تحرير القطاع الصحيّ الذي بدأ منذ عقدين.

إقرأ على موقع 180  "صندوق الشيطان" (*)

بالطبع تكمُن الأولويّة الكبرى اقتصادياً في تأمين الكهرباء والطاقة في ظلّ استمرار العقوبات. وهنا يُمكِن التعاون مع لبنان ومصر لتفعيل عقد البنك الدولي لاستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن، بالإضافة إلى الجهود الحالية مع تركيا وقطر. وبالتأكيد يجب تسخير موارد النفط والغاز السوريّ لخدمة جميع السوريين، مع أنّه واضحٌ أنّها لن تكون كافية على المدى المتوسّط. وتكمُن الأولويّة الكبرى الأخرى في تثبيت مناخ الثقة في السياسات والمؤسسات بترسيخ التعامل بمنطق الدولة المسؤولة عن جميع المواطنين وجميع المناطق من دون تمييز، بدايةً بمناطق إدلب التي أتت من سياقها حكومة تيسير الأعمال الحاليّة. وسيساعد التوصّل إلى حكومة انتقاليّة سريعاً، أي قبل مضيّ ثلاثة أشهر، “ذات مصداقية وتشمل الجميع”، في تثبيت الثقة داخليّاً وخارجيّاً وترسيخ قرارات أبعد من “تيسير أعمال”!.

لقد فشلت المرحلة الانتقاليّة بعيد “الثورة” في تونس، بين 2011 وانتخابات 2014، في وضعٍ أسسٍ اقتصاديّة وماليّة “لحماية مكتسبات الثورة”. وقد أدّى هذا الفشل واستفحال التوتّرات بين التيارات السياسيّة إلى تعطيل إمكانيات الدولة في الفترة اللاحقة لإعادة إطلاق النموّ الاقتصادي وتحفيز الاستثمار وتوطين الكفاءات وتفادي هجرتها. هكذا تنبغي الاستفادة من دروس البلدان الأخرى وبالطبع التعاون مع الدول التي تريد أن تساعد، وبخاصّةً إذا كان منطق تعاونها هو منطق التعاون بين دول.

الخطوات التي يتمّ العمل عليها اليوم هي التي تُؤسّس لما ستكون عليه الأمور غداً. وضرورة الاستعجال يُلقي عبئاً كبيراً لا يُمكِن الاستهانة به. ويبقى الاستقرار الاقتصادي والمعيشي لبنة أساسيّة للنموّ الاقتصاديّ وللسلم الأهلي.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تصنيع الجهل.. لبنان نموذجاً!